اعتبرَتني أمّي غريمتها

كان حبّ أمّي لأبي جديراً بأن يكُتَب ويُروى لكل مَن فقدَ الأمل في صدقيّة مشاعر الناس لِبعضها. وكان أبي يبادلها هذا الحب ولِكثرة تعلّقه بها فعلَ المستحيل للزواج منها رغم الصعوبات العديدة التي واجهَته. وبعد سنين أستطاعا أخيراً المضيّ في حياة زوجيّة واعدة. ومِن حبّهما لِبعضهما ولِدتُ بعد سنتَين وسط فرحة لا توصف خاصة أنّ كلَيهما كان يحب البنات. وأصبحتُ لعبتهما وسلوتهما ومحطّ آمالهما. وكانت تلك القصّة الجميلة لِتستمر لولا الغيرة التي نشأَت في قلب أمّي حيالي. وقد يقول البعض أنّ ذلك مستحيلاً وأنّني أختلق القصص ولكن باقي الأحداث ستثبت صحّة كلامي.

حين كنتُ لا أزال طفلة لم يكن لِوالدتي أي مانع فيما يخصّني لأنّ الجميع كان يحاوطها ويساعدها وكان بيتنا دائماً مليئاً بالناس والأقارب. ولكن حين وجَدَت نفسها لوحدها مع أبي ومعي لاحظَت مدى اهتمامه بي. كان فخوراً بِنفسه لإنجاب هكذا بنت خاصة أنّني كنتُ جدّ جميلة وأتحلّى بِطباع وديّة. وتركيزه عليّ طوال الوقت بدأ يزعج أمّي ولكنّها لم تقل شيئاً خوفاً مِن أن تبدو سخيفة. وصرتُ رفيقة أبي يأخذني حيث يذهب وأتذكّر أنّه كان يضعني على كتفَيه ويدّعي أنّه حصان ويركض بي إلى البقّال أو اللحّام أو حتى عند أصدقائه. وعندما يعود كان يروي لوالدتي مدى أعجاب الناس بي وكيف كان يقول لهم: "طبعاً فهي إبنتي! أجمل وأذكى فتاة على وجه الأرض!". وأيّ أم كانت لِتفرح عند سماع ذلك إلاّ أمّي التي كانت تجاوبه: "ليست أجمل وأذكى بنت... عندما كنتُ في سنّها كنتُ أفوقها جمالاً ودهاءً... أنظر إليّ... حتى الآن أنا أجمل منها." ولكنّ أبي لم يكن يعير هذا الكلام أي أهميّة وكان يتابع حديثه عنّي.

وبالرغم مِن أهتمام أبي الدائم لها ولرغباتها وبالرغم أنّه لم يكفّ عن حبّها يوماً سكَنَ الغضب قلب أمّي وبدأَت تصبّه عليّ لأنّني وبكل بساطة كنتُ التي تقف بينها وبين حبيب العمر وأعتبرَتني غريمتها. وتتالَت العقابات على أتفَه الأمور خاصة عندما كان أبي في عمله لأنّها كانت تدري أنّه لن يدعَها تفعل لي شيئاً بِحضوره. ومِن ثمّ بدأت تضربني وأذكر حتى اليوم نظرتها وهي"تقوم بِتربيتي" كما كانت تقول. كانت وكأنّها تحمّلني ذنب العالم بأسره ولم أكن أفهم سبب هذه الأذيّة. وبالطبع كان ممنوع عليّ الأشتكاء لأبي تحت طائلة عقاب أقوى بعد.

 


وكبرتُ وسط كره أمّي وعبادة أبي لي أنتظر لحظة وجوده معي لأتنّفس قليلاً وأتذوّق طعم الطفولة. وتصاعدَت حالة أمّي عندما أصبحتُ مراهقة لأنّني بدأتُ أجسدّ فعليّاً "المرأة الثانية". فككل فتاة في هذا السنّ بدأت محاسني بالظهور وكنتُ ولِسوء حظيّ شابّة جميلة وجذّابة. وتمنّيتُ ألف مرّة أن يكون لي أخاً أو أختاً لِيبعد امتعاض أمّي عنّي ولكنّها قرّرَت عدم الأنجاب ثانية خوفاً مِن أن تأتي لِنفسها بِمصيبة أخرى. ولأنّني كنتُ قد بلغتُ سنّاً يسمح لي بالوقوف بوجهها ومنعها مِن معاقبَتي على الأقل جسديّاً ارتأت والدتي أنّه مِن الأفضل لها أن تستعمل أستراتيجيّة ثانية معي. لا أدري أن كانت واعية على ما فعَلته أم أنّ عقلها الباطني هو الذي رتّبَ كل شيء ولكن النتيجة كانت واحدة. ففي أحد الأيّام جاءَت إليّ وقالت لي:

 

ـ حبيبتي...

