الحقيقة تحررنا

لماذا يتدخّل الناس بما لا يعنيهم ويخربون حياة الآخرين مجّانًا؟ هل بدافع الأذيّة المحض أو ليُثبتوا أنّ لدَيهم أسرارًا لا يعرفُها سواهم، الأمر الذي يُعطي لحياتهم التافهة نوعًا مِن الأهميّة؟

فلقد تسبَّبَت لي إحدى السيّدات بمشكلة أشبه بالمُصيبة، في حين كان بإمكانها حفظ سرّي الذي لَم يكن ليُؤثّر بأيّ شكلٍ عليها ولكن كان له تداعيات على عائلتي الجميلة.

شعرتُ بأنّ ما أخفَيتُه لمدى سنوات كان مُهدّدًا لحظة رأيتُ عن بُعد السيّدة جورجيت، وحاولتُ الإختباء عنها خلف حائط المحل الذي خرجتُ منه بعد شراء بعض الحاجيات. كان قد بدأَ قلبي يخفقُ بسرعة فائقة والعرَق يتصبّب منّي. حبستُ أنفاسي وأغمضتُ عَينَيّ، وكأنّ ذلك سيُؤدّي إلى اختفاء تلك السيّدة مِن الوجود، إلا أنّني سمعتُها تُناديني ورأيتُها حين فتحتُ عَينيَّ واقفة بالقرب منّي:

 

ـ أهذا أنتِ يا هِبة؟

 

لَم أجِب واحترتُ إن كان عليّ الإدّعاء بأنّني شخص آخر أم الإعتراف بهويّتي الحقيقيّة، إلا أنّها تابعَت:

 

ـ بالطبع هذا أنتِ... لا تزالين جميلة بالرّغم مِن مرور السنين... آه، تُذكّريني بالمرحومة... كانت أعزّ صديقة لي. المسكينة، لقد غادرَت هذه الدنيا باكرًا. ما أخبار...

 

ـ أنا آسفة للغاية لكنّني لستُ هِبة... قد أكون أشبهُها... على كلّ الأحوال أشكرُكِ على الإطراء. مِن بعد إذنكِ عليّ الرحيل. الوداع.

 

ـ لستِ هِبة؟!؟ أقسمُ بأنّني قادرة على التعرّف عليكِ بين مئة.

 

لَم أسمَع باقي حديثها لأنّني غادرتُ بسرعة، وقفزتُ في سيّارتي التي قدتُها كالمجنونة إلى البيت. كانت الأفكار تتخبّطُ في رأسي، فقرّرتُ إخبار زوجي بالذي حصَل. وحين عادَ جلال مِن عمله، وبعد أن أرسلتُ إبنتي المُراهقة إلى إحدى صديقاتها، جلستُ معه أقصُّ له ما جرى.

طمأنَني جلال بأنّ لا داعٍ للقلق، فمِن غير المتوقَّع أن تراني السيّدة جورجيت مِن جديد، وأنّ كلّ ما عليّ فعله هو اختيار مكان آخر للتسوّق. قبّلَني زوجي بحنان وأضاف:

 

ـ ألَم يحن الوقت للبوح بالحقيقة؟

 

ـ ولِما أفعلُ ذلك؟ فلقد عشنا كلّ هذه السنوات بتناغم تام. لا، لا... سأتفادى الإلتقاء بأي أحد قد يعرفُني مِن قبل... أو ننتقل إلى مدينة أخرى.

 

ـ مُجدّدًا؟ لِما هذا الخوف؟ تتصرّفين وكأنّكِ هاربة مِن العدالة! سيأتي يوم وتظهرُ الحقيقة شئتِ أم أبَيتِ يا حبيبتي، أنصحُكِ بالتكلّم وحسب. الأسرار تُتعِب صاحبها.

 


ـ أفكّرُ بغيري وليس بنفسي. صحيح أنّ نظَر الناس تجاهي سيتغيّر، لكن لا أُريدُ أن يفضحَ أحدٌ ذلك السرّ بصورة غير مُتوقّعة.

 

ـ كما تشائين، لقد حذّرتُكِ.

