الآنسة لمياء (الجزء الثاني)

عندما قالَت لمياء إنّ هناء وقعَت في الغرام، شعَرتُ أنّ الأمر كان بمثابة قنبلة محَت بطريقها علاقة كان مقدَّراً لها أن تدوم إلى الأبد. فإلى جانب تعلّق الأختَين ببعضهما، كنتُ قد قرأتُ مرارًا عن الصّلة التي تربط التؤامَين والتي لا مثيل لها.

حبست أنفاسي لأسمع مِن مضيفتي باقي القصّة. فتابعَت:

 

ـ في البدء أخفَت هناء عنّي حبّها لذلك الرجل، لأنّها كانت تخشى مِن ردّة فعليّ خاصة بعدما أقسمَت لي أنّها لن تتزوّج. ولكنّني كنتُ أعرفها أكثر مِن أيّ انسان على وجه الأرض، ولاحَظتُ تلك الابتسامة التي لا تفارق فم المغرومين، وتلك النظرة الحالمة التي كانت تأخذها إلى أماكن لا وجود لي فيها. إلى جانب ذلك، كانت هناك غياباتها غير المعهودة، فلم نكن نخرج للعمل بسبب عدم حاجتنا إلى ذلك، والأمكنة الوحيدة الذي كنّا نقصدها كانت المحلات لشراء حاجتنا مِن الأكل والشرب والملبَس، وكنّا نفعل ذلك سويًّا. إلا أنّ أختي أصبحَت تتركني وتذهب لوحدها وتعود متأخّرة.

صبرتُ عليها كي تأتي إليَّ بنفسها وتفصح عن الذي يجري، ولكنّها لم تفعل، لِذا قرَّرتُ أن أسألها:

 

ـ هناء... لستُ غبيّة... ما الذي يجري؟ هناك رجل في حياتكِ، أليس كذلك؟

 

ـ لا... أعني... أنّه... نعم! هناك رجل!

 

ـ أنسيتِ اتفاقنا؟

 

ـ لم أنسَه ولكن... يا لمياء... أصبَحنا في الثلاثين مِن عمرنا والوقت يمرّ.

 

ـ تخافين مِن أن تشيخي معي؟ مَن سيهتمّ بكِ أفضل منّي؟ مَن سيُحبّكِ أكثر منّي؟ تعرفين كيف هم الرجال، فلقد خرَجتِ مع العديد منهم ورأيتِ ما يُريدونَه منكِ: الجنس والمال.

 

ـ صحيحٌ ذلك ولكنّ جهاد مختلف... إنّه...

 

ـ إنّه يُمثّل عليكِ دور العاشق... حبيبتي... لا تقعي في فخّه، كوني قويّة.

 


ـ كلّ الفتيات تتزوّجنَ وتنجبنَ! لما لا نفعل مثلهنَّ؟ لماذا لدَيكِ هذا الهاجس؟ الحبّ جميل... أشعر بأنّني أطير فوق الغيوم!

 

ـ كفى! أخبريني عن "العريس"، مِن أيّة عائلة هو وما نوعيّة عمله وهل لدَيه ثروة؟

 

ـ إنّه مِن عائلة متوسّطة الدّخل ويعمل في شركة وليس لدَيه ثروة... إنسان عاديّ... ولكنّه رائع يا أختي، رائع!

 

ـ ستتركينَه على الفور! أتسمعين ما أقوله لكِ؟ سيُحطّم قلبكِ بعدما يُجرّدكِ مِن مالكِ... لن تخرجي مِن دوني بعد الآن!

 

ـ لستِ أمّي ولا أبي! أفعل ما أشاء!

 

لم أرَ أختي هكذا يومًا، وشعرتُ بأنّها تبتعد عنّي وقد أخسرها إلى الأبد، وما هو أهم مِن كلّ ذلك، أدرَكتُ أنّ عليَّ تغيير سياستي معها إن كنتُ أريد ابقاءها معي.

 

واتكَلتُ على حبّ هناء لي، فابتكَرتُ خطّة لا أفتخر بها ولكنّني آنذاك كنتُ مستعدّة لفعل أيّ شيء، ونسيتُ بلحظة كلّ مبادئي.

