الجزء الثاني: هل أن جميع الرجال متشابهون لا يفكرون إلا بلذّتهم؟

عندما قرأت عنوان أبي ومكان عملي ورقم هاتفه، حدث شيء غريب وكأنني عدت فتاة صغيرة أنتظر أبي أن يعود من العمل كي أعانقه وألعب معه. شعرت بشوقٍ كبير لم أشعر به من قبل. لكن سرعان ما قال لي صوت العقل ألا أنسى أن هذا الرجل فضّل امرأة أخرى ومن المؤكّد أن لديه أطفالاً آخرين. لم أعد "أميرته" منذ زمن بعيد.

قررت ألا أتصل به في القوت الحالي بل أن أراقبه. كان لدي عنوانه وتبيّن أن مكان سكنه ليس ببعيد. يمكنني الذهاب إليه في عطلة الأسبوع ورؤيته من بعيد هو وعائلته. لقد انتظرت سنين طويلة فبإمكاني أن أنتظر قليلاً بعد. لم أخبر خالتي بالأمر لأنني كنت أعلم ما ستكون ردّة فعلها وسئمت أن تملي عليّ حياتي ما أفعل خاصة فيما يتعلّق بأموري الشخصية. هذا أبي وأنا أقرر ما أفعله معه.

عندما حلّت عطلة نهاية الأسبوع، قلت لخالتي أنني ذاهبة لبيت صديقة لي في الريف للاسترخاء. وكنت في الحقيقة قد قمت بحجز غرفة في فندق قريب من منزل أبي كي أراقب تنقلاته عن كثب. ودّعت خالتي ورحلت.
لدى وصولي إلى الفندق، تفقدت عنوان منزل والدي وذهبت إلى هناك حيث ركنت سيارتي. انتظرت طويلاً قبل أن أراه يدخل الشارع ومن ثم المبنى. كان مظهره يختلف طبعاً عن صور الألبوم خاصة بعد مرور كل تلك السنوات، لكنني عرفته فوراً. بدأ لي كأي رجل في العقد الخامس من عمره لكن مشيته كانت ثقيلة وكأنه يحمل عبئاً على كتفيه. فرحت للأمر، لأنني أردته أن يكون مريضاً أو حزيناً ورؤيته هكذا أشفت غليلي.

مرت ساعات طويلة قبل أن أراه يخرج من بيته مجدداً. كان بمفرده، ما أزعجني لأنني كنت بانتظار رؤية زوجته وأولاده برفقته، لأعرف لماذا فضّلهم علينا. ذهب إلى إحدى المنتزهات وجلس على مقعد وأخذ كيساً من جيبه وبدأ يطعم الطيور. بقي هكذا ساعة بأكملها، يتكلم مع الحمام ثم يصمت. ثم عاد إلى منزله وأنا عدت إلى الفندق.

لم أنم جيداً تلك الليلة، صورته لم تفارقني، صورة هذا الرجل المتعب والحزين. يا ترى ما الذي سبب له كل هذه التعاسة؟
صحوت باكراً وذهبت إلى الشارع حيث انتظرت رحيله إلى العمل. ثم توجهت إلى المبنى وقرعت باب الناطور:
- "مرحبا، أنا مندوبة شركة تٌعنى بالاستفتاء عن العائلات ومدخولها، هل لي أن أعلم كم عائلة تعيش هنا وكم عدد أفرادها؟ إذا أجبتني أنت ستوفّر علي الصعود إلى الشقق وإزعاج سكانها."
- "بكل سرور، سيدتي. هناك خمس عائلات وشقة يسكنها السيد م. لوحده. في الشقة الخامسة هناك..."
- "تهمّني شقة هذا الرجل، لماذا يسكن لوحده؟ هل توفيت زوجته؟ أين أولاده؟"
- "السيد م. ليس متزوجاً وليس لديه أولاد. سكن في المبنى منذ أكثر من 20 سنة، أعرفه جيداً."
- "ربما لديه صديقة..."
- "لا، أنت لا تعرفينه، إنه رجل جديّ ورصين. لم أره يوماً يخرج مع امرأة!"

