يوم أُذيعَ الخبر تغيّرَت حياتي إلى الأبد لأنّ الناس يحبّون الفضائح ويهوون لحظة ما يقع الآخرون وكأنّهم يقولون: "أنظروا ما فعَلَ ذلك أو تلك... نحن أفضل منهم بكثير!" وفي غالب الأحيان يكونوا هؤلاء أبشع بكثير مِن الذين أُشيرَت إليهم أصابع الإتّهام.
كانت أيّامي هادئة وهنيئة وأتذكّر أنّني قلتُ لأمّي أنّني بلغتُ درجة مِن السعادة لم تسبق وأنّ حياتي أصبحَت تماماً كما أردتُها أن تكون خاصة بعدما تعرّفتُ إلى نادر وتمَّت خطوبتنا. أما مِن الناحية المهنيّة فكنتُ مدرّسة ناجحة محبوبة مِن تلاميذي وأهلهم وأفراد الهيئة التعليميّة والإدارة بأجمعها. كيف إنقلَبَت الظروف ضدّي؟ بسبب رجل صدَّيتُه فأرادَ الإنتقام منّي بتخريب كل ما بنَيتُه بإجتهادي. ولم أتصوّر أبداً أن يصل شخص إلى هذا الحدّ مِن الأذى والكذب فقط بسبب كبرياءه.
كنتُ آنذاك أدرّس اللغّة الإنكليزيّة للصفّ الثامِن أي أنّ تلاميذي كانوا في سنّ الثالثة عشر أي بِسنّ يحاولون فيه تثبيت شخصيتّهم. ولكنّني كنتُ معتادة على ذلك وأعرف كيف أجاريهم وأضبطهم في آن واحد. ولكن وككل سنة كان هناك تلميذاً مشاغباً وصعب المزاج ومِن خوفي على أن يؤثّر على رفاقه كنتُ أطلب رؤية أهله للتحدّث معهم في سبل معالجة الأمر. وهذا ما حصَلَ مع إبراهيم الذي لم يكن يريد الإلتزام بقوانين المدرسة والصفّ. وجاء أبوه إلى الموعد وإستقبلتُه في القاعة المخصّصة لمقابلة الأهل وشرحتُ له ما يحصل مع إبنه. وأبدا الرجل تفاهماً تامّاً معي ووعَدَني أن ينسّق مع زوجته للسيطرة على ولدهما. شكرتُه لتعاونه ورحلَ. ولكن بعد أسبوعَين على هذا اللقاء بقيَ إبراهيم يشاغب في الصفّ لبل زادَ مِن عصيانه. فطلبتُ رؤية أهله مِن جديد وأصرّيتُ أن تأتي الأم أيضاً. ولكنّ الأب جاء مرّة أخرى لوحده وشرحَ لي أنّ زوجته مريضة. عندها سألتُه إن كان أخذَ تدابير مع إبنه وأجابَني أنّه فعل ولكن مِن دون جدوى. ولكن بعد دقائق قليلة قام الرجل مِن مكانه وإقتربَ منّي ولمَسَ شعري وقال:
ـ وكيف تريدين أن يركزّ إبني على الدرس عندما تكون معلّمته بهذا الجمال؟
عندها أزَحتُ رأسي وطلبتُ منه أن يعود إلى كرسيّه وقلتُ له أنّ لا لزوم لهذه الحركات. وأضَفتُ:
ـ لقد إنتهى الإجتماع... شكراً لمجيئكَ.
ـ بهذه السرعة؟ لم نبدأ بعد.
ـ قلتُ لكَ أنّنا إنتهَينا... لديّ أهل آخرون عليّ رؤيتهم.
ـ ولكنّهم ليسوا مثلي... للحقيقة أرادَت زوجتي أن ترافقني إلى هنا ولكنّني منعتُها مِن ذلك.
ـ يا للمرأة المطيعة!
ـ أجل... هكذا أحبّ أن تكون نسائي... مطيعات... هل ستكونين مطيعة؟
ـ ما هذا الكلام الفارغ؟ أخرج مِن هنا حالاً!
ونظرَ إليّ ضاحكاً وخرجَ قائلاً:
ـ أنتِ كالنمرة... شرسة ومتوحّشة... ولكنّني سأروّضكِ!