وبما أنّ المال يحلّ كلّ المشاكل ويُزيل العقبات ويشتري مَن هم للبيع، قصَدتُ طبيبًا علِمتُ أنّه يقوم بخدمات مقابل ما يُسكت ضميره، وطلبتُ منه أن يُزوّر تقريرًا مفاده أنّني مصابة بمرض عضال وأنّ أيّامي بخطر.

لم يتردّد الطبيب في تنفيذ طلبي، وأرفَقَ التقرير بتحاليل ووصفات وأدوية وهميّة، أي أّنّه قام بمهامه على أكمل وجه. هدَفي مِن كلّ ذلك كان الضغط على أختي لتترك حبيبها، إن كانت لا تريد أن تسوء حالتي وأموت.

إكتشَفتُ لدَيَّ موهبة التمثيل عندما بدأتُ أجلس في الصالون، وأحدّق بصمت بالحائط أمامي وأذرِف دمعة بين الحين والآخر. في البدء ظنَّت هناء أنّني مستاءة منّها بسبب رفضها التخلّي عن ذلك الرجل وقالَت لي:

 

ـ أنا آسفة لأنّكِ تشعرين بالحزن حيال موقفي.

 

ـ أنا؟ لا يا حبيبتي فلدَيَّ ما يشغل بالي أكثر مِن مغامراتكِ... لا عليكِ... سأكون بخير... على ما أظن.

 

ـ ما الأمر؟ تكلّمي! أرجوكِ!

 

وبعد أن توسَّلَت إليّ لأجيب، أرَيتُها على مضَض أوراق الطبيب. بدأَت المسكينة بالبكاء وعانقَتني بقوّة قائلة:

 

ـ يا إلهي! كيف استطَعتُ اغضابكِ وأنتِ بهذه الحالة!

 

ـ لقد منَعَ عنّي الطبيب المعالج أيّ زعل ولكن... ما عساني أفعل؟ هل أقيّدُكِ؟ أنتِ امرأة ناضجة وتعرفين ما عليكِ فعله بحياتكِ... خاصّة أنّني سأرحل قريبًا إلى حيث هما والدانا.

 


ـ لا تقولي ذلك يا أختي! ستتحسّنين... لن أزعلكِ بعد الآن!

 

ـ لا... عيشي حياتكِ... لن أغضبَ منكِ إن فضَّلتِ ذلك الغريب عليَّ.

 

ـ كيف تتصوّرين ولو للحظة أنّني قد أسبّب لكِ الزعل أو الوجَع مِن أجل رجل لا أعرف إن كان سيُسعدني أم لا؟ أنتِ عائلتي الوحيدة ونصفيَ الآخر.

 

علِمتُ أنّني اختَرتُ الوسيلة المناسبة للوصول إلى مبتغايَ، ولكن كان عليّ أن أواصل ما بدأتُه كي لا أترك أيّ فجوة تسمح لذلك العريس بالدخول مِن خلالها إلى حياتنا.

لِذا أخَذتُ أشغِل أختي بي، أي أنّني أصبحتُ أتّكل عليها بصنع الأكل والاهتمام بالبيت ومساعدتي في النهوض ودخول الحمّام. بكلمة، لم يعد لهناء الوقت لرؤية حبيبها. إلى جاب ذلك، كنتُ أوقظها في الليل على أنيني وأبقيها صاحية لتكون تعبة في اليوم التالي.

وسرعان ما باتَت هناء وكأنّها هي المريضة ولم يعد يراها حبيبها، حتى ساءَت الأحوال بينهما لأنّه لم يفهم كيف أنّها لا تجد الوقت الكافي لرؤيته أو حتى الاتصال به. وكيف له أن يتصوَّر أنّني بهذا المكر والدهاء؟ وعندما عَرَضَ عليها أن يتزوّجا بسرعة ليتمكّن مِن العيش معها، رفضت أختي طبعًا لأنّها كانت تخشى أن يقتلني الخبر، وحتى لو لم أمت لم تكن تقبل أن تتركني أعاني لوحدي.

وتركَت هناء حبيبها على مضض ولكن باقتناع تام. كانت تضحّي بسعادتها مِن أجل أختها المريضة، الأمر الذي عزّاها وساعدَها على تحمّل مصيبتها.

بقيتُ أمثَل عليها دور المريضة لأتأكّد مِن عدم رجوعها عن قرارها، ولم أرتَح إلا بعد سنة عندما علِمنا أنّ ذلك الرّجل تزوّجَ مِن أخرى.

