استعبدَتنا سيّدة الفيلّا

لم أشأ يوماً أن نعمل عند تلك السيّدة ولكنّ أحوالنا كانت قد ساءَت لِدرجة أنّنا لم نعد قادرين على إيجاد لقمة عيشنا. والسبب في وضعنا هذا كان افلاس وأقفال المعمل الذي كان يوظّف طارق زوجي.

وبقينا مِن دون أي مدخول حتى أن وجدنا أنفسنا غير قادرين على دفع إيجار مسكننا وحاجات أولادنا الثلاثة. فحين لم يعد أمامنا خياراً سوى الشارع أو الانتقال إلى تلك الفيلا، قبلتُ على مضد أن أصبح منظّفة منزل وزوجي جنائنيّ وحارس. وتردّدي هذا عائداً إلى رفضي بالقيام بِتنظيف منازل الناس لأنّني لم أتصوّر يوماً أن تصل بنا الحال إلى ذلك.

وعندما وصلنا إلى الفيلا تعرّفتُ إلى السيّدة ألفَت ولم أحبّها، ربمّا لأنّها نظَرَت إليّ وكأنّني ذبابة صغيرة جاءَت تلتصق على إحدى شبابيك منزلها الفخم. ولم تَعيِر تلك المرأة أي أهميّة لأولادنا الواقفين أمامها بل أكتفَت بِتوجيه الكلام لِطارق:

 

ـ غرفتكم في الحديقة جاهزة... ضَع أمتعتكَ ووافيني في الردهة.

 

وذهبنا إلى مسكننا الجديد أي غرفة كبيرة في وسط الأزهار والشجر وأعترف أنّها أعجَبَتني وأعجَبت صغاري. ولكنّني احتَرتُ بشأن مهامي، فلم تقل لي السيّدة شيء عن الذي تنتظره منّي، فبقيتُ في الغرفة ريثما تأتي الأوامر.

وعندما عاد زوجي مِن أجتماعه بِسيّدة المنزل قال لي:

 

ـ ما بكِ جالسة هكذا؟ هيّا إلى العمل! أو أنّكِ تريدين أن نُطرد مِن اليوم الأوّل؟

 

ـ أي عمل؟ لم يقل لي أحد شيئاً! بماذا أبدأ ومِن أين؟

 

ـ أذهبي إلى المطبخ وحاولي فعل أي شيء... أبحثي عن المكانس والمماسح وأبدئي بالتنظيف!

 

ـ أكره ما يحصل لنا... أكره حياتي!

 

ـ كفى تذمّر... هيّا!

 


وقصدتُ المطبخ وفوجئتُ بِحجمه الكبير وبِتجهيزاته الحديثة، وأخذتُ أفتّش عن أدوات التنظيف التي وجدتُها أخيراً في غرفة مخصّصة لها. وبعد حوالي الساعة بدأتُ العمل في غرف النوم التي في الطابق الأوّل ولكن بعد وصولي بِبضع دقائق أطلّت ألفت صارخة:

 

ـ مَن أذَن لكِ بِدخول الغرف؟

 

ـ أنا آسفة سيّدتي ولكن... لم أجد أحداً وظننتُ أنّ عليّ بدء العمل.

 

ـ أخرجي فوراً... أنا سيّدة المكان وأنا أقول لكِ ما عليكِ فعله... أيّاكِ أن تدخلي الغرف مِن دون إذني!

 

وركضتُ أبكي عند زوجي وأشكو له مِن قلّة أحترام ألفَت. وبعد أن أستمع إليّ وعدَني بأن يتكلّم معها. وفي المساء قال لي طارق:

 

ـ أسمعي... السيّدة ألفَت كبيرة في السنّ ووحيدة بعدما مات زوجها وسافر أولادها إلى الخارج... عليكِ تفهّم وضعها وسنّها... إضافة إلى ذلك هي فرصتنا الوحيدة على الأقل بالوقت الحاضر... كلّمتُها كما وعدتكِ وقالت لي أنّها ستترك تعليماتها لكِ كل صباح على ورقة وعليكِ التقيّد بها حرفيّاً.