وبقيتُ في القاعة أرتجف مِن الغضب وبعد بضعة دقائق مِن التفكير بالذي حصل إستنتجتُ أنّه إنسان مريض فكيف به أن يكلّمني بهذه الطريقة لو لم يكن مختلاًّ؟ وبفضل تلاميذي وحبّي لهم نسيتُ تقريباً ما حصل وعندما إنتهى عملي وجدتُ أنّ لا لزوم لأن أخبر أحداً عن تلك المقابلة المزعجة. ولكنّ الأمر لم ينتَهِ عند ذلك بل بدأ أب إبراهيم بإنتظاري خارج المدرسة عند إنتهاء الدروس ويحاولة التحدّث معي واللحاق بي على الطريق. وإستطعتُ تفاديه والهروب منه في كل مرّة خوفاً مِن جلب الأنظار إليّ وإفتعال مشاكل كنتُ بغِنى عنها. ولو قلتُ للمديرة عن الذي يفعله ذلك الرجل لما آلَت بي الأحداث إلى نقطة اللا رجوع. فأحياناً نظنّ أنّ بإستطاعتنا حلّ المشاكل بأنفسنا ولكنّ العالم مليء بالناس الفاسدة والمؤذية. وعندما أدركَ ذلك الشخص أخيراً أنّني لا أريده وأنّني لن أغيّر رأيي بتاتاً قرّرَ أن يلقّنني درساً لن أنسيه بحياتي. وليفعل ذلك وليؤذيني بأكبر قدر ممكن إستعملَ إبنه الذي كان يمشي على خطاه في مجال الشرّ والمكر.
ففي أحد الأيّام عندما قُرِعَ جرَس نهاية الدروس وخرجتُ لأصعد بسيّارتي وأعود إلى البيت رأيتُ إبراهيم واقفاً لوحده والدموع تنهال على خدوده. إقتربتُ منه وسألتُه ما به فأجابَني أنّ أمّه نُقِلَت إلى المستشفى وأنّ أبوه معها ولا يعرف كيف سيستطيع الذهاب لرؤية والدته. ولم أكن قادرة على تركه هكذا فعرَضتُ عليه إيصاله إلى المستشفى. وقبل أن يصعد في السيّارة قال لرفاقه: "أنا ذاهب مع الآنسة... ستوصلني بنفسها اليوم". وكان قد فعَلَ ذلك ليكون هناك شهوداً على أنّه ركِبَ معي في ذلك اليوم. وأخذتُه إلى المستشفى المذكور وسألتُه إن كان يريد أن أرافقه حتى غرفة أمّه لكنّه رفضَ بتهذيب.
ورجعتُ إلى بيتي متمنيّة أن تتحسّن حالة المريضة ولم أشكّ أبداً بالذي كان ينتظرني في اليوم التالي. ولحظة ما وطأَت قدَمي حرَم المدرسة في الصباح قيلَ لي أنّ المديرة في إنتظاري وتريد رؤيتي في الحال. ومِن ملامح وجهها علِمتُ أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام فكانت تلك المرأة تكنّ لي مودّة خاصّة منذ ما بدأتُ العمل لدَيها. طلَبَت منّي أن أجلس وقالت لي:
ـ جاءَتني مخابرة مِن أب إبراهيم البارحة مساءً...
ـ هذا الولد صعب جدّاً ولقد تكلّمتُ مع أبيه مرّتَين... ما الأمر الآن؟
ـ الأمر يا آنسة أنّه... أعني الولد... قال لأبيه أنّكِ حاولتِ التحرّش به بالأمس.
ـ أنا؟؟؟ أتحرّش بصبّي؟ ما هذا الكلام الفارغ؟
ـ هل صحيح أنّكِ أقلَّيتيه البارحة في سيّارتكِ؟
ـ أجل.
ـ ولماذا تفعلين هذا؟
ـ لأنّه قال لي أنّ أمّه في المستشفى وأنّه يريد الذهاب إليها!
ـ أمّه بخير وبمنزلها... تكلّمَت معي أيضاً.
ـ كيف تصدّقين هذه الأقاويل؟
ـ الفتى قال لأبيه أنّكِ عرضتِ عليه توصيلة ومِن ثمّ أوقفتِ السيّارة في مكان هادئ وإقتربتِ منه وقبَّلتيه.
ـ ماذا؟؟؟
ـ وعندما حاولَ التخلّص مِن قبلتكِ قمتِ بعضّه بشفتّه ما سبب له بجرح عميق... وعندما رأيتِ الدم يخرج مِن فمه أوصلتيه إلى المستشفى.
ـ هذا كذب ونفاق! أريد رؤيته الآن! إين هو؟
ـ لقد طلبتُ مِن أهله أن يأتيا به... سيصلان بعد قليل.