عدت إلى سيارتي وجلست فيها أفكر بما قاله لي الناطور. أين تلك المرأة التي أخذته منا؟ هل افترقا؟ ولمَ لم يتزوج حتى الآن؟ وإذا كان زير نساء كما وصفتاه أمي وخالتي، لمَ ليس لديه صديقات؟ كل تلك الأمور شغلت بالي كثيراً وقررت أن أواجه أبي وأسأله عمّا جرى. عدت إلى الفندق أفكّر بما سأقوله له وكيف سيجيب. هل أتكلّم معه بجفاء؟

أمضيت النهار كلّه وأنا على هذه الحال، لم أستطع الأكل أو حتى الاسترخاء إلى أن جاء المساء وحان وقت اللقاء. انتظرته كي يذهب إلى المنتزه ويطعم الطيور. جئت وجلست بقربه على المقعد. جال الصمت بضع دقائق ثم قلت له:
- "جميل أن تطعم الطيور هكذا، هذا يدلّ على أنك تملك قلباً كبير."
- "شكراً آنستي."
- "يا ليتك قمت بالاهتمام بأسرتك هكذا!"

نظر إليّ بإمعان ثم رجفت شفتيه وقال:
- "ماذا؟ ما الذي تقصدينه؟"
- "أنظر إليّ جيداً... من المؤكد أنك نسيتني بعد كل تلك السنين... يا أبي!"

انهمرت دموعه على خدّيه وفجأة طارت جميع الطيور وكأنها شعرت أن شيئاً مهماً يجري.
- "حبيبتي... أميرتي."

وانحنى وكأنه يريد معانقتي، لكنني ابتعدت عنه وقلت له:
- "يا لوقاحتك! أظننت أنك ستمحو ما فعلته بكلمة صغيرة؟ أميرتك، تركتها وغادرت لتسعى وراء ملذاتك!"
- "أهذا ما قالته لك؟ كنت أعلم أنها ستختلق أعذاراً لنفسها. اسأليها عن الحقيقة!"
- "ماتت أمي من شدة حزنها ومن جراء ما فعلته بها وبي."
- "لم أفعل شيئاً. ذنبي الوحيد أنني تركتك معها لكنني خفت عليك. اسمعيني، لم أذق طعم الهناء منذ فراقي عنك. أمك كانت امرأة شريرة ماكرة لا تحب سوى نفسها. في البداية، ظننت أنها تحبّني لكن عندما ولدتِ تغيّر كل شيء. باتت امرأة مستبدّة تريد الاحتفاظ بكل شيء لنفسها. عندما كنت أحملك بين ذراعيّ كانت تصرخ في وجهي وتأخذك مني. وجاء اليوم الذي طلبت فيه مني الرحيل من البيت. طبعاً رفضت ولكنها قالت أنها ستخبر الجميع أنني أحاول التحرّش بك جنسياً وأنها ستشتكي للسلطات كي أدخل السجن. قبلت أن أرحل، لا لأنني خفت من السجن أو من التشهير، بل لأنني لم أشأ أن تكرهيني وتظني أنني كنت أفعل تلك الأشياء الفظيعة بك. رحلت وقلبي معك، لم أكف يوماً عن التفكير بك. لم أشأ أن أتزوج كي لا يكون لي أولاد سواك. أنتِ أميرتي الوحيدة وستبقين جالسة على عرش قلبي إلى الأبد."

بكيت كثيراً عندما أخبرني بما جرى. بكيت لأنني علمت أنه يقول الحقيقة. بكيت على أمي التي تعاني مرضاً نفسياً وعلى أبي لأنه تمّ إبعاده عنّي وبكيت على نفسي لأنني كرهته طوال تلك السنين وكرهت بسببه جميع الرجال.
وضع يديه على خدي وقال لي:
- "لم يفت الأوان بعد... هل تقبلينني كأب لك، ما رأيك؟ وأعدك أن أبقى معك حتى آخر رمق من حياتي، سامحيني وسامحي أمك."

أخذني بين ذراعيه، فأغمضت عيني بقوة وشعرت أنني عدت الفتاة الصغيرة التي كانت تنتظر أباها كي يحملها على ظهره ويركض بها، وعلمت هذه المرة أنه لن يتركني أبداً.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button