ابني شرّير!

عندما ولِدَ ابني تامر حسِبتُ أنّني أملكُ العالم بأسره وأنّ هذا الولد سيكون أعظم انسان على وجه الأرض. ولكنّ الحقيقة كانت مختلفة كليّاً لأنّه وبكل بساطة لم يكن فالحاً بشيء. ولأنّ الأولاد يولَدون كالصفحة البيضاء على أهلهم تقَع مسؤوليّة ما يُكتب عليها. ولَن أنكر أنّ فشل تامر الذريع كان سببه الدَلَع المُفرَط الذي حظيَ به لأنّه أتى بعد سنين طويلة مِن الإنتظار وحين كنتُ قد أصبحتُ قريبة مِن سنّ اليأس. وساعدَنا الطبّ في إنجابه وخضَعتُ لفحوصات عديدة وتجارب تلقيح مُتعِبة.

فحين أبصَرَ النور كان تامر بمثابة هدّية مِن الله وبداية حياة جديدة بعدما كان الملل قد هيمَنَ على زواجنا. وإلتفاف العائلة والأصدقاء حول المولود الجديد ساهمَ بشكل قويّ على الدلَع الذي أصبح جزءً لا يتجزّأ مِن حياة تامر. وحَظيَ بكل شيء مِن الثياب الجميلة إلى الألعاب العديدة وكان بإمكانه أن يطلب أيّ شيء مِن أيّ أحد. وإن حدثَ أن ووجِهَ بالرفض كان يدخل في غضب شديد ويصرخ ويبكي إلى حين يُستجاب له. وعندما رأيتُ الضرَر الذي سببناه له كان قد فات الأوان وبلَغَ حدّ اللا رجوع.

وكان تامر كسولاً خاصة في المدرسة يتّكل على أيّ مساعدة يمكنه الحصول عليها حتى لو لزِمَ الأمر أن ينقل أجوبة الإمتحانات مِن رفاقه. ولكنّ ذلك لم يكن كافياً وبقيَ يحصد العلامات المتدنيّة بالرغم مِن الأساتذة الذين أتوا إلى البيت لإعطائه دروساً خصوصيّة. وإلى جانب كسله كان إبني صعب المزاج لا يحبّ شيئاً ولا أحداً. وهذه الناحية مِن طباعه أقلقَتني أكثر مِن أيّ شيء آخر لأنّه لم يكن لديه رفاقاً كباقي الأولاد بعد أن هَرَب منه الجميع وأبعَدَ عنه مَن لم يكن قادراً على تحمّل عدم قدرته على الحب والمصادقة. ولكنّني لم أرَ الرذيلة التي إحتلَّت قلبه يوم بعد يوم وملأَت عقله بالأفكار المخيفة. وسألتُ نفسي لاحقاً مِن أين جاء بهذا الشرّ كلّه لأنّنا كنّا جميعاً أناساً طيبّين نسهر على راحة الآخرين ومصالحهم.

 


ولو كنتُ أؤمِن بالشعوذات لخِلتُ أن روحاً شريرة كانت تسكنه ولكن للأسف علم النفس مليء بالأمثلة المشابهة. كل ما كان في الأمر أنّ تامر إعتقدَ فعلاً أنّ لا أحد سواه يستحقّ أن يكون موجوداً. فإلى جانب مزاجه كان يفعل ما بوسعه لأخذ ألعاب ومقتنيات رفاقه في المدرسة ويمارس عليهم سياسة الترهيب الجسديّ والمعنويّ أي يهدّدهم بالضرب أو بالتفسيد عليهم. وحتى عندما كان أصدقاؤنا يزوروننا في البيت مصتحبين أولادهم كان يأخذ هؤلاء إلى غرفته ويغلق الباب وراءه ويستفرد بهم ليؤذيهم.