 

وقبلتُ بِوضعي مستغربة هذا الأسلوب الغير معهود وبدأتُ العمل حسب طلبات ألفَت بينما كان زوجي يهتمّ بالحديقة وبالتصليحات اللازمة في البيت الكبير. ومع مرور الأيّام والأشهر بدأتُ ألاحظ تغيّراً في علاقة زوجي بي وبألفَت. فبات الوقت الذي يقضيه عندها أطول بكثير مِن الأوّل حتى أنّه لم يعد لديه دواماً محدّداً وكان بأمكان ألفَت أستدعائه بأيّ وقت كان ولأيّ سبب.

وكان طارق يركض ليرى ما تريده وذلك دون أن يتذمّر حتى لو تطلّب الأمر تركنا لوحدنا في وسط الليل. وحين أعربتُ عن استيائي قال لي:

 

ـ ماذا تريدينني أن أفعل؟ أن أغضبها لِترمينا في الشارع؟

 

ـ لا... ولكنّ الأمر خرَجَ عن حدوده... بالكاد نراك ولِكثرة انشغالكَ أصبحتَ تعباً طوال الوقت... لِما لا تكلّم السيّدة لِتعفيكَ عن هذا العمل المتعب؟ لم نأتِ إلى هنا للعمل ليلاً نهاراً.

 

ـ وما دخلكِ أنتِ؟ لستُ تعباً ولن أخاطر بإغضاب السيّدة.

 

ولم يكن طارق يوماً فظاً معي وأرجعتُ الأمر إلى تعبه وسكتُّ. ولو كانت ألفَت قد قرّرَت تشغيلي كما تفعل مع زوجي لتركتُ لها المنزل وغادرتُ. ولكنّ الأمور لم تقف إلى ذلك الحد بل تفاقمَت.

ففي ذاك نهار عندما طلبتُ مِن طارق أن يأخذني إلى السوق لِشراء فستان أرجأني إلى اليوم التالي ريثما يأخذ موافقة السيّدة بالخروج مِن الفيلا. ولكنّ ردّها جاء واضحاً: "زوجتكَ ليست بِحاجة إلى فساتين فهي لا تذهب إلى أيّ مكان... ويجدر بها أن تدخّر المال لِتصرفه على أولادها بدلاً مِن نفسها."

لم أصدّق أذنَيّ عندما أخبرَني زوجي بالذي قالَته. عندها قلتُ له: "وأنتَ... ماذا أجبتُها؟ هل أفهَمتها أنّ ذلك ليس مِن شأنها؟". ولكنّه سكتَ وعلِمتُ أنّه مرّة أخرى خافَ أن يغضب ربّة عمله.

ومنذ ذلك اليوم أصبحتُ أنتظر موافقة ألفَت لآكل وأنام وحتى أرى زوجي. ولولا كبر سن تلك المرأة لظننتُ أنّ هناك شيئاً بينها وبين طارق. ولكنّ الأمر لم يكن وارداً فكانت بسنّ أمّه وحتى أكبر. ولم أفهم سرّ تعلّق زوجي برأي وطلبات ألفَت خاصة عندما زارَنا أحد أقرباءنا وقال لنا أنّه وجَدَ لِطارق عملاً يشبه الذي كان لدَيه ولكن مع راتب أعلى. ولكنّ زوجي رفضَ تلك الفرصة الذهبيّة قائلاً: "شكراً جزيلاً يا صاحبي ولكنّنا بألف خير هنا... أليس كذلك حبيبتي؟".

 


ونظَرَ إليّ منتظراً ردّي ولكنّني لم أجب لأنّني كنتُ مذهولة لِردّة فعله. كيف له أن يرفض ترك هذا المكان البشع حيث يعمل مِن الصباح بِراتب رديء؟ وعندما ذهبَ ضيفنا سألتُه هذا السؤال فقال لي:

 

ـ صحيح أنّني أتعب كثيراً ولكنَ السيّدة لطيفة معنا ونعيش عيشة جميلة هنا.

 

ـ ماذا؟ أقضي وقتي بِتنظيف مكان شاسع وأنتَ تعمل كالعبد لِصالح إنسانة أنانيّة وجشعة... بالكاد نراك وحين تكون هنا تقضي وقتكَ بالصراخ علينا وكأنّنا نزعجكَ... لماذا تتحمّل كل ذلك منها؟ ولماذا لم تقبل عرض قريبنا؟ أريد أن أعرف السرّ وراء أصراركَ على البقاء.

