ابنتي لم تمت!

لم أرَ ابنتي سوى بضع دقائق، فهم أخذوها منّي، او بالاحرى سلخوها عني وتركوني مع ذكرى رائحتها ونبضات قلبها الصغير. قالوا لي إنها مريضة وعليهم أن يعتنوا بها، ولم أرها منذ ذلك الحين لأنهم زعموا بأنها توفيت بعد فترة قصيرة.

عدت إلى منزلي فارغة اليدين والقلب، وإلى منزل والديّ لأنني أمّ عزباء... ارتاح الجميع لدى سماعهم خبر موت ابنتي لأن الأمر كان عبئاً كبيراً وكنت مصدر عار، فقد اضطروا إلى تحمّل فترة حملي وهم لم يكونوا مستعدّين لتحمّل طفلتي وأنا العزباء التي ابلغ الثامنة عشر.

بكيت كثيراً بعد خبر وفاة ابنتي، لكنني سرعان ما عدت إلى سابق عهدي، حياة ما قبل "غنوة". هرع أهلي لتزويجي، خوفاً من أن أعيد الكرّة رغم أنني فتاة تقليدية ومحافظة إلا أنني وقعت في حب شاب وعدني بالزواج، وصدّقته في حين كل ما أراده هو كان أن يلهو وأن يستولي على "أجمل فتاة في المدرسة".

ذات يوم، جاء شاب مع أهله لزيارتنا. كان لطيفاً ومهذباً وأبدى إعجاباً كبيراً بي. علمت أنه العريس المنتظر، فقبلت لأن أهلي أقنعونني بأنني لن أجد أفضل منه خاصة بعد الذي حصل لي، واشطرت عليه ألا ننجب أطفالاً، فقبل بالشرط. أكملت سنتي الدراسية وتزوّجت به، وأخذني إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث يسكن ويعمل. ودّعت أهلي وذهبت إلى تلك القارة الكبيرة حيث كل شيء ممكن، آملة بأن أجد السعادة وأبدأ حياتي من جديد.

كيف كان زوجي معي؟ لطيفاً ومحبّاً. لكن علاقتنا كانت فاترة وكأننا عقدنا اتفاقاً عندما تزوّجنا، بأن نحترم بعضنا البعض ونقوم بواجباتنا الزوجية. لم يكن هناك أيّ شغف، أي حماس، وبما أنه كان منشغلاً طوال النهار، وجدت نفسي وحيدة فقرّرت الكتابة. منذ صغري وأنا أكتب مذكراتي على دفتر صغير أشكو فيه همومي وأفراحي. فبدأت أكتب سيرة حياتي منذ البداية، ثم كتبت عن حملي، وعلاقتي مع ابنتي قبل ولادتها، وكوني لم أحظَ بتلك العلاقة بعد ولادتها، وكيف كنت أغني لها، وأروي لها القصص، وأقول لها أنني بانتظارها وأعدّ الأيام والساعات. كتبت عن ألمي عندما أخبروني بوفاتها وكأن جزءاً كبيراً مني قد مات معها، دُفن بقربها وانتهى إلى الأبد. كتبت كيف أتصوّرها لو أنها كبرت، وما كنا سنفعله سوياً، كيف كنا سنلعب ونرقص، كيف كنت سأساعدها بدروسها، سأسرّح شعرها، وسأغنّي لها لتنام.

 

كتبت من أعماق قلبي، أفرغت أشجاني على الورق وكأنني أكتب بدموعي... وعندما انتهيت من الكتابة، أعطيته لجارتي، امرأة عربية مثلي، وهي تأثرت كثيراً وأعطته لقريبتها لتقرأه هي أيضاً. بعد فترة قصيرة، كان كل من يقرأ العربية في المنطقة قد حصل على دفتر مذكراتي وذرف الدموع وشعر بحزني ومرارة عيشي. بدأت النساء الأميركيات تطالبن هنّ أيضاً بنسخة باللغة الإنكليزية، فعرضت إحداهن عليّ بأن تترجمته إلى الإنكليزية كونها تجيد العربية وتزوجت من رجل شرقي، فقبلت. تُرجمت قصتي وطُبعت باللغتين العربية والإنكليزية من قبل دار نشر عربية. وفي هذا الوقت، لم يكن زوجي على علم بما يجري، فقرّرت أن أخبره قبل أن يقع على كتابي. وذات ليلة أعطيته نسختي الأصلية وقلت له:


- إقرأ... هذه أنا... هذه هي المرأة التي تزوّجتها... إقرأ دون أن تحكم عليّ، إقرأ لتدخل عالمي وتراه من الداخل.

 

أخذ الدفتر وذهب إلى مكتبه وبدأ بالقراءة، وبقي ساعات في الغرفة ولم يخرج حتى انتهى من قراءته. عندها قال لي:

 

- لم أكن أعلم... ولو علمت لكنت تزوجتك أيضاً... حبيبتي، كم تألّمت...

 

وضمّني إلى صدره وبكينا سوياً. بعدها قلت له:


- وأنت، ما هي قصتك؟


- سأرويها لك يوماً، فأنا لست موهوباً بالكتابة مثلك.