 

وما كنتُ أجهلُه هو أنّ السيّدة جورجيت، أو السيّدة الفضوليّة كما عليّ فعلاً تسميَتها، قد دخلَت المحلّ الذي كنتُ قد تسوّقتُ منه لتسأل عنّي، وعلِمَت إسمي الجديد وعنوان سكَني لأنّ ذلك المحلّ بالذات كان في بعض الأحيان يوصِل طلبيّاتي إلى البيت. هي حصَلت على كلّ التفاصيل بعدما أدَّعَت أنّها لمحَتني عن بُعد وتودُّ زيارتي لأنّنا أقارب.

وهكذا جاءَت السيّدة جورجيت تدقُّ بابي في اليوم التالي. لحسن حظّي لَم تكن إبنتي في البيت بل في مدرستها وكان جلال كعادته في عمله. وقفتُ قبالة تلك الزائرة غير المرغوب بها أحدّقُ فيها وهي ابتسمَت لي قائلة:

 

- هل ظننتِ أنّكِ ستفرّين منّي بسهولة يا... سيّدة غنوة؟ هاهاها! غنوة... إسم جميل... مَن أختارَه لكِ؟

 

أمسكتُها بيدَها وسحبتُها إلى الداخل قبل أن يسمعُها أحد. أجلستُها على كرسيّ في الصالون وصرختُ بها:

 

ـ ماذا تُريدين منّي؟!؟

 

ـ لدَيّ حبّ كبير لمعرفة كلّ شيء عن كلّ الناس... وأُريدُ أن تُشبعي هذا الحبّ بإخباري عن الذي فعلتِه بعدما كنتِ هِبة... هِبة الخادمة التي كانت تعمل عند صديقتي وزوجها جلال.

 

ـ لَم أكن خادمة بل عاملة منزل.

 

ـ هـ هـ هـ... وما الفرق؟ خادمة أخذَت مكان سيّدتها.

 

ـ ليس لدَيّ ولَم يكن لدَيّ يومًا أسياد!

 

ـ يا لوقاحتكِ!

 

ـ زوجة جلال توفَّيت كما تعلَمين يا سيّدة جورجيت، وفي ذلك الوقت لَم يكن هناك مِن شيء بيني وبين جلال.

 

ـ ولِما إذًا تغيَّرَ إسمكِ ومكان سكنكِ وزوجكِ العزيز؟!؟

 

ـ مِن أجل إبنته.

 

ـ هي لا تعلَم مَن تكونين؟!؟

 

ـ بل تعتقدُ أنّها إبنتي، فهي كانت لا تزال طفلة صغيرة حين فقدَت والدتها، وارتأيتُ أنّ لا داعٍ لإحداث صدمة لها هي بالغنى عنها.

 

ـ إذًا أخذتِ الزوج والإبنة! كَم أنّكِ ماكرة!

 

ـ لا أسمحُ لكِ! لا تنسِ أنّكِ في بيتي ولَم أعد "خادمة" بل سيّدة هذا المكان!

 

ـ ولا تنسِ أنتِ أنّ كلمة واحدة منّي "لابنتكِ" ستُعيدُ العقارب إلى الصفر ويتبخّرُ كلّ عنائكِ يا... سيّدة المكان!

 

ـ ولِما تفعلين ذلك؟ ماذا ستجنين مِن خراب حياة مُراهقة؟ للمتعة فقط؟

 

ـ أجل، ولمعاقبتكِ؟

 


ـ مُعاقبتي؟!؟ ما الجرم الذي ارتكبتُه؟

 

ـ لقد أغويتِ رجلاً مقامه يفوقُ مقامكِ! كنتِ خادمة وستبقَين خادمة!

 

ـ لَم أولَد خادمة بل إنسانة حرّة وذات كرامة وكبرياء شأن باقي الناس، إلا أنّ ظروفي أجبرَتني على العمل في البيوت ولا عَيب في ذلك! بعد موت زوجة جلال وجدتُه مُكتئبًا ومُحتارًا بنفسه وبإبنته، وبقيتُ في البيت فقط لأُساعدهما على اجتياز تلك المحنة الصعبة. بعد حوالي السنتَين نما بيننا حبٌّ نفتخرُ به تكلَّلَ بعقد قران قانونيّ ونظيف. لقد اقترَحتُ على زوجي تغيير إسمي والإنتقال إلى مدينة أخرى، ليس للإختباء أو بداعي الخجَل بل كي لا يأتي أناسٌ بغيضون مثلكِ ويتسلّون بالتحكّم بمصيرنا. لن أسمحَ لأحد بزعزعَت توازن إبنتي النفسيّ.

