الساحِرة...

فتحَت أمّي عَينَيها وسط عائلة تؤمِن بالسحر الأبيض، أيّ السحر الذي يشفي ويُريح البال والجسَد ولا يُستعمَل للأذيّة والثأر. فالجدير بالذكر أن جدّتي كانت معروفة باستخدامها الأعشاب والمراهم والحجابات، ومشاركة معرفتها في هذا المجال مع مَن يطلُب منها ذلك. إلا أنّ الناس فضّلوا ترك ذلك العِلم لها، إمّا عن خوف أو ثقة عمياء فيها. لِذا، لقّنَت جدّتي أسرارها لابنتها البكر، أي والدتي، التي وجدَت نفسها وريثة تلك المعرفة بالرّغم عنها. وبما أنّ جدّتي لَم تكن تُحسِن الكتابة، دوّنَت إبنتها الوصفات والصلوات والطقوس في دفتر أسوَد اللون، واحتفظَت به وكأنّه أغلى شيء عندها على الإطلاق. وعند موت العجوز، ورِثَت أمّي الدفتر وأسراره، وصارَ الناس يأتون إليها لمُداواة أوجاعهم الجسديّة والنفسيّة. للحقيقة، لا أدري إلى أيّ مدى كان يصل مفعول تلك الوصفات التي كانت بمعظمها طبيعيّة ومِن الأعشاب، فلَم أكن قد ولِدتُ بعد.

تعرّفَت والدتي على أبي بعد أن خافَت عائلتها أن تبقى عزباء أو بالأحرى "عانسًا"، فأقنعوها بالإقتران برجُل رصين ومُقتدِر مع أنّه كان يكبرُها بسنوات عدّة. وبالرغم مِن رغبتها بالبقاء بين أعشابها العزيزة والاستمرار بمُساعدة أهل قريتها، قبِلَت والدتي أخيرًا بأبي. وبعد حوالي السنة وُلِدتُ أنا.

ما أذكرُه مِن طفولتي هو الحزن المرسوم على وجه أمّي، فهي لَم تكن تبتسِم سوى لي وليس كلّ الوقت. أمّا والدي، فكان مليئًا بالإمتعاض الدائم حيال كلّ شيء خاصّة زوجته. لاحقًا فهمتُ أنّه كان يخافُ منها، فقرَّرَ اتّخاذ موقف صارِم وعدائيّ منها.

وهكذا كبرتُ وسط صراخ زوج قاسٍ، وبكاء زوجة مأسورة ضمن أربعة جدران. كنتُ سلوَتها الوحيدة بعدما هي قرّرَت عدَم الإنجاب مِن بعدي، على الأرجَح كَي لا يكبر ولد آخَر في هكذا أجواء سلبيّة. أمّا أنا فكانت المدرسة نافذتي الوحيدة على الدنيا، وكانت الأعياد والعطلات بمثابة تعذيب لا يُطاق.

وذات يوم دقَّ بابنا رجُل،، ففتحَت له أمّي الباب وأدخلَته بسرعة. لا تُسيؤوا الظنّ، فوالدتي كانت بغاية الشرَف والأخلاق. وذلك الزائر كان يُعاني مِن أوجاع عديدة، وقصَدَ والدتي لتجِدَ له الشفاء المرجوّ، ففتحَت دفترها الأسوَد ثمّ تمتمَت صلوات عديدة، وأعدَّت له شرابًا مِن الأعشاب أضافَت إليه بضع قطرات مِن زجاجة صغيرة كانت تُخبّئها في درجها. بعد ذلك، غادَرَ الضيف، لكنّ أمّي لَم تقبَل أخذ المبلَغ الذي عرضَه عليها قائلة: "لَم أفعَل شيئًا، بل الخالق والطبيعة. إذهَب بسلام ولا تعُد إلا إذا لَم تتحسّن حالتكَ". لَم يعُد الرجُل بل صارَ الناس يأتون إلينا، أثناء غياب أبي طبعًا.

كنتُ أعلَم أنّ ما يحصل يجب أن يبقى سرّيًّا، فأمّي نبّهَتني:

 

ـ إيّاكِ أن يعرفَ أبوكِ بشيء وإلا سيغضبُ كثيرًا، وتعلمين كيف يكون في هكذا حالة.

 

ـ أعلَم يا ماما... قولي لي... لماذا تتحمّلين مُعاملة أبي لكِ؟

 

ـ مِن أجلكِ يا صغيرتي، فماذا سيحصلُ لنا إن رحَلنا؟

 

ـ نعيشُ مِن مداواتكِ للناس.

