الحب الكاذب

كان يجدرُ بي أن أسأل عن زياد، لكنّنا أحيانًا نؤخَذ بالأشخاص وبعالمهم وهم يأخذوننا إلى حيث الخداع والكذب. هكذا كان الرجل الذي سحَرَني وأخَذَ قلبي مِن دون أن يُعطيني شيئًا بالمُقابل. فحتى في الأمور العاطفيّة علينا أن نتبادَل العطاء وإلا صارَ الوضع استغلالاً للطرف الآخر.

كان زياد كاتبًا، ولحظة ما علِمتُ طبيعة عمله شعرتُ بفضول حملَني إلى سؤاله مئة سؤال عن كتاباته لأنّ القراءة كانت ولا تزال لدَيّ شغفًا لا يوصَف. هو ابتسَمَ أمام إفتتاني ورأى فيّ حتمًا إستعدادًا لتصديق كلّ كلمة تخرجُ مِن فمه. لماذا اختارَني زياد أنا بالذات؟ لأنّني كنتُ شابّة جميلة وإبنة رجل ذات مركز في المجتمع وعالم الأعمال. أي، بكلمة واحدة، الفتاة التي لا يجِب إفلاتها. تبادَلنا أرقام هاتفَينا وبدأنا نتحدّث يوميًّا حتى صرنا قريبَين مِن بعضنا كفاية ليدعوني إلى لقاء.

جلستُ برفقة زياد وكأنّني بحضور الفائز بجائزة نوبل للآداب، وهو استمتَع بنظراتي الجميلة المليئة بالإعجاب، فبدأ يقرأ لي مقاطع مِن كتاباته التي اختارَها تُناسب المناسبة، أي سطور غزَل وشغف، وأنا ذبتُ ذوبانًا لدى سماع ما تخايلتُه قد كُتِبَ لي. في تلك الليلة أخبرتُ والدتي بأنّني وقعتُ في غرام أفضل رجل في العالم، وهي ابتسمَت لدى سماع ذلك وهزَّت برأسها قائلةً:

 

- كَم أنت رومانسيّة يا إبنتي... فذلك قد يحجبُ عن نظركِ أمورًا عديدة... لكنّني موجودة ولن أدعَكِ تُخطئين الإختيار.

 

للحقيقة غضبتُ مِن أقوال أمّي التي بانَت وكأنّها تشكُّ بحسن إدراكي أو أنّها تعتبرُ أنّ زياد ليس تمامًا كما وصفتُه، وقرّرتُ عدَم إخبارها شيئًا بعد ذلك، إلا أذا كان أمرًا أساسيًّا كموعد زفافي مِن زياد. أجل، كنتُ منذ لقائي الأوّل به قد قرّرتُ ربط حياتي بحياته، الأمر الذي يُؤكّد مخاوف أمّي تمامًا.

لكنّ الخطأ لا يقَع عليّ وحدي بل على القصص التي تُروى للفتيات عن بساطة الحياة والعلاقات، وعن نقاوة قلوب هؤلاء الفرسان الذين يكنّون مشاعر نبيلة تجاه بطلات تلك القصص، وكيف أنّهما يقعان في الحبّ بلحظة ويعيشان سعيدَين حتى آخر أيّامهما. لكنّ هذه ليس حقيقة الحياة أو الواقع على الإطلاق، ويا لَيت الأهل يكفوّن عن حماية أولادهم بحَجب ما هو بشِع عنهم. فالعالم ليس زهريّ اللون والناس ليسوا ملائكة ينثرون الحبّ مِن حولهم. لذلك عليهم إطلاعهم على القبيح والجميل مِن دون إفزاعهم أو تطمينهم كليًّا، أي إيجاد توازن يبني شخصيّة الولد كما يجب.

 


كنتُ مِن فئة الأولاد المحصّنين ضدّ مخاطر الحياة، وأبعَدوا عنّي كلّ ما قد يُشوّه الشرنقة الذهبيّة التي وُلدتُ فيها، لذلك صدّقتُ زياد، فلأيّ سبب قد يكذبُ عليَّ؟

ولأُؤكّد لأهلي أنّني لستُ فتاة ساذجة، فتّشتُ عن زياد على الإنترنت فوجدتُ صفحاته العديدة على منصّات التواصل الإجتماعيّ وكانت مليئة بمقتطفات كتاباته. قرأتُها كلّها وكذلك التعليقات العديدة مِن قِبَل المُنتسبين لحساباته وامتلأ قلبي بالفخر. أرسلتُ صورة عن تلك الصفحات لهاتف والدتي لأريها كيف أنّ الرجل الذي سرَقَ قلبي هو إنسان رقيق وشفّاف وموهوب!

