الركض وراء السراب

عادةً يُكّرِسُ الأهل حياتهم لأولادهم، لكنّ مجيئي إلى الدنيا كان بلا شكّ أمرًا بديهيًّا عليه أن يحصل بعد الزواج. فوالدايَ كرّسا حياتهما لنفسهما ولتحقيق حلمهما ولَم يكن هناك مِن مكان لي فيه. فيوم وُلِدتُ رُميتُ في أحضان إمرأة غريبة مهمّتها الحلول مكان والدتي: العاملة الأجنبيّة. وخلال سنواتي الأولى، ظننتُ حقًّا أنّها والدتي ولَم أمانِع، إلى حين لاحظتُ الفرق بيني وبينها مِن حيث لون البشرة والملامح. أمّا بالنسبة لوالدَيّ، فكنتُ أحسبُهما أصدقاء أو أقارب ينامان في بيتنا ليغيبا باقي الوقت. فبالكاد كانا يلقيان نظرة عليّ ويتكارمان بابتسامة أو بكلمة صغيرة لي، ومِن ثمّ يدخلان غرفتهما حيث يختفيان.

ثمّ أنجبَت أمّي ولدًا ثانيًا، ليس حبًّا بالأولاد بل لأحظى برفيق، خاصّة أنّ العامِلة عادَت إلى بلدها مُنهكة والدموع في عَينَيها على فراقي، فكنتُ حقًّا بمثابة إبن لها. جاءَت إمرأة أخرى، أيضًا مِن بلد آخَر. سُرِرتُ لوجود تامر أخي، فاعتبَرتُه دمَيتي الخاصّة بي، وانتظرتُ بفارغ الصبر أن يكبرَ قليلاً لأستطيع التواصل وإيّاه واللعب معه. دخلتُ المدرسة، وهناك إستوعَبتُ أنّ باقي رفاقي كان لهم أباء وأمّهات عاديّون، يقومون معهم بنشاطات عديدة ويقضون معهم الكثير مِن الوقت. في تلك الحقبة، أدركتُ أنّني وأخي وُلِدنا لعائلة غير تقليديّة وأنّنا بالفعل وحيدان. ونَما في قلبي شعور بالمسؤوليّة الذي حملتُه طوال حياتي ولم يكن يجدرُ بي التفكير به في هكذا سنّ مُبكِر. لكن لماذا ومِن أجل ماذا أهمَلنا والدانا؟

 

للحقيقة، كانت أمّي مُطرِبة مِن الدرجة الثانية، لا بل الثالثة، فهي لَم تلقَ يومًا الشهرة التي ركضتَ وأبي وراءها. فبالرغم مِن جمالها وجاذبيّتها، لَم يكن صوتها مُميّزًا، بل العكس. والدي هو الذي أعطاها آمالاً خاطئة وشجّعَها على المضيّ بتلك المُغامرة حين كانا مخطوبَين، وهو الذي دبَّرَ لها أن تُغنّي في بعض المطاعم والحانات لأنّه كان فردًا مِن فرقة موسيقيّة رافقَت المُطربين مِن حين لآخَر. أنا مُتأكّد مِن أنّه أرادَ أن يخرج، مِن خلال أمّي، مِن الظل، مُعتقدًا أنّه عبقريّ وموسيقيّ ومُدير أعمال فنيّة مُميّز. لكنّه كان إنسانًا محدود القدرات، ويا لَيته بقيَ في فرقته وترَكَ أمّي تهتمّ بعائلتها لكُنّا قد عشنا سعداء. نجَحَ والدي في بادئ الأمر بالحصول على عقود صغيرة لكن مُربِحة، الأمر الذي عزَّزَ ثقته بمشروعه، فهو سافَرَ وزوجته إلى بلدان الخليج العربيّ حيث رَفَّها عن نزلاء الفنادق وروّاد المطاعم، وقدّما الجزء الأوّل من عروض الفنّانين الحقيقيّين. حصدا المال لكن ليس الشهرة، واكتفيا بذلك بانتظار أن يعترفَ العالم بأسره بمهارتهما. الأمر المُحزن، هو أنّ أقاربهما وأصدقاءهما شجّعاهما على المضيّ بتلك المغامرة، مع أنّ الواقع كان جليًّا لكلّ مَن امتلكَ أذنَين: والدتي لَم تكن مُغنّية بارعة وزوجها ليس بموسيقار موهوب. هل غشَّهما مُحيطهما عن قصد أو خجلاً منهما، أم أنّ الناس إعتادوا على تدنّي مُستوى الطرَب العربيّ؟ لستُ أدري.