 

ـ أمّي لَم تأخذُ يومًا مالاً مِن أحَد وأنا لن أفعَل، وإلا أكون أتقاضى أجرًا حرامًا.

 

ـ لكنّ البعض يقولُ إنّ ما تفعلينَه هو حرام.

 

ـ ما الذي أفعلُه؟ ألتلفّظُ بآيات حميدة طالبة مِن الله شفاء الناس؟ أغلي بعض الأعشاب الموجودة في كلّ مكان؟ أين الحرام في ذلك؟ ألستُ أفضل مِن الأطبّاء الذين يصفون أدوية مُعظمها مصنوع مِن مواد طبيعيّة، ولا يرحمون الفقراء الذين لا مال لهم؟ هل هؤلاء الأخصّائيّون يلفُظون إسم الله حين يُداوون مرضاهم؟ بل يُفكرّون كيف سيصرفون المال وعلى مَن.

 

ـ وماذا عن تلك الزجاجة الصغيرة؟

 

ـ إيّاكِ أن تلمسيها! فما في داخلها سامّ للغاية!

 

ـ لكنّكِ وضعتِ منها للرجُل!

 

ـ أجل، قطرتان فقط، فأكثر مِن ذلك قد يُسبّبُ له الموت.

 

ـ أهو سمٌّ؟!؟

 

ـ أجل ولا... فالطبيعة سخيّة وتُعطي الإنسان ما هو بحاجة إليه، لكنّها لا ترحَم. مِن هنا أهمّيّة معرفة المُكوّنات والمقادير. إنسي أمر الزجاجة!

 

لكنّ والدي علِمَ بأمر المرضى الذين يقصدون أمّي بسبب أحدهم الذي، لكثرة فرَحه بشفائه، راحَ ينشرُ الخبَر بالرغم مِن وعده بحفظ السرّ. وهكذا عادَ أبي مساءً أحَد الأيّام والشرّ يملأ عَينَيه. هو لَم يكتفِ بالصراخ على أمّي وشتمها ومناداتها بالساحرة اللعينة، بل أخَذَ حزامه وبدأ يجلدُها بشراسة. حاولتُ إزاحته، عنها لكنّه صفعَني وشتمَني وقال لي: "إبتعدي عنّي! فأنتِ بذرة ساحرة وستكبرين لتصيري مثلها... يجدرُ بي قتلكما سويًّا!". وأفظَع ما في الأمر، هو أنّه كان يعني تمامًا ما قالَه، فلقد رأيتُ ذلك في عَينَيه وكذلك والدتي. إلا أنّني لَم أستسلِم بل أجبتُه صارخةً:

 

ـ أمّي ليست ساحرة، فالسِحر يتطلَّب استعمال وسائل شرّيرة، أمّا هي، فتطلُب مِن الله شفاء هذا المريض أو ذاك وتُعطيه دواءً طبيعيًّا، الدواء نفسه الذي استعملَه الانسان قَبل ظهور الطبّ التقليديّ. يجدرُ بكَ أن تفتخِر بزوجتكَ يا أبي، وليس تعنيفها وتحجيمها... أم أنّكَ خائفٌ منها؟

 

ـ أيّتها الساقطة!

 

وبدأ أبي بجَلدي بالحزام بعنف لا مثيل له، فسحبَتني أمّي مِن تحت يدَيه وقالَت له: "إضربني أنا بدلاً عنها". عندها ركضتُ إلى غرفتي وأقفلتُ الباب بالمفتاح، وبدأتُ أبكي مِن الخوف ومِن صوت صراخ أمّي مِن كثرة ألَمها. وعندما تعِبَ والدي مِن الضرب والجَلد، تركَها أخيرًا وراحَ خارجًا يلتقي بأصحابه وكأنّ شيئًا لَم يحصل. خرجتُ مِن غرفتي وعانقتُ المسكينة التي كادَت أن يُغمى عليها مِن شدّة الألَم، وجلَسنا مُتعانقتَين لأكثر مِن ساعة. ثمّ قامَت والدتي ورافقَتني إلى الحمّام، وأخذنا سويًّا حمّامًا ساخنًا ثمّ خلَدنا إلى النوم.

في صباح اليوم التالي، وجدتُ والدتي في المطبخ بحالة جيّدة، لا بل مُرتاحة، فتعجّبتُ لهذا المزاج الغريب. سألَتني:

 

ـ ما رأيكِ بعجّة لذيذة؟ سأضعُ فيها الخضار والتوابل وكلّ ما تُحبّينَه.