عندها، أخذَت أمّي مُقتطفات مِن كتابات زياد وألصقَتها في محرّك البحث على الإنترنت، لتجِد أنّها واردة لدى كتّاب معروفين، أيّ أنّ حبيبي كان قد سرَقَ مِن غيره ما ينسبُه لنفسه. ركضَت المسكينة لتُخبرني بما اكتشفَته ولأعترفَ أنّني خُذِلتُ... ليس مِن قِبل زياد بل مِن والدتي التي تحوّلَت إلى جاسوسة هدفها إتعاسي وفصلي عن رجل حياتي! صرختُ بها عاليًا طالبةً منها أن تدعَنا وشأننا، واتّهمتُها بأنّها تغارُ مِن حبّنا لأنّها ليست سعيدة مع أبي. لَم أتأثّر بدموعها لدى سماعها كلماتي القاسية لها، بل غادَرتُ البيت ورحتُ ألتجئ عند حبيبي. كانت تلك أوّل مرّة أزورُه في مسكنه، وهو تفاجأ برؤيتي عند بابه فلَم يكن حتى مِن المفروض أن أعلَم عنوانه. لكنّني أخذتُه مِن الذين جمعونا صدفةً في بيتهم يوم لقائنا الأوّل.

تلبّكَ زياد لكنّه دعاني للدخول، وركضَ يُرتّب الفوضى التي تعمّ في الداخل قائلاً:

 

- تعرفين كيف هم الكتّاب... نحن لا نُعير أهميّة كبرى للنظافة والترتيب بل للإنسان ومُعاناته.

 

تأثّرتُ كثيرًا لِما قالَه فأجبتُه:

 

- لا تقلق يا حبيبي... سأهتمُّ بكلّ ذلك عندما نتزوّج.

 

هل فرِحَ زياد للخبر؟ راقبتُ ردّة فعله وهو ابتسَمَ قائلاً:

 

- لا يجوزُ لإنسانة رقيقة مثلكِ أن تسكن في مكان كهذا.

 

شرحتُ له أنّ والدي سيُساعدنا حتمًا ماديًّا فهو رجل غنيّ، الأمر الذي كان يعرفُه طبعًا زياد، وذلك فور إقناع أمّي بأنّها مُخطئة بما يخصّ ما اكتشفَته عن تلك الكتابات، وأخبرتُه ما جرى بالتفاصيل. سكَتَ حبيبي ثمّ أكّدَ لي أنّ أمورًا كهذه تحصل كثيرًا، إذ أنّ العديد يسرقُ أفكاره وجُمله ليشتهر مِن خلاله، وأنّه سيفعلُ ما بوسعه لتبرئة نفسه أمام والدتي ويأخذ بركتها. مكثتُ ساعات عديدة في تلك الغرفة الصغيرة المليئة بالأغراض العجيبة الغريبة، ولاحظتُ أنّه لا يمتلكُ كتبًا كثيرة أو حتى أوراقًا ليكتب عليها، وهو قال لي إنّه يُفضّل استعمال حاسوبه مُباشرةً.

عدتُ إلى البيت مُرتاحة البال وقويّة العزيمة، وبالكاد تبادلتُ الكلام مع أمّي بل فضّلتُ الجلوس مع والدي أقصُّ عليه مدى روعة زياد وكيف أنّنا نُخطّط لِبناء مُستقبلنا سويًّا. فرِحَ لي أبي وأعطاني بعض النصائح ثمّ وعدَني بمساعدتنا إن أقتضى الأمر. للحقيقة لطالما كنتُ مُقرّبة مِن والدي وهو استفادَ مِن ذلك في صراعه الدّائم مع أمّي، فهما لَم يكونا على تناغم بسبب الفرق في طباعهما ووجهة نظرهما.

بعد أيّام قليلة رحتُ وأمّي عند إحدى صديقاتها. كنتُ أحبُّ زيارة تلك السيّدة خاصّة أنّ عمر إبنتها كان يُناهز عمري، وكنتُ أجلسُ معها نحكي عن أمور عديدة وعن أهلنا الذين كانوا دائمًا يقفون بوجه مشاريعنا. جلسنا في الصالون جميعًا وإذ بالباب يُقرَع. تفاجأتُ للغاية عندما رأيتُ زياد يدخلُ مُرتديًا زيًّا أزرق اللون وحاملاً بِيَده علبة حديديّة ضخمة. هو لَم يرَني لأنّني كنتُ جالسة في زاوية الصالون. قالَت له صديقة أمّي:

 


- مِن الجيّد أنّكَ جئتَ بسرعة... المطبخ إلى اليمين وهناك مُشكلة في صنبور الحوض.

