اتهموني بالدعارة زوراً

توفيت أمّي عندما كنتُ في الرابعة من عمري. كانت إحدى ضحايا ذاك المرض الشنيع الذي لا يرحم أحد. وبما أنّ أبي كان يسافر كثيراً بموجب عمله، وضعني عند أخته لكي تهتمّ بي.

كانت عمّتي إمرأة جافة، معدومة المشاعر. همّها الوحيد كان البيت نظافةً وترتيباً وأن تبرز للعالم صورة العفّة والقيم الحميدة. لم تتزوّج لأنّ "الرجال لا يتمتّعون بحسّ النظافة"، فبقيت عزباء تهتمّ بأمّها حتى أن غادرت هذه الأخيرة الحياة. لم أكن سعيدة بهذا القفص المهفهف فكان محرّم عليّ أن يزورني أحد، أن أستمع إلى الموسيقى أو حتى أن أتكلّم بصوتٍ عالٍ.

كانت المدرسة نافذتي الوحيدة إلى العالم الخارجي، وكم من مرّة كنتُ أتمنى أن أبقى فيها بعد الدوام لكي لا أعود إلى المنزل. عشتُ سنين على هذا النحو أتى خلالها أبي لزيارتي مرّات قليلة. كنتُ أشكي له همومي ولكنّه كان ببساطة لا يُبالي خاصةً أنّه قد تزوّج من جديد في الخارج، فبات له هموماً غيري. وفي آخر المطاف توفّيت عمّتي خلال نومها. لم أحزن كثيراً فلم أكن أحبّها. ولكن كنتُ شاكرةً لها عندما علمتُ أنها تركت لي المنزل ومحتوياته. كنتُ قد أصبحتُ في الثامنة عشرة من عمري.

ولكن لم يكن لديّ أصدقاء أو معارف ووجدتُ نفسي وحيدةً في هذا البيت الكبير. وكان أبي قد أبلغني أنّه لم يعد بإستطاعته أنْ يُرسل لي المال لأنه أصبح أباً لطفل صغير وعائلته الجديدة لها الأفضليّة الآن : "أصبحتِ راشدة الآن، إبحثي عن عمل". لم يُفاجئني حديثه، لم يكن يوماً أباً حقيقياً لي وتعوّدتُ على غيابه وعدم انتباهه لي ولمشاكلي.

كنتُ أنوي أن أدخل الجامعة ولكن أصبح الأمر مستحيلاً، فالبحث عن لقمة العيش كان من أولوياتي الآن. لم أجد عملاً يُناسبني فلم يكن لديّ أي خبرة ولم أكن أحمل سوى شهادتي المدرسيّة. حتى جاءت جارة لي لزيارتي ولتترحّم على عمّتي. قالت لي شيئاً أعطاني فكرة جيّدة : "يا حبيبتي... وحيدة في بيت يتّسع لأناس كثيرة...".

كانت على حقّ، كانت هناك غرف كثيرة وواسعة وهنا قرّرتُ تأجير تلك الغرف. فوضعتُ إعلاناً في الجريدة وانتظرتُ بضعة أيام. بدأتْ تنهالُ عليّ الطلبات حتى تمّ تأجير كامل الغرف في البيت.

ومع وجود هؤلاء المستأجرين لم أعد أشعر بالوحدة بل اعتبرتُ أننا عائلة كبيرة تعيش تحت سقف واحد. ولكنني لم أُحسن اختيار كل المستأجرين ربما لقلّة خبرتي بالناس. كان هناك ميساء، فتاة تشغل إحدى الغرف، وكانت قد كذبت بخصوص عملها، فإدّعتْ أنها تعمل كنادلة في أحد المقاهي بينما كانت في الحقيقة تجني مالها من البغاء. كنتُ أظنّ أنّ هؤلاء الرجال الذين كانوا يأتون لزيارتها هم أصدقائها أو أقاربها حين كانوا في الحقيقة زبائنها. لم ألحظ شيئاً حتى جاء أحد الرجال وقال لي : "أريد فتاةً شقراء، طويلة، ولا يتجاوز عمرها العشرون عاماً".