وعندما كنتُ على وشك الإدّعاء بالتحسّن لنتابع حياتنا بشكل طبيعيّ، أخبرَتني هناء أنّها أخَذَت التقرير الطبيّ والتحاليل والوصفات إلى طبيب آخر، وأنّه يُريد رؤيتي بغَرَض الكشف عليَّ وإجراء فحوصات اضافيّة. عندها خفتُ كثيرًا طبعًا، فقد كان ذلك يعني انّ أمري سيُفضَح، فرفَضتُ قائلة إنّني أشعر بتحسّن ملحوظ، وأخَذتُ أتصرّف وكأنّني شفيت. ولكنّ ذلك أثارَ استغراب أختي بعدما أكَّدَ لها الطبيب الذي استشارَته أنّني وبحسب التقرير والتحاليل أعاني مِن مرض عضال، وأنّ لا أمل لي بالتحسّن وكلّ ما يُمكنه فعله هو تخفيف حدّة الأعراض.

وكي تتأكّد هناء مِن شكوكها، باتَت تصرّ وبشكل يوميّ أن أرافقها إلى الطبيب حتى طفَحَ كَيلي وبحتُ لها بالحقيقة معتقدةً أنّها ستفرح لمعرفة أنّني بخير أكثر مِن زعلها على غشّي لها. ولكنّني كنتُ مخطئة. سمِعَتني أروي لها ما فعلتُه وهي تنظر إليّ باستغراب، ومِن ثمّ بحزن. وقالَت لي:

 

ـ كنتِ عائلتي الوحيدة وسندَي في هذه الدنيا... منذ ما ولِدتُ وأنا أنظر إليكِ وكأنّكِ مثال أعلى لي... حَرَمتِني مِن الشبّان عندما كنتُ شابّة وأعَدتِ الكرّة الآن... لا أعلم ما هو السّبب وراء كرهكِ للرجال، ولكنّكِ بذلك أثبتِّ أنّكِ تكرهيني أيضًا... لا تجادلي... ولا تدّعي أنّكِ تحبّيني... أنتِ لا تحبّين سوى نفسكِ... أرَدتِني أن أبقى إلى جانبكِ حتى آخر يوم ولو كان ذلك على حساب سعادتي... مِن أيّ صنف أنتِ؟ وجَدتُ رجلاً يُحبّني ورأيتُ السّعادة تلوّح لي مِن بعيد، ولكنّكِ خنقتِ ذلك الأمل في مهده... رحَلَ حبيبي وأصبَحَ زوج أخرى وأنتِ، أنتِ رحلتِ مِنذ زمَن بعيد، رحلَتِ إلى عالمكِ الأسود وتريدين جرّي معكِ إليه... كنتِ سندي الوحيد... كنتِ مثالي الأعلى... كنتِ النسخة المفضّلة عندي... كنتِ.

 

ـ لماذا تتكلّمين بصيغة الماضي؟!؟

 

لم تجِبني وفضَّلَت الاختباء في غرفتها لتبكي على سجيّتها. بقيتُ لوحدي أبكي على ما فعَلتُه بها، وقرَّرتُ أن أعوّض لها بعدَم التدخّل بحياتها ثانية.

وفي الصّباح دخَلتُ غرفة هناء ووجدتُها ميّتة بعدما فتحَت عروق معصَمَيها بالمقص. كانت الشراشف حمراء اللون وهي شاحبة وباردة. صَرَختُ صرخة مزَّقَت جدران المنزل، ولكنّها لم تكن كافية للتعبير عن ألمي. رحَلت هناء وكنتُ أنا السبب، وكأنّني فتَحتُ معصمَيها بنفسي.

ومنذ ذلك اليوم وأنا أنتظر موعد موتي، فلستُ شجاعة كفاية لإنهاء حياتي.

هذه قصّتي يا صغيرتي... أصبحَت ملككِ... إفعلي ما تشائين بها... إفعلي ما تشائين بها.

وركّزَت لمياء نظرها بعيدًا وسكَتَت، ولم أشأ مقاطعتها حيث هي، أي عند أختها. قمتُ عن الكنبة على مهل، وخرَجتُ مِن البيت بعدما أقفَلتُ الباب على التي حُكِمَ عليها بالعيش مِن دون قطعتها الغائبة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button