 

دخَلَ حبيبي المطبخ وأنا نظرتُ إلى أمّي وصديقتها وعلِمتُ أنّهما وراء مجيء زياد إلى حيث أنا. فتحتُ فمي لأُعبّر عن إستيائي لكنّ والدتي قاطعَتني:

 

ـ نعم... زياد هو سمكريّ وليس كاتبًا... وجدتُ كلّ المعلومات حوله بما فيها رقم هاتفه بعد بحث دقيق، وجلَبناه إلى هنا كي لا يشكّ بشيء فقد يعرفُ عنواننا... أو بالأحرى أظنّ أنّه يعرف كلّ شيء عنّا... وعن ثرائنا.

 

ـ العمَل كسمكريّ ليس مُعيبًا!

 

ـ طبعًا لا، لكنّ الكذب والإحيتال وانتحال صفة هو عيب. مِن الواضح أنّه يسعى وراء المال.

 

ـ تعنين أنّ لا أحد يُمكنُه حبّي لشخصي؟!؟ سأثبتُ لكِ العكس!

 

دخلتُ المطبخ حيث كان زياد وأغلقتُ الباب خلفي. هو تفاجأ لرؤيتي وتلبّكَ وحاوَلَ الكذب بشأن وجوده تحت الحوض وهو يُصلحه، فأسكتُّه قائلة:

 

ـ أنا أحبُّكَ مهما كانت نوعيّة عملكَ... أفهمُ أنّكَ كذبتَ عليّ بسبب الفارق الإجتماعيّ بيننا، لكن تأكّد أنّ المال والجاه لا يهمّاني بتاتًا... لِذا سنعيشُ سويًّا بعد الزواج في غرفتكَ ونتدبّر أمرنا بفضل حبّنا القويّ.

 

ـ ماذا؟!؟ وهل مِن الضروريّ أن يعرفَ أهلكِ حقيقة عملي؟

 

ـ أمّي هي التي دبّرَت المكيدة وهي جالسة في الخارج في الصالون. سأذهبُ معكَ الآن ونتزوّج على الفور. سئمتُ مِن أن أُعامَل كفتاة صغيرة! هيّا!

 

ـ لا.

 

ـ لا تخَف يا حبيبي... أنا أحبُّكَ حتى لو كنتَ فقيرًا أو غير مُتعلّم. هيّا نتزوّج!

 

ـ ولِما أتزوّجُكِ؟ أخرجي مِن المطبخ فعليّ إنهاء عمَلي.

 

ـ ماذا تقول؟!؟ آه... تُريدُ تجنيبي حياةً صعبة لستُ مُعتادة عليها! لا تخَف يا حبيبي سأبذلُ كلّ جهدي لأتأقلَم.

 

ـ أقول لكِ أخرجي! إن لَم أُنهِ عملي فلَن أتقاضى أجري! لَم يعُد هناك مِن منفعة منكِ... ماذا تريديني أن أفعل بكِ؟ فمٌ إضافيّ لإطعامِه؟ بالكاد أُعيلُ نفسي!

 

ـ لكن حبُّنا...

 

ـ أيّ حبُّ؟ دعيني أُنهي عمَلي! هيّا!!!

 

خرجتُ مِن المطبخ باكيةً، وعانقَتني أمّي التي سمِعَت كلّ حديثنا وأخذَتني إبنة صديقتها إلى غرفتها لتواسيني. نمتُ مِن كثرة حزني وخَيبتي، وعندما استفقتُ علِمتُ أنّ والدتي هدّدَت زياد بتقديم شكوى ضدّه إنّ اقترَب منّي أو حتى اتّصلَ بي. وهو أكّدَ لها أنّ ذلك لن يحصل وأخَذَ أجرته وغادرَ ممنونًا.

قضَيتُ أشهر صعبة للغاية أسألُ نفسي خلالها ألف سؤال لأستوعب ما حصل وكيف. وصارَت علاقتي بأمّي متينة للغاية لدرجة أنّها باتَت تُشبه الصداقة. وعندما حسبتُ أنّني لن أجِد الحبّ مُجدّدًا، حصَلَ أن تعرّفتُ إلى شاب أعجبَني بلطفه وذكائه وثقافته. عندها، ركضتُ إلى أمّي قائلة:

 

ـ حضرة المفتّش! لدَيّ مُهمّة جديدة لكِ!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button