 

ـ هذا ليس مِن شأنكِ.


ـ بلى... لم أتزوّجكَ لأصبح خادمة!

 

ـ تعلمين أنّ ظروفنا صعبة وعليكِ تحمّل الوضع معي.

 

ـ صحيح ذلك ولكن بأيّ ثمَن؟


وأنهى الحديث وامتلأتُ غضباً لِحياة لم يعد لها أي طعم.

ومرّت أشهر ومِن ثم سنة ولم أعد أطيق شيء خاصة بعدما بات طارق يعيش بِطريقة شبه دائمة في البيت الكبير. لِذا قرّرتُ أن أتصرّف حتى لو كلّفني الأمر زواجي.

أنتظرتُ أن يكون زوجي قد خرج لشراء بعض الحاجات للسيّدة حتى قصدتُ ألفَت وهي جالسة في الصالون تقرأ الجريدة. وحين رأتني واقفة أمامها قالت لي بإزدراء:

 

ـ ماذا تريدين؟ أليس لدَيكِ عملاً؟ أنا لا أدفع لكم كي تقفي كالهبلاء هكذا.

 

ـ لا داعي لإستعمال الألفاظ المهينة سيّدتي... لدَيّ كرامة كأي شخص آخر! زوجي وأنا...

 

ـ زوجكِ... لدَيه كرامة؟ دعيني أضحك!

 

ـ أجل فهو رجل نزيه يعمل جهده لِتأمين لقمة عيشنا بِكرامة! إلا يخدمكِ ليلاً نهاراً؟ وهذا ما جئتُ أكلّمكِ به... أرجو منكِ أن تخفّفي مِن أوقات عمله فهو يتعب ولم نعد نراه كالسابق.

 

ـ طارق ليس رجل نزيه... أنت بالفعل بلهاء...

 

ـ لا أسمح لكِ أن...

 

ـ أصمتي! لم أكن أريد فضحه لا لأنّني أكنّ له بأيّ مودّة ولكنّ كنتُ مستفيدة مِن حفظ سرّه.

 

ـ أي سرّ؟

 

ـ زوجكِ النزيه حاولَ سرقتي بعد أشهر قليلة مِن مجيئكم إلى بيتي... استقبلتُكم في أملاكي وائتمنتُكم على ما لدَيّ وإذ بي أكتشف أنّني أوَيتُ سارق... أجل... سارق... في إحدى الليالي سمعتُ ضجّة في الصالون وإذ بي أكتشف طارق وهو يسلبني مِن فضيّات الخزانة الكبيرة... هي نفسها التي تنظّفيها يوميّاً... وكنتُ على وشك الإتصال بالشرطة عندما توسّلَ إليّ بألاّ أفعل وقبلتُ أن أحفظ سرّه شرط أن يعمل لِحسابي على مدار الساعة وإلاّ يفكرّ بالرحيل أبداً.

 

ـ أستغلّيَتِ خوفه مِن السجن!

 

ـ أجل... أستغّليتُ سارق... أم أنّكِ تريدين أن أسامحه على ما فعلَه؟

 

ـ كان بإمكانكِ طردنا ولكنّكِ لستِ أفضل منه... على كل حال لم أعد أريد المكوث هنا ولو كلّفني الأمر أن أموت جوعاً مع أولادي... ولن أبقى مع زوجي بعدما حاول سرقة امرأة تعيش لِوحدها وأمّنَت له... كما قلتُ لكِ سابقاً... كنتِ الضحيّة ولكنّكِ أصبحتِ أقبح منه حين قرّرتِ التكتّم عن السرقة والاستفادة منها... الوداع!

 

ومِن بعد ذلك واجهتُ زوجي بالذي علِمتُه ولِمتُه على ما فعلَه بنا أي جعلنا نتحمّل الذِل والإهانة كي لا تفضحه ألفَت بدل أن يبوح لي بسرّه. وتوسَّلتُ اليه بأن يترك ألفَت ويتحمّل مسؤوليّته ولكنّه رفضَ، فأخذتُ الأولاد ورحلتُ الى أهلي. وبعد أيّام وجدتُ عملاً في شركة أنظّف مكاتبها وأحضّر القهوة لِموظّفيها. وحتى يومنا هذا لا يزال طارق يعمل عند سيّدة الفيلا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button