الجمال الحقيقي

يا لَيتنا نَعي ما نتمنّاه، فقد لا يكون لمصلحتنا، بل العكس. وأنا تأثّرتُ رغمًا عنّي بالمناخ الرائج في كلّ مكان على الانترنت، وخاصّة مواقع التواصل الاجتماعيّ، ناهيك عن الأغنيات المصوّرة الشرقيّة والأجنبيّة. وقد أردتُ امرأة جميلة وأنيقة ومُثيرة، فرفضتُ مِن دون تردّد الصبايا التي كانت مِن حَولي، فقط لأنّهن بنات أناس مُتعقّلين وتعشِنَ حياة هادئة وعاديّة. لا... لا أريدُ زوجة مُمِلّة وعاديّة الملامِح، خاصّة أنّني رجُل وسيم وثريّ! ألا أستحقّ الأفضل؟

وهكذا وقَعَ اختياري على جنى، مُضيفة طيران تعرّفتُ إليها على إحدى الرحلات التي قمتُ بها بغرَض العمَل. فأوّل ما وقعَت عَينايَ عليها، شعرتُ برغبة كبيرة فيها. وهو شعور لَم أحِسّ به مِن قبل، على الأقلّ ليس بهذه القوّة. فكلّ شيء فيها كان رائعًا، مِن قوامها وشعرها وضحكتها إلى نظراتها التي شبّهتُها بالمغنطيس. أخذتُ رقم هاتفها قبل أن تحطّ الطائرة، واتّفقنا أن نلتقي على العشاء في اليوم نفسه. وفي ذلك المطعم حيث تواعَدنا، رأيتُ جمالها في لباس السهرة والذي كان يُظهر بوضوح مفاتنها. أجل، جنى كانت التي أبحثُ عنها! ونظرة واحدة إلى صفحتها الخاصة على أحَد مواقع التواصل، تكفي لرؤية اهتمامها بنفسها مِن حيث اللياقة البدنيّة والتسوّق وزيارة مُصفّفي الشعر وأخصّائيّي الماكياج. وبعد فترة قصيرة مِن التواعد، عرَضتُ عليها أن تصبحَ زوجتي، وعرّفتُها بفخر على عائلتي وأصدقائي. لكنّ جنى لَم تلقَ الترحيب نفسه بين معارفي، فأصدقائي الرجال أُعجِبوا بها لأقصى درجة وهنّأوني على خياري، أمّا أهلي فنظروا إليها بمزيج مِن الدهشة والهمّ. وقالَت لي والدتي بعد رحيل جنى:

 

ـ إحذَر يا إبني منها... فقلبي ليس مُرتاحًا لها. فهي لَم تنظُر ولو مرّة إليكَ أثناء وجودها هنا، بل كانت مُنهمِكة بنفسها وبالإجابة إلى أسئلتنا وكأنّنا نجري معها مُقابلة تلفزيونيّة.

 

ـ هي أرادَت أن تُعجَبوا بها وليس أكثر. إنّها فتاة رائعة!

 

ـ جنى ليست لكَ، صدّقني، فأنتَ لن تسعَد معها. أنتَ ابني وأعرفُكَ أكثر مِن أيّ إنسان آخَر... لا تتسرّع أرجوكَ بل خُذ وقتكَ. هل تعرّفتَ إلى ذويها جيّدًا؟

 

ـ أجل يا ماما، سترَينهم قريبًا... إنّهم أناس مُثقّفون ومِن طبقة راقية.

 

ـ مِن طبقة راقية؟ وهل يهُّمكَ ذلك بالفعل؟ أفضّلُ مَن يتمتّع بالبساطة والقناعة فهذه هي الصفات التي تدوم وتُسعِد.

 

ـ أنتِ مِن جيل وأنا مِن جيل. مَن يتكلّم بهذه الصفات في أيّامنا؟ على كلّ الأحوال، أنا مَن سيعيش مع جنى.

 

ـ وهذا ما يُخيفُني.

 

تزوّجنا وعشنا في مسكن جميل في العاصمة، وتابعتُ عمَلي بينما تركَت جنى عملَها كما طلبتُ منها أن تفعل، فلقد خفتُ عليها، إذ كيف سأعيشُ مِن دونها لو حدَثَ لها مكروه؟ ولِتتسلّى، إنتسبَت زوجتي إلى نادٍ رياضيّ، وشجّعتُها على ذلك لأنّني أردتُها أن تُحافظ على رشاقتها، فالحقيقة أنّني افتخَرتُ بها أينما ذهبتُ، فالكلّ كان ينظرُ إليها بإعجاب. ثمّ بدأ أناس لا أعرفهم يأتون إلى بيتنا ويقضون السهرة معنا، أناس تعرّفَت جنى عليهم هنا وهناك. لَم يُعجِبني الأمر كثيرًا، لكنّني وجدتُ زوجتي سعيدة بهم، فسكتُّ. لَم أنتبِه لذلك الشاب الوسيم الذي كان موجودًا مع كلّ مجموعة تزورُنا... فلماذا أشكّ بعروسي، هل أجبَرتُها على الزواج منّي؟ بل هي اختارَتني بإرادتها كما اخترتُها.