وجلسنا أنا والمديرة صامتَتَين حتى أن قُرِعَ بابها ودخلَ الولد مع أبيه. كان إبراهيم يحمل آثار عضّة على فمه وتقطيب. وعندما رآني الأب صَرَخَ للمديرة: "يجب أن تُزَجّ هذه المهووسة الجنسيّة في السجن بعدما فعَلَته بإبني!". لم أجِب على ما قالَه بل إقتربتُ مِن الصبيّ وسألتُه إن كان ما يُقال صحيحاً فإجابَ: "أجل... لقد حاولتِ تقبيلي وقضَمتِ شفّتي!". وهَرَب مِن المكتب وأسرع بإخبار تلك القصّة الخياليّة إلى رفاقه. وفي هذه الأثناء أكّدَت المديرة للأب أنّها ستعالج الموضوع حسب الأصول وطلبَت منه الرحيل. وعندما أصبحَنا لوحدنا قالت لي:
ـ بالطبع لا أصدّق كلمة واحدة مِن هذه الرواية ولكن عليّ إرجاعكِ إلى بيتكِ ريثما يتوضّح لي كل شيء... هل تعلمين لماذا يفعَلَ إبراهيم او والده ذلك ؟
وأخبرتُها القصّة مِن أوّلها. وإستمعَت إليّ المرأة بِصمت وطلبَت منّي أن أثق بأنّها ستفعل المستحيل لإبراز الحقيقة. وبالطبع أُشيعَ الخبر بلحظة وإضطريتُ لإخبار أهلي وخطيبي بالأمر خوفاً مِن أن يعلموا مِن أحد غيري ويصدّقون أنّني قادرة على فعل هكذا شيء. وصدّقَني أهلي لأنّهم كانوا يعلمون أنّني لا أستطيع ولا بأيّ طريقة التحرّش بصبيّ ولكنّ نادر خطيبي شكّ بي ما أدخلَني بِغضب شديد. كيف يمكنه أن يظنّ ولو لثانية واحدة أن يكون الخبر صحيحاً؟ كان سيصبح زوجي وكنّا سنقضي باقي حياتنا سويّاً! لِذا فضّلتُ الإنفصال عنه أوّلاً لأنّه لم يكن يثق بي وثانياً لأنّه لم يعطني الدعم الذي كنتُ بحاجة إليه في هكذا ظرف.
والحقيقة أنّني لم أحزن كثيراً على خسارته وشكرتُ ربّي أنّه أراني وجهه الحقيقيّ. وحين بدأتُ أشعر بمضايقات الناس لي ونظراتهم المؤذية قرّرتُ الذهاب إلى منزل جدّتي في القرية حيث لا يعرفني أحد. وتدهوَرَت معنويّاتي ومِن ثمّ صحتّي حتى خلتُ أنّ حياتي إنتهَت ووصلً الحدّ بي إلى التفكير بالإنتحار. ولكنّ زيارة المديرة لي غيرّت مجرى الإحداث. كانت قد مرَّت بأهلي لرؤيتي وقالوا لها أنّني في القرية فجاءَت لتُطلعني على ما حدث أثناء غيابي. ولأنّها لم تصدّق قصّة تلميذي فكرَّت بطريقة لإجباره على قول الحقيقة. لِذا طلبَت مِن أحد أقاربها الذي يعمل بشرطة المدينة أن يأتي إلى مكتبها وأخبرَته بكل شيء. ثمّ إستَدعَت إبراهيم الذي فوجئ بوجود رجل بِزَيّ الشرطة وتغيّرَ لونه. عندها طلبَت المديرة منه أن يقول الحقيقة بكاملها وإلاّ سيأخذه الشرطي إلى السجن. وبدأ إبراهيم بالبكاء وطلبَ السماح وقال لهم أنّ أباه أقنَعه بتمثيل هذا الدور تحت ذريعة أنّ المدرّسة شريّرة ويجب إقالتها لكي يرتاح الصبيّ مِن تأنيباتها المستمرّة له. وأخبَرَهما كيف شقّ أبوه شفتّه بواسطة سكّين ثمّ أخَذه للمعالجة. وأقسَمَ أنّني لم ألمسه أبداً ولم أحاول شيئاً معه بل أوصَلتُه إلى المستشفى كما طلبَ منّي أن أفعل. عندها قال الشرطي للمديرة أن تطلب منّي أن أقدّم شكوى قدح وذمّ ومحاولة تشويه للسمعة ضد الأب وأنّ ذلك ضروريّ لفتح تحقيق وإبراز براءتي. وهذا ما فعلتُ لأنّ ذلك كان مِن حقيّ وأن ما فعلَه أب إبراهيم كان سيؤدّي إلى خراب حياتي وربمّا إلى موتي.
وعدتُ إلى التعليم بعدما طُرِدَ إبراهيم وصدرَ حكم بحق والده بغرامة عالية وتأنيب صارم مِن قِبَل القاضي الذي هدّده بالسجن إن حاول الإقتراب منّي أو أذيّتي مجدّداً. ولكن وبالرغم مِن إعلان براءتي ومعرفة الجميع بالأمر بقيَ أهل تلاميذي ينبّهون أولادهم مِن التواجد معي لوحدهم وبقيَت نظرات العالم مليئة بالشكوك. لِذا فضّلتُ ترك مجال التدريس والعمل على تأليف كتب تعلميّة بعيدة عن الأولاد وأهلهم.
ولقد مضى على هذه الحادثة أكثر مِن عشر سنوات وبالرغم مِن ذلك لا أزال أشعر بالأسف على نفسي وعلى مهنة التعليم التي أعطيتُها كل ما لدَيّ. أمّا بالنسبة لحياتي العاطفيّة فبعد بضعة محاولات فاشلة قرّرتُ أن أبقي لوحدي.
حاورتها بولا جهشان