 

ـ فكرة جيّدة... أين أبي؟

 

ـ هو عادَ مُتأخّرًا للغاية ورائحة الكحول تفحُّ منه. إنّه لا يزال نائمًا وسيستيقظُ بعد قليل للذهاب إلى عمَله. أُريدُ منكِ أن تتصرّفي بشكل طبيعيّ معه عندما يوصلُكِ إلى المدرسة. إتّفقنا؟

 

ـ حسنًا.

 

تناولَ أبي فطوره مع أمّي بينما رحتُ أُجهِّز نفسي للمدرسة.

حاولتُ عدَم النظر إلى الوحش حين جلستُ بالقرب منه في السيّارة، وهو لَم يُوجِّه لي الكلام. دخلتُ المدرسة وهو ذهَبَ إلى عمَله.

عندما عدتُ إلى البيت مع أبناء الجيران، وجدتُ أناسًا كثيرين في بيتنا والبعض يُحيط بوالدتي ويواسونَها. ثمّ أخذَني أحَد أقاربنا جانبًا وأخبرَني أنّ والدي ماتَ أثناء قيامه بعمَله مِن أزمة قلبيّة حادّة. ركضتُ إلى أمّي وعانقتُها. هل كنتُ حزينة على أبي؟ للحقيقة لا، بل شعرتُ بارتياح شديد. نظرتُ إلى أمّي، ووجدتُها أيضًا مُرتاحة وكأنّ وزرًا كبيرًا أُزيحَ مِن صدرها.

دفنّا أبي بسرعة، وعدتُ وأمّي إلى البيت وخلَعنا ملابسنا وجلَسنا سويًّا بصمت. ثمّ هي قالَت لي: "كان سيقتلُنا يومًا، فالشرّ يسكنُ قلبه... لا تحزني".

لا أدري لماذا، لكنّني علِمتُ الحقيقة، علِمتُ ما جرى، وكان عليّ التأكّد. لِذا رحتُ إلى غرفة أمّي وفتحتُ درجها فوجدتُ الزجاجة الصغيرة فارغة. لَم أقُل لها شيئًا على الإطلاق، فقد أكون مُخطئة، مع أنّني شعرتُ أنّني على حقّ. فهناك إحتمال بأن تكون أمّي قد أوقعَت الزجاجة وهي مفتوحة ففرغَت مِن محتواها، أو أنّها قرّرَت التوقّف عن مُداواة الناس منها فتخلّصَت مِن المحلول.

عشنا سويًّا بهناء، فوالدتي كانت الحبّ بحدّ ذاته، ولَم أسمَع يومًا أحدًا يتكلّمُ بالسّوء عنها. بقيَت والدتي تُريحُ الناس مِن أوجاعهم إلى أن كبرَت في السنّ.

هي أرادَت تلقيني معرفتها، إلا أنّها تراجعَت في آخِر لحظة قائلة: "لا... فقد تقَعين على مَن يُشبه أباكِ... يكفي أن تُحبّي الناس وتشعُري معهم حين يُعانون مِن ألَم شديد أو ضياع". ثمّ هي أخذَت الدفتر الأسوَد وأحرقَته أمامي. شعرتُ أنّ قسمًا كبيرًا مِن تاريخي يتبخّر مع الدخان الذي تصاعَدَ مِن الدفتر، فلقد حمَلَته جدّتي ومِن ثمّ أمّي، وعنى لهما الكثير. لكنّني فهمتُ أنّ على تلك السلسلة أن تُكسَر أخيرًا.

دخلتُ كلّيّة الطبّ، فكان حبّ مُداوة الناس يجري في دمي، وتعرّفتُ هناك إلى الذي تزوّجتُه لاحقًا. لَم تستفِد أمّي مِن إختصاصي الجديد، فهي لَم تمرض يومًا، بل غادرَت هذه الدنيا في إحدى الليالي أثناء نومها وبعد أن فرِحَت بي وبقدوم مولودي.

هل أنّها قتلَت أبي بواسطة ذلك المحلول؟ لن أعرِفَ أبدًا، لكن لو هي فعلَت حقًّا، فذلك لحمايتي مِن إنسان مريض نفسيًّا ويعشقُ الأذيّة. هي حمَتني، تمامًا كما قد تفعلُ أيّة لبوة عندما يأتي مُفترِسٌ لأذيّة صغارها. كيف سيحكمُ الله عليها، لستُ أدري. لكنّني أعلَمُ أنّ الربّ بِيَده ميزانًا إلهيًّا يزينُ فيه أعمالنا الحسنة والسيّئة، وأنا أثِقُ بحكمته المُطلَقة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button