 

ـ هي ليست إبنتكِ.

 

ـ بلى! لقد ربَّيتُها بنفسي وأحبَبتُها تمامًا وكأنّها نزِلَت مِن رحمي. سهرتُ عليها ليالٍ طويلة حين مرضَت وواكبتُها في كلّ مرحلة مِن حياتها. أحبُّها أكثر مِن نفسي وهي تُبادلُني هذا الحبّ.

 

ـ سنرى إن كانت ستظلّ تحبُّكِ بعدما تكتشف الحقيقة. أظنّ أنّها الآن في المدرسة... يا ترى أين تقع تلك المدرسة؟ سأعرفُ الجواب سريعًا. الوداع يا... سيّدة غنوة!

 

أقفلتُ الباب بقوّة وراء تلك الشرّيرة، وأسرعتُ للإتّصال باكيةً بزوجي الذي أكَّدَ لي أنّ السيّدة جورجيت لن تُنفّذ تهديدها بل هي تُحاول زَرع الخوف في قلبي.

خلال الفترة التي تلَت، راقبتُ إبنتي لأرى إن كان هناك أيّ تغيير منها تجاهي لكنّ ما مِن شيء تغيّرَ فارتاَح قلبي. ونسيتُ السيّدة الفضوليّة ومرَّت السنوات بهدوء ومحبّة.

وقبل أن تبلغ إبنتي سنّ الرشد بأشهر قليلة، جاءَني اتّصال مِن السيّدة جورجيت. هي لَم تقل الكثير بل اكتفَت بتلك الكلمات: "الآن عادَ كلّ شيء إلى مكانه الصحيح وصارَت إبنة المرحومة صديقتي تكرهُكِ حتمًا... لقد تأخّرتُ في الإنتقام لصديقتي بسبب وعكات صحّيّة متتالية إلا أنّني، كما ترَين، أفي دائمًا بوعودي."

 

ركضتُ إلى غرفة إبنتي وجلستُ بالقرب منها على سريرها، ونظرتُ إليها وعَينايَ مليئتان بالدّموع، ثمّ قلتُ لها:

 

ـ حبيبتي... هل التقَيتِ مؤخّرًا بسيّدة إسمُها جورجيت؟

 

ـ لا يا ماما.

 

ـ هل أنتِ مُتأكّدة؟ قد لا تكون اعطَتكِ إسمها... هي سيّدة فضوليّة وكثيرة الكلام... كانت تعرفُ أباكِ في ما مضي.

 

ـ آه! تلك التي أرادَت إخباري بما كنتُ أعرفُه؟

 

ـ ماذا تقصدين؟!؟

 

ـ هي انتظرَتني يومًا أمام مدخل المدرسة، وقالَت لي إنّكِ لستِ أمّي بل كنتِ تعمَلين لدى والدَيّ وتزوّجتِ مِن أبي بعد موت أمّي البيولوجيّة.

 

ـ يا إلهي! يا إلهي!

 

ـ لقد أجبتُها بأنّني أعلَم الحقيقة ويا لَيتها تأتي لي بأخبار ليست قديمة!

 

ـ كيف لكِ أن...

 

ـ لأنّ لدَيَّ أذنَين وعينَين... إلى جانب ذلك، نسيَ أبي التخلّص مِن كلّ الصوَر التي تظهرُ أمّي فيها وهي تحملُني.

 

ـ أنا آسفة يا حبيبتي لكن...

 

ـ آسفة؟!؟ على تربيَتي وحبّي؟!؟ آسفة؟!؟ إيّاكِ أن تقولي تلك الكلمة مُجدّدًا! أنتِ أمّي وليس لدَيّ أمّ ثانية، فالتي ولدَتني هي في عداد الأموات، رحمها الله.

 

- كنتُ خادمة...

 

ـ وصرتِ زوجة وأمًّا... المهنة ليست مطبوعة بجينات الإنسان بل هي فقط وسيلة للعَيش. تعالي واحضنيني وكفاكِ كلامًا لا لزوم له، يا ماما!

 

هكذا نُحارب الثرثارين والمؤذيين والمُبغضين، أي بالحبّ؛ فهو أقوى سلاح في العالم. وبوجه الحبّ والتفاهم وتقبّل الآخر يتلاشى الشرّ والأذى. أليس هذا ما علَّمَه الله إيّاه؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button