لم أفهم قصده طبعاً. عندما طلبتُ منه توضيحاً أجاب : "سئمتُ من المجيء إلى ميساء كلّ مرة، أريدُ أخرى أو أخريات. عندي مالاً وفيراً وبما أنكِ صاحبة هذا البيت "المحترم" عليكِ الإستجابة إلى طلباتي أو سأذهب إلى مكان آخر يُلبّي لي حاجاتي". وفهمتُ كلّ شيء. صرختُ به وطردته من المنزل فوراً. قال لي قبل أن يرحل : "أنتِ لا تعلمين من أنا، سترين ما سيُكلّفكِ تصرّفكِ هذا يا "محترمة"!"

أقفلتُ الباب بقوّة خلفه وذهبتُ إلى النافذة ورأيته يتكلّم على الهاتف. وقبل أن يتسنّى لي التكلّم مع ميساء وطردها هي الأخرى سمعتُ قرعاً قوياً على الباب وصريخاً يأمرني بالفتح فوراً. عندما فتحتُ الباب تفاجأتُ بعدد كبير من رجال الأمن. قال لي أحدهم : "أنتِ موقوفة بتهمة الدعارة وإدارة بيت للدعارة!"

وقبل أن أجيب كان قد كبّلني بينما رجاله ذهبوا لتفتيش البيت واعتقال من فيه. أخذونا جميعاً إلى القسم. هناك أخذوا أقوالنا ورمونا في زنزانة كبيرة مع المجرمين وتجّار المخدّرات.

عندما هدأتُ بعض الشيء وجفّت دموعي نظرتُ إلى ميساء وقلتُ لها :

"عليكِ قول الحقيقة... أرجوكِ... لم أُسئ إليكِ يوماً وأنتِ تعلمين أنني لم أكن أعرف ما طبيعة عملكِ. أنظري إلينا جميعاً مرميّن هنا بسببكِ أنتِ. كلّنا أناس عاديّين لم نفعل شيئاً غير قانونيّ. أرجوكِ ميساء..."

من حسن حظّنا أن أحد المستأجرين لديه محامٍ وأخذ على عاتقه الدفاع عنّا. ومع اعتراف ميساء أُخلي سبيلنا سريعاً. ولكن ما حصل قد بلغ سكان الحي والمنطقة، وباتوا ينظرون إليّ وكأنّني باغية أُدير بيتاً للدعارة. ومع أنّني بُرِّئتُ من التهمة، لم يعد أحداً يتحدّث معي. جميع المستأجرين لديّ غادروا المنزل بسرعة، ولم يأتِ أحد يشغل مكانهم. أصبحتُ وحيدة  من دون أيّ مدخول. لم يعد أمامي سوى بيع المنزل والذهاب إلى مكان بعيد حيث لا أحد يعرفني. بعتُ البيت بسعرٍ رخيص جداً بسبب السمعة السيئة التي كانت قد حلّت عليه ورحلتُ. ولكن البلد صغير والناس لا ترحم. فإينما ذهبتُ كان هناك من يعرف قصّتي.

لقد مضى على الحادثة أكثر من عشر سنوات. أعيش الآن في ضيعة صغيرة في الجبل، أجني المال من صنع الحلوى التي أبيعها في بعض المحلاّت. حياتي كلّها ذهبت سدىً بسبب جهلي للطبيعة الإنسانية لأنه لم يُحضّرني أحد لمواجهة وفهم المجتمع. أبي كان إنساناً أنانياً لا يكترث سوى لنفسه، وعمّتي إنسانة معقّدة تكره الناس وترفض التعاطي معهم.

إلى متى سأظلّ أدفع هذا الثمن؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button