عادةً تكون هناك مشاكل بين الكنّة وأمّ زوجها، لكن في حالتي كانت الظروف مُختلِفة. فحمايَ، رجُل في الستّين مِن عمره، كان أرملًا، ورأيتُ في ذلك بُشرى سارّة حين عرِفتُ ذلك، خاصّة بعد ما سمِعتُ أنّ المرحومة كانت إنسانة جافّة ومُمتعِضة طوال الوقت. سألَني ماهِر خطيبي إن كنتُ أُمانِع أن نعيشَ في بيت والده، وأنا قبِلتُ لأنّ ذلك الرجُل كان لا يزال يعمَل ويتمتّع بصحّة جيّدة، أيّ أنّني لن أراه خلال النهار ولن أضطرّ لخدمته كما لو كان عجوزًا أو مريضًا. إضافة إلى ذلك، كان خليل حمايَ رجُلًا لطيفًا ويُحبّ المزاح ومزاجه إيجابيّ طوال الوقت.
تزوّجنا وحلّ خليل مكان أبي في حفل الزفاف لأنّني كنتُ يتيمة الأب، والجميع حسَدَني عليه، فهو قامَ بواجباته على أكمَل وجه في بذّته الأنيقة ولطفه المعهود. وبعد عودتي وماهِر مِن شهر العسَل، وجدنا غرفتنا جاهِزة ومُجهّزة، وعمّي ينتظرُنا وبسمة عريضة على وجهه.
بدأَت حياتي الجديدة الهنيئة واستمتعتُ بالقيام بدور سيّدة البيت، خاصّة بعد غياب العنصر النسائيّ عنه، فأضفتُ عليه لمساتي واهتمَمتُ به وبساكنَيه. لَم أكن أعمَل آنذاك، فبالكاد كنتُ قد حصَلتُ على شهادتي الجامعيّة حين تزوّجتُ، أيّ كنتُ لا أزال في الثانية والعشرين مِن عمري والمستقبل المهنيّ أمامي، خاصّة أنّني شارَطتُ ماهِر بألّا نُنجِب قبل أن أجِدَ عمَلًا جيّدًا، فأنا أرَدتُ لأولادنا الأفضل، لأنّنا كنّا بحاجة إلى راتبَين وليس واحدًا فقط.
وهكذا صارَ زوجي ماهِر يعودُ وعمّي خليل مِن عملَيهما ويجدان كلّ شيء جاهزًا، ثمّ نجلسُ نحن الثلاثة حول مائدة الطعام ولاحقًا التلفاز، ثمّ نتبادَل الأحاديث إلى حين يدخُل خليل غرفته ونحن نختار أن نخرج أو ندعو الأصدقاء. في كلمة، كانت حياتي مثاليّة، واعتبرَتُ خليل الأب الذي خسِرته وهو اعتبرَني الابنة التي لَم تولَد منه. سُعِدَ ماهِر كثيرًا لهذا الائتلاف، فماذا يطلبُ أكثر مِن ذلك؟
إلّا أنّ هنائي لَم يدُم طويلًا، فذات يوم، في فرصة نهاية الأسبوع، بينما كان زوجي قد ذهَبَ لشراء حاجيات، ناداني أبوه إلى غرفته بطريقة حسبتُه يُعاني مِن خطَب ما. ركضتُ بسرعة، لأجِدَه شبه عارٍ وينظرُ إليّ بطريقة لَم تعجِبني. وعندما سألتُه إن كان بخير، أجابَني:
ـ لا، لستُ بخير... فهناك جزء مِن جسَدي بحاجة إلى مُعالجة.
ولأنّني فهمِتُ ما لَم يقُله بوضوح، خرجتُ بسرعة مِن غرفته وقلبي يدقّ بسرعة. جلستُ في غرفتي حيث اختبأتُ، واتّصلتُ بماهِر لأسأله إن كان سيتأخّر أم لا، وهو طمأنّني بأنّه في طريقه إلى البيت. عندها تحجّجتُ بشوقٍ كبير له لأنّني، وللأسف لَم أكن قادِرة على مُشاركته ظنوني. فخليل كان أباه، وإضافة إلى ذلك، عمّي لَم يقُل شيئًا واضحًا يدلّ على قلّة تهذيب تجاهي، بل بقيَ كلامه غامِضًا. وكان مِن السهل عليه أن يقول لابنه إنّه شعَرَ بوعكة صحّيّة أثناء ارتدائه ملابسه فناداني. لا، لَم أكن قادرة على تأكيد أيّ شيء، فقرّرتُ عدَم التواجد مع عمّي لوحدنا في البيت.
