علِمتُ أنّ صوفيا ستجلِب لأحَد ما المتاعِب، لحظة رأيتُها. فلدى كلّ منّا ما يُسمّى بالحَدس، ونشعرُ بأمور لا تفسير منطقيًّا لها، على الأقلّ على الفور. كانت ابنة أختي الوحيدة التي سافرَت إلى جنوب أمريكا مع زوجها الذي توفّيَ بعد وصولهما بسنة واحدة. وجدَت أختي زوجًا آخَر بسرعة، ربّما كَي لا تعود إلى البلد وكي لا تبقى لوحدها هناك. زوجها الثاني كان مِن ذلك البلَد اللاتينيّ وأنجبا سويًّا ابنة واحدة، صوفيا، وعاشا سعيدَين طوال عشرين سنة إلى حين توفّيَ الزوجان معًا في حادث سيّارة. بقيَت ابنتهما لوحدها فترة قصيرة، ثمّ قرّرَت العَيش في بلَد أمّها وسط أقارب تعرفُهم بعدما قضَت بضع إجازات معهم. وأنا كنتُ أقرَب الناس إليها. شيء آخَر عليّ ذِكره عن صوفيا: كانت فائقة الجمال، وللحقيقة، لَم أرَ في حياتي أجمَل منها إلا في المجلات والأفلام. وكان جمالها جذّابًا وفتّاكًا، والأهمّ أنّها كانت تُدرِك كلّ ذلك... مزيج خطير للغاية، فكلّ تلك القوّة كانت مجموعة في شخص واحد، شخص لا يتردّد عن أخذ ما يحلو له حينما يشاء.
إختارَت ابنة اختي بيتي بالتحديد للعَيش فيه، واستقبلتُها وعائلتي بفرَح، إذ أنّني لَم أُنجِب بناتًا بل ولدَين فقط. زوجي هو الآخَر سُرَّ بها، لأنّه كان يُجيد اللغة الاسبانيّة تمامًا ولَم يتسنَّ له استعمالها مع مَن حوله. وهكذا بدأ وصوفيا بتبادُل الحديث بلغة لَم أفهمها، مع أنّها كانت تُجيدُ العربيّة، فانزعَجتُ قليلاً وطلبتُ مِن زوجي أن يُترجِم لي ما كان يقوله وإيّاها، الأمر الذي حمَلها على الاستهزاء بي. سكتُّ طبعًا، فكنتُ أكبَر سنًّا بكثير مِنها وكان عليّ استيعابها.
تصرّفَت صوفيا وكأنّها في بيتها منذ اليوم الأوّل، واطمأنّ بالي أنّها لا تشعرُ بأنّها غريبة، بل العكس.
لاحظتُ أنّ ولَدَيّ مُهتمّان بشكل كبير بتلك الصبيّة الجميلة ولَم أزعَل، فكان مِن المقبول لدَينا أن يتزوّج الأقارب مِن بعضهم. ورجّحتُ أن ينالَ بكري إعجابها، فهو أيضًا كان وسيمًا وأمامه مُستقبل واعِد بسبب تفوّقه في الجامعة. أمّا بالنسبة لابني الثاني، فكان أكثر تهوّرًا ويهوى كرة القدم وألعاب الفيديو. لكنّ صوفيا لَم تكن تهوى الشبّان الصغار بل تُفضّل الرجال الناضجين... كزوجي! وأظنّ أنّ وجود صبيّة جميلة بيننا لا بدّ له أن يُحدِث مشاكل زوجيّة مِن جانبي بسبب الغيرة، أو مِن جانب زوجي إن كان مُهتمًّا بها. لكن ما حدَثَ لاحقًا كان بعيدًا كلّ البُعد عن توقّعاتي. فالماكِرة صوفيا إستعمَلت جمالها وجاذبيّتها لإغواء جميع ذكور البيت، ضاربةً عرض الحائط باستقبالي لها أو كَوني خالتها أو إمكانيّة إحداث تفكّك في العائلة. كلّ ما كان يهمّها هو أن تثبُت لنفسها وللآخَرين أنّها قادرة على الاستيلاء على مَن تشاء ساعة تشاء. قد يقول البعض إنّها لا تزال صغيرة لفهم أبعاد أفعالها، أو إنّها يتيمة الأبوَين وتُريدُ نَيل عاطفة واهتمام أكبَر عدَد مِن الناس، إلا أنّني أقولُ إنّها أفعى بكامل معنى للكلمة.