أرَدتُ ولَدًا، لكنّ جنى ذكَّرَتني أنّ الحَمل قد يُشوّه جسدها الجميل. إضافة إلى ذلك كيف سنُسافِر سويًّا ونذهب إلى تلك المُناسبات المُسليّة والصاخبة لو رُزِقنا بولَد؟ كانت جميلتي على حقّ، كالعادة. إلا أنّني وعدتُ نفسي أن أصبَحَ أبًا يومًا ما، حين نملُّ مِن نمَط حياتنا، وقد تهتمّ أمّي بتربية مولودنا. ألَم تقُم بعمَل جيّد حين ربَّتني؟

ثمّ طلبَت منّي جنى أن تتعلَم الرسم، فكانت تلك موهبتها منذ صغرها. لَم أكن أعلَم أنّ زوجتي موهوبة بشيء سوى بأن تكون جميلة، لِذا لَم أرَ مانعًا لأن تنتسِب لصفّ ليليّ لتعلّم الفنون. على كلّ الأحوال، كنتُ أقضي وقتًا طويلاً في الشركة الجديدة التي أسّستُها مؤخّرًا، وأبقى أحيانًا فيها لساعات مُتأخِّرة.

أعرفُ ما تقولونه، لكن عندما يكون المرء وسط أحداث حياته، فإنّه لا يرى ما يراه الآخَرون، خاصّة لو كان غارِقًا في الحبّ. كنتُ أعمىً إلى حدّ السذاجة، ففي تلك الفترة، لَم أكن سوى رجلٍ سطحيٍّ تهمّه المظاهر ورأي الناس في نجاحه المهنيّ والشخصيّ. ما لَم أنتبِه له أيضًا، هو أنّ صحّة أمّي بدأت تتراجع. على كلّ الأحوال، لَم أعُد أراها كثيرًا لانشغالي بزوجتي وأصدقائها ونشاطاتنا العديدة، ناهيكَ عن شركتي التي كانت تتطلّب منّي مجهودًا كبيرًا. لِذا تفاجأتُ كثيرًا عندما وصلَني خبَر تواجد والدتي في المشفى، فركضتُ طبعًا إليها مهمومًا. وجدتُها هزيلة وتعِبة، لكنّ الطبيب طمأنَني قائلاً إن المسألة عرضيّة ولا داعٍ للقلق. إقترَبتُ مِن سرير أمّي وأمسكتُ بِيَدها لكنّها أدارَت نظرها عنّي فحزنتُ كثيرًا. ثمّ قالَت:

 

ـ لستُ راضية عنكَ... ماذا تفعل بحياتكَ؟ أنا لَم أعُد أراكَ أو أسمعُ صوتكَ إلا نادرًا، لكن ما أسمعه فقط هو عنكَ وعن جنى وحياتكما الصاخبة... إين حفيدي أو حفيدتي؟ أين استقراركَ الزوجيّ؟ هل نسيتَ في أيّ بيت وُلِدتَ وكبرتَ؟ هل هذا ما تعلّمتَه وسطنا؟

 

ـ أرجوكِ يا ماما، لا تنفعلي، فأنتِ مُتعبة.

 

ـ مُتعبة بسببكَ! فأنا أراكَ تهدرُ أيّامكَ ومُستقبلكَ مع تلك الـ...

 

ـ ماما!

 

ـ حسنًا، سأسكتُ. لكنّني مُتأكّدة مِن أنّكَ ستندم يومًا على عدَم استماعكَ لنصائحي.

 

ـ نامي يا ماما، إرتاحي."

 

كلام أمّي أثَّرَ بي كثيرًا، ربّما لأنّ شيئًا في داخلي علِم أنّها مُحِقّة. لكنّني عُدتُ وطردتُ تلك الشكوك مِن رأسي وركضتُ إلى البيت لأُعانِق حبيبتي.