عادَ زوجي مِن السوبر ماركت، وكما توقّعتُ قالَ له أبوه:
ـ مِن الجيّد أنّ زوجتكَ كانت هنا في البيت... فلقد أحسَستُ بضيق نفس ونادَيتُها، إلّا أنّ الأزمة مرَّت بسرعة.
ـ يا إلهي يا بابا! هل تُريدُني أن آخذَكَ إلى طبيب؟
ـ لا يا بنَيّ... بل سأبقى بضعة أيّام في البيت لأرتاح... أرجو فقط أن تقبَل زوجتكَ الاعتناء بي.
جرى الحديث أمامي وكأنّني غير موجودة، فأجَبتُه:
ـ زوجته ستعتَني بكَ إن كنتَ بالفعل بحاجة لعناية.
إستغرَبَ ماهِر كلامي، خاصّة النبرة التي استعملتُها، إلّا أنّني عدتُ وابتسَمتُ للرجُلَين، وأكمَلتُ تفريغ أكياس الحاجيات بصمت. إنتهَت فرصة نهاية الأسبوع بسلام، لكنّني كنتُ أخشى قدوم اليوم التالي، حين يذهب ماهِر إلى عمَله وأبقى لوحدي مع خليل. وكَي أرفَع مِن معنويّاتي، أقنعَتُ نفسي بأنّني على خطأ في مخاوفي، وأنّ عمّي لَم يعنِ شيئًا سوى ما قصدَه عن وعكته. لكن كلّنا نعلَم أنّ حدَسَنا لا يُخطئ أبدًا.
في اليوم الأوّل مِن مكوثه في البيت، لَم يُزعِجني عمّي بل بقيَ مُعظم الوقت في غرفته أو على الشرفة، وأنا إنشغَلتُ بمهامي اليوميّة. عادَت إليّ البسمة ونسيتُ مخاوفي، فكان مِن المؤكّد أنّني فهمتُ خطأً نوايا خليل. لكن في اليوم الذي تلا، سمِعتُ أصواتًا غريبة تتعالى مِن غرفة عمّي، لِذا رحتُ ألصقُ أُذني على بابه. وأحمَّر وجهي حين فهِمتُ ماذا يجري: هو كان يُشاهِد على حاسوبه المحمول تلك الأفلام الإباحيّة التي كنتُ أسمَع عنها. إلهي... يا لجرأته! فهو كان واضعًا الفيلم بأعلى صوته، عالِمًا تمام العِلم أنّني سأسمَع كلّ شيء.
ماذا أفعل؟!؟ قرّرتُ طبعًا أن أتجاهَل ما يحدث، لكنّني كنتُ أوّد أن أتّصِل بزوجي لأقولَ له ما يفعله أبوه! ولكن شعرتُ بخجَل كبير حيال التكلّم عن هكذا أمور مع ابنه. يا ربّي، إجعَل هذا اليوم يمُرّ بسلام!
لكن ما كنتُ أجهلُه، هو أنّ أفلامًا كهذه لها تأثير على خليل، فإذ به يخرجُ مِن غرفته بلباسه الداخليّ ويدخُل المطبخ حيث كنتُ موجودة ويُمسكُني بذراعي مِن الخلف قائلًا: "تعالي معي... أودّ أن أريكِ شيئًا سيُعجبُكِ". إستدَرتُ ورأيتُ بأيّة حالة كان، فتدارَكتُ الأمر بسرعة قائلة: "مَن يطرقُ الباب؟ دعني أرى مَن أتى لزيارتنا"، وركضتُ نحو باب الشقّة، ففتحتُه ودقَّيتُ على باب الجيران بقوّة. أمّا خليل، فاختفى فجأة، فقلتُ للجيران إنّني قصدتُهم لشرب القهوة معهم. بقيتُ حيث أنا إلى حين قدِمَ ماهِر، بعد أن أتّصلتُ به طالبةً منه المجيء بسرعة. هو ظنّ أنّ شيئًا ما حصَلَ له علاقة بوعكة أبيه، إلّا أنّني طلبتُ منه أن نتكلّم في المرآب وداخل سيّارته.