وهكذا وُلِدَ صراع بين زوجي وولَدَيه حول صوفيا، على الأقلّ في الفترة الأولى. فلقد ظننتُ أنّ الجميع يُريدُها أن تشعُر بالأمان، على الأقل زوجي، في حين كان ابنايَ مُعجبَين بفتاة في مثل سنّهما. ثمّ صارَ زوجي عدائيًّا معنا ويُظهر مكانته كربّ البيت بإصدار الأوامِر ورفع صوته، وما هو أفظَع، بمُعاملتي وكأنّني خادِمة في بيتي. ولولا وجود ابنة أختي بيننا، لدافَعَ عنّي ولدَاي ووقفا في وجهه، إلا أنّهما كانا مشغولَين بالتنافس على صوفيا. وسرعان ما بدأ الأخَوين بالتناحُر لكن بطريقة عنيفة جدًّا، طريقة لَم أعهدها فيهما مِن قَبل. فذات يوم وجدتُ ابني الأكبَر مُغطّى بالكدمات بعد أن ضرَبه الأصغَر، وهما رفضا الافصاح عن سبب شجارهما. تدخَّلَ زوجي وهدّدهما بالطرد إن حدَث ذلك مرّة أخرى. وعندما أبدَيتُ تعجّبي لكلامه القاسي، هو استدارَ نحوي وقال لي:
ـ وأنتِ الأخرى، إحترسي... فقد تواجهين المصير نفسه.
ـ ماذا تقول؟!؟
ـ أجل، فلقد سئمتُ منكِ! إحترسي، أقولُ لكِ!
ـ لا أسمَحُ لكَ بالتكلّم معي هكذا! مَن تخالُ نفسكَ؟!؟
عندها تدخّلَت صوفيا ووقفَت وراء زوجي واضعة يدَها على كتفه لتهدئته... وهو هدأ فجأة. وأدركتُ في تلك اللحظة أنّ شيئًا يدورُ بين هذَين الإثنَين وأنّ مكانتي في ذلك البيت مُهدّدة. ألَم يلوِّح زوجي أنّ بإمكانه طردي ساعة يشاء؟!؟ نظرتُ إلى ابنة أختي وهي ابتسمَت لي ابتسامة فهمتُ معناها على الفور. عادَ ولداي إلى غرَفهما وهما يشتمان بعضهما. أمّا بالنسبة لزوجي، فهو عرَضَ على صوفيا مُرافقتها إلى السوق لشراء حاجاتها. جلستُ في الصالون لأجمَع أفكاري وأقيّم الوضع، وضع لَم أتصوّره مُمكنًا.
عادَ زوجي وصوفيا بعد ساعات حاملَين الأكياس التي في داخلها الملابس والأحذيّة الجميلة، وقالَت لي ابنة أختي بتحدّ: "يا للرجُل الكريم... زوجكِ اشترى لي كلّ ذلك!". نظرتُ إلى زوجي بغضب، فهو لَم يشترِ لي شيئًا يومًا، بل كان يمتعِض كلّما طلبتُ منه شيئًا لنفسي ويتحجّج بقلّة المال لدَينا. وكنتُ أسكتُ أو أطلبُ مِن أمّي آنذاك أن تُساعدَني، فقد كان ولدايَ أولويّتي وأصرفُ كلّ ما كان يُعطيني "الرجُل الكريم" عليهما. هكذا إذًا... حسنًا!
بعد ذلك، صِرتُ أُراقِب فعلاً ما يحدثُ مِن حولي في بيتي، أي بنظرة جديدة. بقيَ ولدايَ يتصارعان لكن بطريقة خفيّة كي لا يُثيرا غضب أبيهما، وبقيَت صوفيا تحومُ حول زوجي، بطريقة... غير خفيّة، وكان مِن الواضح أنّها تُريدُ إزاحَتي علَنًا. لكن هل كانت تلك فقط حركات، أمّ أنّ علاقة حميمة كانت موجودة بين هذَين الاثنَين؟
قصدتُ أخيرًا والدتي، العجوز الحكيمة، وسرَدتُ لها كلّ شيء. هي سألَتني:
ـ هل أنّ كلامكِ نابِع عن غيرة، يا حبيبتي؟
ـ في البدء شعرتُ بالغيرة، أجل. لكن بعد فترة أدركتُ أنّ حفيدتكِ تلعبُ لعبة بشِعة وخطيرة.
ـ حسنًا... إسمَعي، لَم أزُركِ منذ فترة بسبب صحّتي المُتأرجِحة... لِما لا أقضي بضع أيّام معكم في البيت؟
إبتسَمتُ لأمّي وأمتلأ قلبي بالدفء، لأنّني كنتُ أعلَم أنّها إنسانة عادِلة ومُحِبّة، ولأنّها سترى بنفسها ما يدورُ مِن حولي.