وضعَني والدايَ وتامر في مدرسة داخليّة، ليَنسيانا بسرعة راكضَين وراء الشهرة في الخارج، شهرة لن يراها أبدًا. وكبرنا في مؤسّسة أعطَتنا إهتمامًا قليلاً، لكن أكثر مِمّا كنّا سنحظى به مِن قِبَل أمّنا وأبينا. وفي تلك المدرسة، أعطَيتُ كلّ جهدي لبلوغ حدّ مِن التعليم يُمكّنُني يومًا مِن العَيش بإستقلاليّة، بعيدًا عن مجنونَين لا قيمة لهما إلا لشخصَيهما. إهتمَمتُ بأخي الصغير وأعطَيتُه كلّ حناني وحبّي، عالِمًا تمام العِلم أنّني كلّ ما تبقّى له.

 

مرَّت السنوات ولَم نرَ "الفنّانَين" سوى خلال الأعياد حيث كنّا نلتقي جميعًا في بيتنا، وهو مكان غابَت عنه الذكريات العائليّة التي يملكُها كلّ أولاد العالَم. كانا يأتيان لنا بالألعاب والملابس التي لَم تكن مُناسبة لسنّنا أو لِمقاسنا، فهما لَم يُدركا أنّنا كبرنا.

في تلك الأثناء، وكما علِمتُ لاحقًا، إستثمرَت أمّي "مواهبها" في مجال آخَر، عندما رأت أنّها لا تجني ما يكفي مِن الغِناء. وذلك المجال كان غير مُشرِّف على الأطلاق. وأفظَع ما في الأمر، هو أنّ أبي كان مَن يبحثُ لها عن زبائن حين يجولُ على الحانات والفنادق مُتغنّيًا بمحاسِن التي أسماها "لؤلؤته الثمينة". أجل، قرأتم جيّدًا، والدتي مارسَت البغاء بمساعدة زوجها ولَم يرَيا أيّ خطَب في ذلك. ولَم يُفضَح أمرهما لأنّهما كانا نكرة في عالم الترفيه والطرَب. لكنّ شرطة الآداب إعتقلَت أمّي ذات يوم واضطرّ أبي أن يدفع كلّ مدخّراتهما لإخراجها بكفالة. بعد ذلك، عملَت والدتي بكدّ ليسترجِعا ذلك المبلغ وبطريقة سرّيّة أكثر لتفادي ما حصَل.

 

دخلتُ الجامعة ودرستُ الهندسة، وفي عقلي الباطنيّ كنتُ بحاجة إلى التعمير والابتكار، وكأنّني بذلك أُشيدُ مِن خلال المباني التي أرسمُها، عائلة مُدمّرة وحلم سعادة لن يرى النور. بعد سنوات قليلة، دخَلَ تامر الكلّيّة نفسها لنعمل لاحقًا سويًّا، فكان بيننا رابط لا يجب فكّه وإلا خسِرنا كلّ شيء.