ذات يوم، طلبَت منّي جنى أن أستأجِر لها شقّة صغيرة لتمارس فيها فَنّ الرسم وتُحوّلها إلى مشغل صغير. فقبِلتُ خاصّة أنّها لن تكون لوحدها، بل مع مجموعة فنّانين مُبتدئين مثلها، وأنّهم سينشرون ما يفعلون على مواقع التواصل، وقد يكون ذلك مُنطلَقًا لفنّها. فما الخطب في ذلك؟ صرتُ أزورُ زوجتي في مشغلها يوميًّا تقريبًا وأفرَح لرؤيتها فرحِة ومُتحمّسة. لكنّني لاحظتُ أخيرًا وجود ذلك الشاب الوسيم الذي يكون موجودًا في كلّ مكان. سألتُ جنى عنه، إلا أنّها ضحِكَت عاليًّا ثمّ همَسَت في أذنَيَ: "لا خوف منه... فهو مِثليّ". إرتاحَ بالي وتابعتُ مسيرتي المهنيّة وهي هواياتها، وكلانا كان سعيدًا.

ثمّ وقَعَ الخبَر المُفجِع: شَخَّصَ لي الأطبّاء بداية ورَم سرطانيّ، فانهارَ كلّ شيء مِن حَولي، وأدركتُ أنّ حياتي قد تنتهي قريبًا. وشيء واحِد أراحَني: كانت لدَيّ زوجة مُحبّة وأهل يلتفوّن مِن حولي، وكلّ ما تبقّى عليّ كان الخضوع لعلاج خاص حتى أستعيد حياتي، أليس كذلك؟

لكن لدى سماعها بالخبر، نظَرَت جنى إليّ باشمئزاز قائلة: "أيعني ذلك أنّكَ ستفقدُ شعركَ وحاجبَيكَ ورموشكَ؟". ضحِكتُ لأنّ ردّة فعلها كانت ولدانيّة، وأجبتُها أنّ فقدان شعري لن يكون إلا مؤقّتًا، وأنّ الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قريبًا. لكنّها لَم تظهر أيّ اهتمام لي ولمشاعري وخوفي، ولَم أسمَعها تعِدُني بأنّها ستكون إلى جانبي لنجتاز سويًّا تلك المحنة العصبية. فهذا ما كنتُ لأقولَه لها لو كانت هي المريضة. للحقيقة حزِنتُ كثيرًا داخليًّا، فقد شعرتُ فجأة بالوحدة، إلا أنّني عدتُ وقرّرتُ الانتظار ريثما أبدأ بالعلاج، لأعرفَ ما ستفعله جنى. فلماذا أستبِق الأمور؟

إلا أنّ حبيبة قلبي اعتبرَت أنّني سأموتُ بالرغم مِن تطمينات الطبيب، فالمرَض كان لا يزال في بدايته وفرَص شفائي كانت عالية. لِذا هي بدأَت تتصرّف وكأنّني راحِل عن هذه الدنيا، فتجاهلَتني بشكل واضح.

عندها إستدَرتُ لأمّي، الإنسانة الوحيدة التي بإمكاني الوثوق بحبّها. وهي، بالرغم مِن حالتها، قبلَت استقبالي في دارها والاهتمام بي. لَم تُمانِع زوجتي أن أترك البيت لفترة زمنيّة غير مُحدّدة، ولَم تعرض عليّ أن تهتمّ هي بي، بل نظرَت إليّ بشفقة وكأنّها تودّعني ثمّ وضعَت قبلة على خدّي قائلة: "عليّ الذهاب إلى المشغل، فلدَينا جلسة تصوير لصفحتنا على الفيسبوك!". بعد رحيلها، ذرفتُ الدمع لأنّني أحسَستُ حقًّا أنّني وحيد في مرَضي.

عند أمّي استعَدتُ الأيّام الجميلة التي عرفتُها قبل زواجي، فذقتُ طعم الحنان الحقيقيّ الذي لا يطلبُ شيئًا بالمُقابل، فارتاحَ قلبي. شعرتُ بالذنب حيال أمّي، لأنّني ابتعَدتُ عنها وأهمَلتُها ولَم أسمَع منها وهي كانت على حقّ في كلّ الذي قالَته. كَم أنّ حياتي الزوجيّة فارِغة! كلّ ما كان يهمُّني هو أن يقول الناس إنّني فزتُ بامرأة جميلة، وإنّني رجُل ناجح ومحظوظ. لكن ما نفع الجمال والمال حين نخسَر الصحّة؟ لو كان لدَيّ طفل لأعطاني أمَلاً وسببًا لأُناضِل مِن أجله...