وصلَت أمّي معي إلى البيت، واستقبلَتها صوفيا بجفاف مع أنّها كانت دائمًا تتكلّم عن جدّتها بكلمات جميلة. عانقَها ولَدايَ وأعطياها إحدى الغرف ليتشاركا غرفة واحدة. ثمّ عادَ زوجي مِن عمَله، وفور رؤية حماته عنده، نظَرَ إلى صوفيا ثمّ استدركَ نفسه ورحّبَ بالضيفة. تصرّفَ الجميع لاحقًا بطريقة طبيعيّة ومرِحة... وحان وقت النوم. رحتُ إلى غرفة أمّي لأتمنّى لها ليلة سعيدة، وهي همَسَت لي: "أنتِ على حقّ... يا إلهي... لَم أتصوّر ذلك مُمكنًا... لا عليكِ يا حبيبتي... إذهبي إلى النوم ولا تفكّري بشيء، دعي التفكير لي". كَم كانت فرحَتي كبيرة لدى سماعي كلامها! فهي رأَت في غضون ساعات قليلة ما كان يدورُ بين زوجي وصوفيا وبين ولدَيّ، ألَم أقُل لكم إنّها امرأة حكيمة؟
في الصباح، قالَ لي زوجي إن وجود أمّي عندنا لا يجب أن يطول، لأنّ البيت ليس كبيرًا كفاية لاستيعاب هذا العَدد لمدّة طويلة. طمأنتُه بأنّ والدتي لن تمكثَ عندنا سوى لمدّة أسبوعَين وهو صرَخَ عاليًا: "ماذا؟!؟ أسبوعان؟!؟". ضحِكتُ في سرّي لدى سماع صرخته، ورحتُ أُحضِّر الفطور وأنا أتمتِمُ أغنيتي المُفضّلة.
في الأيّام التي تلَت لَم يحدث شيء يُذكَر سوى أنّ ابنَيّ تصالحا أخيرًا، وتنازَل الواحد للآخَر عن صوفيا، وكأنّها كانت مُهتمّة بأيّ منهما! لكنّ استياء زوجي مِن وجود أمّي عندنا إزدادَ بشكل ملحوظ، خاصّة أنّ والدتي بقيَت تلزمُ جنب حفيدتها طوال الوقت لتمنَعها مِن التواجد لوحدها مع زوجي، الأمر الذي ضايقَها كثيرًا. كنتُ أشعرُ أنّ البيت بمثابة قنبلة موقوتة، وأنّ حدَثًا ما سيحصل ويُغيّر المُعطيات. فكانت هناك وسطنا أفعى خطيرة وزوج ضعيف وزواج خلتُه متينًا، أيّ كلّ المُعطيات اللازمة لتدمير عائلة.
علِمتُ بعد فترة أنّ أمّي هي التي أقنعَت ولدَيّ بالتخلّي عن تصوّراتهما في ما يخصّ صوفيا، وصالحَتهما مع بعضهما. إضافة إلى ذلك، هي أفهمَتهما أنّ حفيدتها لا تكترِث سوى لنفسها وتركضُ وراء منفعَتها الشخصيّة. فإذ بهما يرَيان لعبتها وزوجي، الأمر الذي أغضبَهما كثيرًا، إلا أنّهما وعداها بعدَم قول أو فعل شيء بهذا الخصوص. وهكذا صارَ لي ثلاثة حلفاء داخل البيت وشعرتُ بالقوّة.
بعد حوالي العشرة أيّام على وصول والدتي، طلَبَ منّي زوجي أن أُقنعَها بالرحيل، لكنّني رفضتُ. فالمسكينة لَم تكن بحاجة إلى رعاية خاصّة أو تُشكلّ حِملاً علينا. وكان مِن الواضح أنّ وجودها بيننا لا يُزعِج سواه وصوفيا التي باتَت تحسِب حركاتها وأقوالها كَي لا يُفضَح أمرها. لكن فجأة، أصيبَت أمّي بإسهال حادّ جدًّا إستوجَبَ جَلب الطبيب لها، فهي كانت في سنّ مُتقدِّم وهزيلة البنية. أعطاها الطبيب أقراصًا وحمية غذائيّة عليها إتّباعها. لكنّها قالَت لي:
ـ راقبي طعامي جيّدًا يا ابنتي... فلَم أٌصَب بإسهال ولو مرّة في حياتي، بل غالبًا بالإمساك تمامًا كأمّي. أنتِ أيضًا ورثتِ منّا تلك المُشكلة.