 

ومنذ ذلك الحين، بدأت فعلاً حياتي الزوجية والاجتماعية. فقد لاقى كتابي أصداءً كبيرة لم أتوقعها، وبدأ الناس يتحدثون عنه في كل مكان، في الصحف والمجلات وحتى على الشاشات الصغيرة. بين ليلة وضحاها، أصبحت مشهورة، وأقيمت حفلات إمضاء للكتاب من قبل دار النشر، فجلت في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. وفي إحدى المدن، كنت جالسة أوقّع نسخاتي للمعجبين القراء، فجاءت سيدة وقالت لي بالإنكليزية:

 

- أتمنّى أن تنسيك الشهرة أحزانك.


- لا شيء في العالم يمكنه ملء الفراغ الذي بداخلي... كنوز الدنيا كلها لا تستطيع إرجاع ابنتي إليّ.


- ربما القدر يمكنه ذلك...

 

- ماذا تقصدين؟


- أظنّ أن ابنتي هي ابنتك.


- ماذا؟؟؟ إبنتي ماتت! كيف تقولين هذا؟

 

وأخرجت المرأة صورة من محفظتها وأرتني صورة فتاة عمرها 3 أو 4 سنوات. وعندما نظرت إليها أحسست بأن شيئاً تحرك في داخلي. لكن سرعان ما عدت إلى رشدي وصرخت بها:


- حرام عليك أن تلعبي بمشاعري كهذا! ماذا تريدين، مالاً؟ شهرة؟ أو فقط متعة الأذى؟


- لا أريد منك شيئاً... لقد قرأت كتابك وشعرت مدى حزنك ويأسك. هذا رقم هاتفي. فكّري بالأمر، لن تخسري شيئاً!

 

وذهبت...

 

كان قلبي يدق بسرعة لدرجة أنني شعرت بأنه سيتوقف. ماذا لو كانت تقول الحقيقة؟ لا! كيف يجوز أن تكون ابنتي حيّة؟ لقد ماتت منذ سنين، على الأقل هذا ما قالوه لي. فجأة اتضحت الفكرة في رأسي "هذا ما قالوه لي". أجل قالوا ذلك لأنني كنت صغيرة وعزباء، أيُعقل ذلك؟!

قررت العودة إلى منزل أهلي لأعرف الحقيقة. لحظة وصولي سألتهم على الفور:

 

- هل كذبتم عليّ بشأن ابنتي وقلتم لي بأنها ماتت؟ لن أقبل إلا بالحقيقة هذه المرة. لم أعد طفلة وأستحقّ بأن أعرف ماذا جرى لهذه الطفلة البريئة.

 

نظرت إليّ أمي وعيناها مغرورقتين بالدموع، لم تستطع أن تتفوه بكلمة واحدة. فتكلّم أبي عنها:


- كنت صغيرة جداً وكنا نبحث عن مصلحتك أولاً...


- أريد أن أعرف، الآن!


- كنت ما زلت حاملاً عندما علمنا بأن أناساً من الجنسية الأميركية يمكثون هنا لفترة ويريدون تبنّي طفلا قبل عودتهم إلى بلادهم. فكان ذلك، بنظرنا، الحلّ الأنسب للجميع.


- الحلّ الأنسب لكم جميعاً! ألم تفكّروا بكل تلك السنين التي قضيتها وأنا أبكي طفلتي؟ هل فقدتم إنسانيّتكم؟ أريد الآن اسم العائلة التي أخذتها منّي!


- "حسناً"، قال أبي، "لكن كيف علمتِ بالأمر؟"

 

- لأن الله يحبّني ويحب هذه الفتاة، لأنكم نفيتموها إلى آخر الدنيا وشاءت الظروف أنني ذهبت إلى هناك أنا أيضاً. ولولا حبي اللامحدود لابنتي، لما كتبت كتاباً عنها نال شهرة واسعة وطال مشاعر وقلب المرأة التي تبنّتها. أنا راحلة وقلبي حزين لمَ فعلتموه بي، وفرح لأنني سألتقي بها. وداعاً.


- "لا! "، صرخت أمي، "إلى اللقاء..."

 

- ربما... لكنني لن أعود إلى هنا إلا برفقتها. وماذا أقول لها عنكما؟ أنكما تصرّفتما بها وكأنها سلعة، عبء وجب التخلص منه أو طرد يرسل إلى آخر الكرة الأرضية؟


- قولي لها أننا أحببناك قدر ما أحببتها وأردنا لك حياة كريمة رغم تلك الظروف.

 

رجعت إلى الولايات المتحدة واتصلت بتلك السيدة وقلت لها أنني آتية وأن تحضر غنوة للقائي، فهذه اللحظة حاسمة بالنسبة لها، لكن ليس من السهل على فتاة صغيرة أن تفهم ما يفعله الكبار.

ذهبت للقائها، وهي كانت خائفة مني، تحضن بقوة دبّها الصغير. اقتربت مني وقالت بالإنكليزية:

 

- أصحيح أنك أمي؟


- نعم يا حبيبتي.


- ولم تركتني إذاً؟


- سأروي لك القصة بأكملها لاحقاً، المهم لك أن تعرفي بأنني لم أكفّ عن حبك ولو للحظة واحدة.

 

أخذتها بين ذراعيّ وأغمضت عينيّ. الآن أصبحت كاملة، جزئي الضائع عاد إليّ.

اتفقت مع أمها بالتبنّي بأن أرى غنوة فرصة نهاية كل أسبوع حتى تكبر وتختار بنفسها، وتفاجأ زوجي بالخبر لكنه قبل أن تكون ابنتي معنا في تلك الأيام.

 

أنا الآن أنتظر اليوم الذي تأتي به غنوة للعيش معي ليلاً نهاراً!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button