العلاج كان صعبًا عليّ، ومظهري أحبطَني، لكنّ أمّي بقيَت تقول لي إنّني أجمَل رجُل على الاطلاق. سألَت جنى عنّي مرارًا لكن فقط عبر الهاتف، لأنّها، حسب قولها، لا تستطيع رؤيتي مِن دون شعر فذلك يُحزنُها كثيرًا. إلا أنّ اتّصالاً مِن أحَد الأقرباء طالبًا منّي فتح صفحة جنى على موقعها غيَّرَ كلّ شيء نهائيًّا: فتحتُ تلك الصفحة ورأيتُ زوجتي في فيديو بلباس اسود تذرفُ دموعًا مُفتعلة، وهي تقول للمُشاهدين إنّ زوجها ماتَ بسبب المرض! وإلى جانبها ذلك الشاب الوسيم الذي قالَت عنه إنّه مِثليّ، وهو يُمسكُ بيَدها لمواساتها وفي نظراته لها شهوة ورغبة لا علاقة لها بالمِثليّة! قرأتُ التعليقات التي كلّها مُعزيّة زوجتي أو بالأحرى أرملَتي، فغضبتُ كثيرًا! لِذا جمعتُ قوايَ ورحتُ إلى بيتي فلَم أجِد جنى. قصدتُ المشغل عازمًا على حلّ تلك المهزلة.

فتَحَ لي ذلك الشاب وهو بلباس خفيف جدًّا، فأزحتُه جانبًا لأجِد زوجتي وهي ترسمُ... عارية تمامًا! في البدء لَم أستوعِب المشهد، لكن بعد ثوان أدركتُ أنّ ما رأيتُه حقيقيّ. وعندما رأتني جنى قالَت لي بكلّ هدوء:

 

ـ أنتَ هنا؟ تعالى وأنظر إالى ما أرسم... أليسَت لوحتي جميلة؟

 

ـ أنتِ عارية وذلك الوغد شبه عارٍ!!!

 

ـ نحن فنّانان... لن تستطيع فهم ذلك... أراكَ خارج بيت أمّكَ، هل تحسّنتَ؟

 

ـ أجل ولَم أمُت كما ادّعَيتِ على صفحتكِ!

 

ـ إنّها دعابة يا حبيبي... للحصول على مُشاهدات أكثر.

 

ـ سترتدين ثيابكِ وتأخذين كلّ أمتعتكِ ولوحاتكِ وتعودين إلى البيت، فسأقفلُ المشغل وأعودُ أيضًا إلى البيت.

 

ـ لن أرحَل، بل سأبقى هنا، فأنا فنّانة. ماذا تُريدُني أن أفعل في البيت مع رجُل مريض؟

 

ـ أنا زوجكِ!!!

 

ـ عليكَ أن ترتاح فأنتَ دائم الغضب. دَعني أستمتع بالحياة فأنا أستحقّ ذلك. أنتَ تقِف في دَرب سعادتي ومسيرتي الفنيّة، ألا تُدرِك ذلك؟ لِما لا تموت وتذهب عن هذه الدنيا؟


في تلك اللحظة اقترَب الشاب الذي بقيَ صامتًا وعلى حدة، وأرادَ إخراجي بالقوّة مِن الشقّة، فاستدَرتُ نحوه وسدّدتُ إليه لكمة كلّفتني كلّ قوايَ المُتبقّية. وقَعَ الشاب أرضًا وركضَت إليه جنى صارخة: "حبيبي! هل أنتَ بخير؟!؟". ثمّ نظرَت إليّ بحقد عميق وقالَت لي: "أنتَ وحش! لِما لا تموت!!!

لَم أمُتُ خلافًا لِما تمنَّته جنى، بل شفيتُ بعد فترة وطلّقتُها أخيرًا. تركتُ لها المشغَل لمدّة ستّة أشهر ليس حبًّا بها، بل لتغرق أكثر في جنونها. لَم آسَف عليها بل ماتَ حبّي لها يوم رحتُ المشغل وحصل ما حصل.

بعد سنة مِن شفائي، تمَّت خطوبتي على صبيّة رصينة وعاقِلة اختارَتها لي أمّي، لأنّ ما مِن أحَد يعرفُني ويُحبّني مثلها. سكنّا معها بعد الزواج، ورُزِقنا بابنة جميلة ومِن ثمّ بابنة أخرى. وسارَت حياتي كما كان يجب أن تسير لو لَم أنشغِل بالمظاهر ونظرة الناس إلى "نجاحي".

أمّا بالنسبة لجنى، فعلِمتُ أنّها سافرَت إلى أوروبا، وانضمَّت إلى مجموعة "فنّانين" غير ناجحين يعيشون مع بعضهم في مكان قذِر. ثمّ انقطعَت أخبارها عن مواقع التواصل لأنّها صارَت قبيحة، وفقدَت قوامها وجمالها بسبب حياتها الصاخبة والمُنحلّة. أين جمالكِ الآن يا جنى؟ ألا تعلمين أنّ الجمال الخارجيّ لا يدوم بل يدوم فقط الجمال الداخليّ؟ فأنا أدركتُ ذلك بعد تجربتي المريرة، لكنّني صحَّحتُ مساري لأنّ الجوهر هو في قلب الانسان فقط.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button