ـ يا إلهي... تظنّين أنّ صوفيا... أجل، نحن نُعاني مِن الامساك المُزمِن. ربّما عليكِ العودة إلى البيت يا ماما، فلا أُريدُكِ أن تُصابي بأيّ أذى بسببي.
ـ راقبي فقط طعامي ولا تُبالي.
وبما أن خطّة صوفيا لَم تنجَح وتعافَت والدتي حين لَم تعُد حفيدتها قادِرة على دسّ مادّة أو عشبة ما في طعامها، قرّرَ زوجي التصرّف. فهو قالَ لي ذات مساء حين كانت العائلة مُجتمعة:
ـ حان وقت رحيل أمّكِ، فهذا بيتي وأنا أقرِّر مَن يأتي إليه ويبقى فيه.
ـ هذا بيتنا جميعًا، فلا يهمّ باسم مَن هو، إنّنا عائلة واحدة. أنسيتَ مَن ساعدَنا في البدء؟ أنتَ مُدين لأمّي ليس فقط مادّيًّا بل أيضًا لأنّها والدتي وجاءَت بي إلى الدنيا لأصبَحَ زوجتكَ.
ـ دعيني أضحَك!
ـ لا، يا أستاذ، أنا مَن يضحَك... أو بالأحرى كلّنا نضحَك.
ـ إن لَم ترحَل أمّكِ فسأرحل أنا!
ـ إرحَل إذًا وخُذ معكَ تلك الفاسِقة.
ـ لا أسمَح لكِ أن تتكلّمي عنها هكذا!
ـ بل أسمَح لنفسي! أتعرفُ شيئًا؟ سنُساعدكَ جميعًا في تحضير حقيبتكَ وحقيبة صوفيا، أليس كذلك يا ماما؟ أليس كذلك يا ولدَيّ؟
وافقَني الباقون ووقفَ زوجي مذهولاً لكثرة هدوئي، فهو توقّع أن أتوسّل إليه ليبقى. تفاجأ أيضًا بموقِف ولَدَينا وشعَرَ أنّه الحلقة الأضعف. وحدها صوفيا وقفَت إلى جانبه قائلة:
ـ هيّا بنا نرحَل، سنبدأ حياة جديدة في أماكن جميلة مِن العالَم.
عندها أجابَها زوجي:
ـ بأيّ مال؟ فأنا لا أملكُ سوى هذا البيت وراتبي.
ـ بِعه إذًا! إرم هؤلاء القوم خارجًا! إرمِهم في الشارع!
ـ أرميهم في الشارع؟ كلام قاسٍ للغاية يا صوفيا... صحيح أنّني هدٌدتُهم سابقًا بالطرد، لكنّني لَم أقصد ما قلته! فهُم عائلتي!
ـ أنا عائلتكَ! أنظُر إليّ! أنظُر إلى جمالي وشبابي!
ـ لكن...
عندها وقفتُ فجأة وأمسكتُ صوفيا مِن شعرها وجرَرتُها إلى الباب ورمَيتُها خارجًا صارخة:
ـ أنظُري مَن في الشارع الآن!
ثمّ استدَرتُ إلى زوجي وأضَفتُ:
ـ الشارع يتّسِع أيضًا لكَ! ماذا تنتظر! إلحَق بالصبيّة الجميلة أيّها العقوق! إذهب معها إلى جميع أنحاء العالَم، فنحن لَم نعُد نريدُكَ!
خافَ زوجي كثيرًا وبدأ يرتجِف. وبقيَ ينظُر تارة إلينا وتارة إلى الباب، ليقول أخيرًا:
ـ لا... سأبقى هنا في بيتي.
ـ في بيتنا!
ركضَ ولدايَ وجمَعا أمتعة صوفيا ورمياها خارجًا في وجهها، بينما كانت هي تصرخ وتُهدّد. ثمّ اختفَت... إلى الأبد! بقيَت أمّي عندنا لبضع أيّام إضافيّة ثمّ عادَت إلى بيتها. ولن اشكرها كفاية لأنّها وقفَت معي وردّت اللُحمة بين ابنَيّ. أمّا بالنسبة لزوجي، فهو حتّى اليوم يُحاول محو ما حصل وذلك بمُعاملتنا برفق ومحبّة. لكن ما مِن شيء في العالم يستطيع محو خيانته لي ومحاولة إبدالي بابنة أختي. لا شيء!
حاورتها بولا جهشان