 

ـ ماذا تريدين؟ قلّما تناديني بهذه الكلمة.

 

ـ لماذا تقولين ذلك؟ أنا أمّكِ وأحبّكِ كثيراً.

 

ـ أنتِ لا تحبّيني... أبي يحبّني أما أنتِ فلم أرَ يوماً نظرة حبّ في عينيكِ.

 

ـ أبوكِ... هو موضوع حديثي معكِ الآن...

 

ـ ما الأمر؟ هل حدث له مكروهاً؟؟؟

 

ـ لا... لا... أريد منكِ أن تبتعدي عنه بعض الشيء... أعني أنّكِ أصبحتِ شابّة الآن ولا يجوز...

 

ـ ما الذي لا يجوز؟

 

ـ أن تجلسي مثلاً في حضنه... هذا مكان زوجة لا إبنة.

 

ـ هذا ما يزعجكِ إذاً... أن آخذ مكانكِ... ألا ترَين أنّه يحبّكِ كثيراً؟ أو أنّكِ تريدينه كلّه لكِ؟

 

ـ لا تزالين صغيرة ولا تفهمين بأمور الحياة... الرجال... أعنّي أنّهم ليسوا مثلنا.

 

ـ ماذا تعنين؟ أنّه أبي! كيف تظنّين أنّه قد ينظر إليّ نظرة مخالفة؟

 

ـ أراقبه منذ فترة طويلة وما أراه لا يعجبني... أخاف عليكِ منه... حبّه لكِ غير سليم... أنظري حولكِ.... هل يتصرّف أباء صديقاتكِ معهنّ مثلما يفعل أبوكِ معكِ؟

 

ـ إذا كنتِ تعنين الدلال والأنتباه والأفتخار بي مهما فعلتُ فلا.

 

ـ أرأيتِ؟

 

ـ ولكن هذا لا يعني أنّه...

 

ـ أقول لكِ أنّني أراقبه... كان يأخذكِ معه إلى السرير وتنامين قربه ساعات قبل أن أنقلكِ إلى فراشكِ... كان يلصق نفسه بكِ.

 

ـ كفى! لا أريد سماع المزيد مِن التفاهات! أبي يحبّني كثيراً هذا كل ما في الأمر!

 

ـ أبتعدي عنه... أسمعي منّي ولو مرّة واحدة... وأيّاكِ أن تطلعيه على حديثنا... وإلاّ أدركَ أنّنا على علم يما يدور في رأسه.

 

ورغم سخافة الأمر لم أستطع طرد الفكرة مِن بالي. كانت أمّي كعادتها نجَحت في أثارة البلبلة. وبدأتُ أنظر إلى والدي وكأنّني أراه لأوّل مرّة وأفسّر كل حركة مِن حركاته حسب نظريّة أمّي. فبالرغم مِن أنّني كنتُ أعلم قلّة حبّها لي كانت هي التي ربّتني وكانت تتحلّى بوطأة كبيرة عليّ.

 


وهكذا بدأتُ أنزعج مِن ملامسته لِوجهي وإطراءه وأجلس بعيدة عنه قدر المستطاع. أمّا هو فلاحظَ طبعاً بعدي عنه وردّ الأمر إلى خجل المراهقات ورغبتهنّ بأثبات شخصيتهنّ. فكان أبي رجلاً رصيناً ومثقّفاً يقرأ كثيراً ويبقى مطّلعاً على كل شيء. لِذا قرّرَ أحترام رغبتي في الأنعزال كجزء مِن نشأتي الطبيعيّة. ولم أجد أحداً ألجأ إليّه فأستّدَرتُ إلى أمّي معتبرة أنّها الوحيدة التي تحبّني فعلاً لأنّها نبّهَتني مِن والدي الأمر الذي أرضى غرورها وعزّزَ مِن وطأتها عليّ. ونسيتُ أيّام الذل والعذاب النفسيّ والجسديّ ورحتُ أبكي لها عن أسفي على هكذا أب. ولأنّها أحسَّت بِقوّة خارقة قرّرَت أن تضيف على ألمي بعض التفاصيل البشعة:

 

ـ لا تبكِ يا حبيبتي... لقد أنكشفَ أمره... فكّرتُ مراراً بالرحيل وأخذكِ معي خاصة عندما...