وفي أحد الأيّام سمعنا صراخاً حاداً يخرج مِن الغرفة وعندما ركضنا رأينا أحد الأطفال مربّطاً بحبل ومعلّقاً على الخزانة وتامر واقفاً أمامه يرمي عليه الألعاب بوحشيّة. وشيئاً فشيئاً لم يعد يزورنا أحد خوفاً مِن الأذيّة. خطَرَ لي أن آخذه إلى طبيب نفسي ولكنّ زوجي رفضَ ذلك لأنّه لم يكن يستوعب أن يكون إبنه مختلاًّ عقليّاً. عندها أخذتُ على عاتقي مراقبته عن كثب. وكبرَ إبني وأصبحَ مراهقاً وسيماً وتمنّيتُ أن يُغرَم بفتاة ويتعرّف الى معنى الحب آملة أن يطرّي ذلك قلبه القاسي. ولكنّه في ذلك الوقت لم يكن يفكرّ بالجنس اللطيف بل بالسبل لِقهر مَن أحاطَه.

وعندما إنتهى أخيراً مِن المدرسة وذلك بعد جهود كبيرة أعربَ عن نيّته في دخول الجامعة. ولكنّنا كنّا نعلم أنّ ذلك لن يفيد وأنّه سيرسب مجدّداً لِذا طلبَ منه زوجي أن يعمل معه في شركة الأدوية التي أسّسَها مِن زمن طويل. وإستغربنا كثيراً لقبوله الفوري فكنّا معتادين لنوبات الغضب والصراخ والشجار. ولأنّ زوجي كان قد أصبح كبيراً في السنّ كان يأمل أن يأخذ تامر مكانه ليرتاح مِن سنين طويلة مِن العمل الدؤوب التي أدَّت إلى أن تصبح شركته الرائدة في تجارة وتوزيع الأدوية في البلد وخارج الحدود أيضاً.

وبدأ تامر في التعلّم على تفاصيل العمل بمساعدة أحد موظّفين الشركة القدامى الذي لقنّه كل ماعليه معرفته. وهنا أيضاً فاجأنا إبننا بالسرعة التي تعلّم فيها. فَمِن إنسان كسول وخمول أصبحَ يفيق باكراً ويستوعب بسهولة أصول عمل ليس بسهل. وحمدنا ربّنا لهذا التغيّر وأملنا أن يفلح الصبيّ أخيراً بشيء ويزيح عنّا مسؤوليّة فشله.

وبعد سنة كاملة على هذا النحو قرّرَ زوجي أنّ الوقت حان ليأخذ تامر مركزاً ثابتاً في الشركة وأن يبدأ جدّياً بالعمل. وكانت مهامه الإشراف على البضائع أي التأكّد مِن وصول الطرود وذهابها بعد مراجعة محتوياتها وفق المواصفات الصحّة العالميّة. وأتذكرّ جيّداً لحظة ما قبَضَ إبني راتبه الأوّل. جاء إلى المنزل محمّلاً بالهدايا وعلى وجهه بسمة إكتفاء كبيرة. عانقني وقال لي:"إشكركما... أنتما أفضل أهل في الدنيا!". وذرفتُ الدموع ونظرتُ إلى السماء شاكرة. وعشنا حلماً جميلاً نفعل أشياء سويّاً خلال العطلة الأسبوعيّة ونتقاسم الآراء كأي عائلة أخرى.

 

ومَّرت الأيّام والأشهر بهدوء حتى أن لا حظتُ أنّ تامر يبتاع الأشياء الباهظة كالهواتف الخلويّة الحديثة وآلات التسجيل والثياب الغاليّة الثمن. وعندما سألتُه عن مصدر التمويل أجابَني:

 

ـ ما بكِ يا أمّي؟ أنا أعمل الآن وأتقاضى أجراً مِن أجل ذلك.

 

ـ أجل... ولكن هذه الأشياء كلّها باهظة الثمن.

 


ـ إبنكِ يعلم كيف يدخّر ماله... وإلى جانب ذلك أنتظر مواسم التنزيلات وأحياناً أبتاع أشياء مستعملة... كهذا الهاتف مثلاً... إشتريتُه مِن أحد عبر الإنترنت... لا تشغلي بالك هكذا... إنسِ الموضوع.