مِن جانبها، بدأَت علامات الكبَر تظهرُ على أمّي، فخفّ الطلَب عليها، ولَم تعُد قادرة على عَيش الحياة التي اعتادَت عليها. فباتَ المكوث في الفنادق باهظًا خاصّة في الخارج، لِذا عادَ والدايَ إلى البلد مُحبطَين. كنتُ أعيشُ وتامر في بيتنا بعد أن تعلّمنا الطهو والأعمال المنزليّة وبتنا نهتمّ بأنفسنا جيّدًا. لِذا لَم نرَ بعَين إيجابيّة عودة هذَين الشخصَين. أقول "شخصَين" لأنّنا لَم نكن نشعرُ تجاههما بأيّة عاطفة خاصّة، لا بل نكنُّ لهما برودة ممزوجة بالامتعاض. لماذا عادا في حين صِرنا نسيرُ على الخطى التي رسمناها ونعيشُ بتوازن نفسيّ لا بأس به؟

سُرَّت أمّنا بطريقة إهتمامنا بالبيت، ورأَت في ذلك فرصة لِترك المهام لنا بينما تجولُ وأبي على أماكن السهَر بحثًا عمَّن يقبلُ بها كمُغنّية أو أي شيء آخَر. فهما لَم يستسِلما، وفي آخِر المطاف، هذا ما كانا يُجيدان فعله. غنَّت والدتي في أحد المطاعم ورافقَها أبي بعزفه، لكنّ ذلك لَم يجلُب لهما المال أو الشهرة أو حتى المُتعة الذاتيّة. كانا قد تعوّدا على الحياة الصاخبة والمُغامرات.

بدأتُ العمَل في شركة هندسة، واجتهدتُ كي يأتي يوم وأقيمُ شركتي الخاصّة مع أخي، لكنّني كنتُ أعي مخاطر الركض وراء السراب بفضل والدَيّ اللذَين خسِرا نفسهما. لِذا صبرتُ واختبرتُ وخطّطتُ بتأنٍّ، وكذلك تامر الذي وثِقَ بي ولحقَ بي في العمَل والمُثابرة.

وذات يوم رحَلت أمّي مع رجُل تعرّفَت إليه في إحدى السهرات، والذي وعدَها بحياة جميلة شرط أن تترك كلّ شيء مِن أجله. وهي سافرَت معه بعيدًا ناسيةً أن تودِّع إبنَيها وبالطبع زوجها. أبي، مِن جهته، شعَرَ بالغضب والامتعاض، فهو الذي عرّفَ أمّي على الرجُل، لكنّه لَم يتصوّر أن تتركه مِن أجله. ألَم يفعل المُستحيل مِن أجلها مذ تعرّفا إلى بعضهما وخطبا وتزوّجا وأنجَبا؟!؟

رحَلَ أبي أيضًا، الأمر الذي أراحَنا إلى أقصى درجة. فليذهبا إلى الجحيم! خاصّة أنّني كنتُ قد علِمتُ أنّ سيرة حياة والدَيّ لَم تكن مُشرِّفة، بل العكس تمامًا!

 

مرَّت سنوات عديدة، وأسَّسنا شركتنا الخاصّة بعدما اكتسبتُ وأخي الخبرة اللازمة وبدأنا بالعمَل. إتّضَحَ لي أنّني موهوب في فنّ الهندسة، فأطلقتُ العنان لمُخيّلتي ومهاراتي. تامِر لَم يكن يملكُ شطارتي، فاستلَمَ القسم الإداريّ للشركة ومُهمّة إيجاد الزبائن والاعلان عن إنجازاتنا. بدأ المال يدخلُ جيوبنا، وبدأَت سمعتنا تصل إلى آذان الأثرياء والمؤسّسات والإدارات. لَم نسمَع أيّ خبَر عن والدَينا ولَم نسأل عن أيّ منهما. وفي قرارة نفسي، وأخجَل مِن قول ذلك، تمنَّيتُ أن يكونا قد ماتا في مكان ما مِن العالَم. فحتّى ذكرهما كان عبئًا عليّ مع أنّهما كان لدَيهما لقب أبديّ صعب تجريدهما منه: "أمّ وأب". وحده الموت كان قادرًا على محو ذلك اللقَب، على الأقل مِن معناه الفعليّ.