 

ـ عندما ماذا؟

 

ـ كيف أقول لكِ هذا... عندما عدتُ مِن منزل جدّتكِ ووجدتُه بالمغطس معكِ... كنتما عاريان وكان يفرك جسدكِ... كنتِ في السادسة مِن عمركِ.

 

ـ يا ألهي! لا أتذكّر ذلك... وماذا فعلتِ؟

 

ـ أخرجتُكِ بِسرعة مِن الماء وألبستكِ وهدّدتُه بألاّ يعيد الكرّة وإلاّ اشتكيتُ عليه.

 

وأقشعرَّ بدَني وأنهارَ عالمي الذي بنَيتُه حول عظمة والدي. هل يُعقَل أن يكون هذا الرجل شاذاً إلى هذه الدرجة؟ وعَرَضَت عليّ أمّي أن أذهب إلى مدرسة داخليّة لأكون وحسب قولها "بأمان مِن الوحش." وكانت بالطبع تريد إزاحتي نهائيّاً مِن طريقها لِتستمتع لِوحدها بأبي وتستعيد أيّام الماضي حين كانا مِن دوني. وووجدتُ الفكرة مُغرية خاصة أنّني لم أعد أطيق التواجد مع والدي وتحت سقف واحد. لِذا قبِلتُ أن أرحل بعيداً حين تبدأ السنة الدراسيّة الجديدة. وعندما علِمَ أبي بالأمر أندهشَ كثيراً وقرّرَ منعي مِن الذهاب. وفي ذاك مساء دَخَل غرفتي ليقنعني بِتغيير رأي. جلَسَ على سريري ووضع يده عليّ فصرَختُ به:

 

ـ أيّاكِ أن تلمسني! لن أقبل بذلك بعد الآن! سأرحل بعيداً عن شذوذكَ!

 

نظَرَ إليّ بأستغراب ومِن ثم بِحزن وسألَني عمّا أتكلّم. وأخبرتُه عن شكوكي ومخاوفي. عندها هزّ رأسه وصرَخ:

 

ـ أمال! تعالي! الآن!

 

دخَلَت أمّي الغرفة وأدركَت ما يجري. وسألَت أبي بِصوت ناعم عمّا يدور فقال لها:

 

ـ لا تظنّي أنّني لم أكن على معرفة بالذي تفعلينه بالبنت طوال كل تلك السنين... وعملتُ جهدي على الدفاع عنها وحمايتها مِن طغيانكِ... وزدتُ أهتمامي بكِ آملاً أن يطمئنّ بالكِ وتتركي إبنتنا بِسلام... صحيح أنّني أعبدها ولكن كأب وليس أكثر... فهي ثمرة حبّنا وكنتُ فخوراً بما خلقناه... لماذا لا يسعكِ أن تتخيّلي أنّني أستطيع حبكنّ معاً؟ أحبكِ كزوجة وأحبّها كأبنة... ولكنّكِ أعتبرتيها عدوّة بدل أن تحبّيها وقرّرتِ تدمير حياتها وتشويه صورتي لديها ومِن ثم أبعادها... وتريدينَني أن أحبّكِ بعد كل ما فعلتيه؟ قولي لإبنتكِ الحقيقة! الآن!

 

وأعترفَت أمّي بكل شيء أيّ أنّها قرّرَت وضع الشك برأسي حيال أبي كي أكرهه وأبتعد عنه قدر المستطاع. ثمّ قالت له باكية:

 

ـ كل ما أردتُه هو أن تحبَّني كالسابق.

 

ـ لم أكف يوماً... ولكن عليكِ أوّلاً أن تحبّي نفسكِ وأن تدركي أنّكِ تستحقّين حبّي... ومجيء إبنتنا أو أي إمرأة في العالم لن يزعزع حبّي لكِ... والأثبات الأكبر هو أنّني لا أزال أحبّكِ رغم كل الذي فعلتيه... ولكن علينا أن نرى إن كانت ابنتنا مستعدّة لِمسامحتكِ.

 

وقرّرتُ أن أذهب الى تلك المدرسة لِمدّة سنة لأعطي والدَيّ فرصة المصارحة والمسامحة. أرَدتُ أن ترى أمّي مدى حب أبي لها وأن تستوعب فظاعة ما فعلَته بي. وحين عدتُ اكتشفتُ امرأة جديدة وبِسلام مع نفسها وذقتُ أخيراً طعم العيش وسط عائلة متوازنة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button