 

وأقنعَني بحججه لأنّني لم أكن ضليعة بالتكنولوجيا لأعلم إن كان يقول الحقيقة أم لا. ولكنّ إبني كان يكذب عليّ وتحوّله لم يكن إلاّ تمثيليّة لتطميننا لكي يفعل ما يريده. كان يجدر بي أن أنتبه إلى ذلك فأنا أمّه وأعرفه أكثر مِن أيّ شخص آخر وأعلم كم هو فاسد وسيّئ ولكنّني أردتُ تصديق إنقلابه إلى إنسان طموح وهادئ. ولكن لا بدّ للحقيقة أن تظهر فبعد حوالي السنتَين على دخوله العمل بدأَت تنكشف الأمور. ففي ذاك يوم عادَ زوجي إلى البيت وعلى وجهه علامات الإستياء العميق. وبعد أن توسّلتُ إليه بأن يتكلّم قال لي:

 

ـ هذا المخلوق شريّر... أنا متأكّد أنّ لحظة ما ولِدَ كان الشيطان موجوداً.

 

ـ يا ألهي! لماذا تقول ذلك؟

 

ـ نحن السبب... لم يكن مِن المفروض أن ننجب... بقينا نحاول ونحاول متحدّيين مشيئة الله حتى أن نجحنا في إغضابه.

 

ـ لا... هذا ليس صحيحاً... هناك العديد مِن الناس الذين فعلوا جهدهم مثلنا وأنجبوا أولاداَ صالحين... لقد أعطانا الله العلم والطبّ لتحسين أحوالنا وسمحَ لنا بإستعمال الإكتشافات كلّها... الذنب ذنبنا... لقد دللناه ولم نقف يوماً بوجهه... أرَدتُ أخذه إلى طبيب نفسيّ ولكنّ كبرياؤكَ وقف بِدربنا... قلّ لي ما حصل... هيّا.

 

وأخبرَني زوجي بأنّ تامر يتلاعب مع البضاعة وهذا منذ ما تسلّمَ مهامه. فبعد أن جاءَت شكاوى عديدة مِن المختبرات والصيدليّات عن طرود ناقصة أو مختفية قرّرَ زوجي مراقبة إبنه وذلك دون أن يخبرني عن شكوكه راجياً أن يكون على خطأ. عندها لاحظَ أنّ تامر يضع طروداً جانباً ويسجّل أنّها ذهبَت إلى زبائننا. ومِن بعدها يحمّلها في إحدى سيّارات الشركة ويسلّمها لزبائنه الخاصة ويقبض ثمنها. وأضافَ أن تلك الأدوية هي مِن النوع الخطر أي الذي يشبه المخدّرات بمفعولها. وبدأتُ بالبكاء عندما قال لي أنّه يريد تسليمه للشرطة لكي يُسجَن ويتعلّم درساً قد يفيده. وتوسَّلتُ اليه ألاّ يفعل لأنّني كنتُ متأكّدة أنّ تامر سيصبح أسوأ مِن الأوّل في حال عاشَرَ المجرمين وأنّه سيضيع كليّاً.

وأقنعتُ زوجي بالعدول عن فكرته وبأن يغطّي عن إبنه بدفع ثمن البضاعة مِن مالنا الخاص. ولكنّه أضاف:

 

ـ لا أريده في بيتي بعد الآن.

 

ـ وأين تريده أن يذهب؟

 

ـ لا أدري... سأعطيه مالاً وأرميه خارجاً... إسمعي... إنّه فاسد... وسيقى هكذا... قد يأتي يوم ويقتلنا ويسرقنا... لا أريده في بيتي.

 

وطرَدَه أبوه بعدما واجهه بالذي حصل في الشركة. وإختفى تامر مدّة أشهر حتى أن ظهَرَ ليطلب منّي المال. وأعطَيتُه ما يريده لأنّني أمّ. علِمتُ منه أنّه يسكن مع أناس تعرّفَ إليهم مؤخّراً ولكنّني لم أسأله شيئاً آخراً خوفاً مِن أن أعلم بأمور قد تكون غير قانونيّة. ورحلَ مِن جديد. آخر أخباره أنّه سافرَ إلى الولايات المتّحدة بعد أن قصَدَني لأموّل سفره. إرأيتُ أنّ إبعاده هو أفضل حلّ للجميع.

أنا اليوم مِن دون أخبار منه ولا أدري إن كان حيّاً أم ميتّاً. هل سيظهر يوماً ليودّعنا بعدما أصبحنا عجّز أم أنّه ينتظر موتنا ليعود ويرِثنا؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button