وصلَني ذات يوم خبَر مفاده أنّ والدَيّ في بلَد مُجاور وأنّهما بخير. كان أبي قد وجَدَ أمّي وأقنعَها على ما يبدو بترك عشيقها. أظنُّ أنّهما كانا مُتحابّان بالفعل، بالرغم مِن أنّ أمّي عاشرَت عدَدًا لا يُحصى مِن الرجال، وبالرغم مِن أنّ أبي كان مَن يُسهِّل لها ذلك. أيّ نوع مِن الحبّ هذا؟ لا أظنّ أنّ الكثيرين يستطيعون فهمه أو تقبلّه. ما علِمتُه أيضًا، هو أنّهما أسّسا مكتبًا لاطلاق الفنّانين الناشئين. كيف لهما أن يعِدا أحدًا بما لَم يتمكّنا مِن فعله؟ رجوتُ أن يبقيا حيث هما ويدَعانا وشأننا.

بعد سنة على التمام، وصلَني إتّصال مِن رجُل يقول إنّه مُحامي والدَينا وإنّهما بحاجة إلى مُساعدتنا... للخروج مِن السجن! فقد شكَّت شرطة ذلك البلَد بأنّ والدَيّ يقومان بتسهيل الدعارة تحت غطاء إدارة أعمال الفنّانين. وطلَبَ منّي المُحامي مبلغًا كبيرًا مِن المال لدفع الكفالة. رفضتُ رفضًا قاطعًا. وليرتاح ضميري، أخذتُ برأي تامِر في المسألة وهو وافقَني على موقفي. فلقد تعِبنا كثيرًا لنصِل إلى حيث نحن وليس مقبولاً أن نخسَر ما لدَينا للتسَتّر على الرذيلة. إكتفَيتُ بالسفر والالتقاء بالمحقّق وسؤاله عن وضع والدَيّ. وهو أطلعَني على إعتقال وسجن أمّي في ما مضى. عندها علِمتُ أنّ التهمة والأقاويل التي سمعتُها حقيقيّة، فعدتُ أدراجي.

خرَجَ والدايَ مِن السجن بعد سنتَين وعادا إلى البيت. كان اللقاء باردًا فبالكاد تبادلنا التحيّة. وفي اليوم التالي نقلتُ وتامِر أمتعتنا إلى فندق حيث بقينا إلى حين وجدنا شقّة بالإيجار. حاولَت أمّنا أن تُعاتبنا على تركها وزوجها، أي ترك "أمّنا وأبينا" في السجن، إلا أنّني حظرتُها على هاتفي.

 

إستقرَّيتُ وتامِر في شقّة جميلة... بعيدة عن والدَينا وتابعنا مسيرتنا. وجَدت والدتنا عمَلاً في سوبر ماركت مُجاور لها وأبي عمِلَ كحارِس ليليّ. ألَم يكن يجدرُ بهما منذ البداية إيجاد أعمال نظيفة ولو بسيطة بدلا ًمِن الركض وراء أحلام صغيرة؟ فما مِن أعمال مُخجِلة ما دامَ الانسان يأكلُ مِن عرَق جبينه، ويُطعِم عائلته خبزًا شريفًا وحلالاً، وما دامَ يلعبُ دوره كحاضِن ومُرشِد وكنَبع حنان لأطفال لَم يطلبوا أن يأتوا إلى الدنيا.

تزوّجتُ وكذلك تامِر ولدَينا كلّ واحد عائلته. ولقد قرّرنا لا بل أقسَمنا أن نختار جيّدًا زوجتَينا، وأن نُعطي وقتنا وحبّنا واهتمامنا لأولادنا. وهكذا فعلنا ونفعَل لأنّ هكذا يكون الآباء وتكون الأمّهات.

رأى والدانا أولادنا مرّة واحدة، ثمّ قلنا لصغارنا إنّ جدَّيهما ماتا، فهكذا أفضل.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button