أخبَرتُ زوجي كلّ شيء، إلّا أنّه لَم يُصدّقني. هو لَم يقُل إنّني أكذب، بل فقط إنّني أٌفسِّرُ الأمور خطأ. فخليل كان رجُلًا مؤمِنًا وهادئًا ولَم يحصل ولو مرّة أن شيئًا مِن هذا القبيل بانَ عليه. طلبتُ مِن ماهِر أن يُقنِع والده بالعودة إلى عمَله في اليوم التالي، وإلّا ذهَبتُ إلى أهلي إلى حين تتحسّن "حالته"، فلَم أكن أبدًا مُستعدّة للبقاء معه لوحدي في البيت. إمتعَضَ منّي ماهِر وهزّ برأسه وكأنّه يعتبرُني مجنونة، لكنّه وعدَني بأن يتصرّف.
عندما عُدنا إلى الشقّة، قالَ زوجي لأبيه إنّه يراه في حالة جيّدة ونصحَه بالذهاب إلى العمَل في اليوم التالي "على الأقلّ ليتسلّى" بعد أن مكَثَ في البيت مُطوّلًا.
وهكذا ذهَبَ الرجُلان إلى العمل في الصباح وكنتُ سعيدة جدًّا بالأمر. لكن قُرابة الساعة العاشرة صباحًا، سمِعتُ وأنا في المطبخ أُحضِّر القهوة، وكأنّ باب الشقّة يُفتَح على مهل، وإذ بي أرى عمّي واقفًا أمامي وبسمة بشِعة على وجهه وهو ينظُر إليّ برغبة قذِرة. ثمّ هو قال لي: "مذّ رأيتُكِ وأنا أحلمُ بكِ ليلًا نهارًا... أُريدُكِ بكلّ جوارحي يا صغيرتي... تعالي معي إلى غرفتي، هيّا!"، وأمسكَني بقوّة مِن ذراعي ليسحبَني إلى الداخل... حينها خرجَت جارتي التي كانت تزورُني مِن حمّام الضيوف ورأت ما يحصل. وبلحظة هي أزاحَته عنّي بقوّة، وتناولَت ركوة القهوة الموجودة على النار ورمَتها عليه. بدأ عمّي بالصراخ لكثرة ألَمه، فدفَعنا به إلى خارج الشقّة وأقفَلنا الباب! كنتُ أرتجِف بقوّة وأبكي في آن واحِد، لِذا أخذَت جارتي هاتفي واتّصلَت بزوجي قائلة له: "تعال وخذ أباكَ إلى المشفى!" وأخبرَتُه كلّ ما حصل، مُضيفةً أنّ عليه لَجم أبيه، فهي جارته منذ سنوات ولقد عانَت هي الأخرى مِن تلميحاته وحركاته القذِرة.
بعد قليل، حضُّرتُ حقيبة صغيرة وأخذَتني جارتي إلى بيت أهلي حيث وافاني ماهِر، بعد أن رافَقَ أباه إلى المشفى ليتلَقّى الطبابة لحروقه على ذراعه ورِجله. قدَّمَ لي زوجي اعتذاره لِعدَم تصديقه لي، ووعدَني بأنّنا لن نقضي يومًا إضافيًّا مع أبيه بل أنّه سيُفتّش لنا عن شقّة. مكَثَ زوجي معي عند أهلي، لأنّه لَم يكن قادِرًا على رؤية أبيه بعد الذي فعله.
رحتُ وزوجي إلى بيت عمّي لِجَلب أمتعتنا والانتقال إلى مسكننا الجديد، وذلك أثناء وجوده في عمَله. ولَم أرَه على الإطلاق بعد ذلك. علِمتُ أنّ عمّي تحدّثَ مع زوجي عبر الهاتف، شارِحًا له أنّه مريض نفسيّ ولَم يَعِ إلى ما فعلَه. لكنّني لَم أصدّقه وأنا مُتأكّدة مِن كلام الجارة أنه لَم يكن يومًا الرجُل التقيّ والهادئ الذي ظنّه الناس، بل كان له وجهان، مثل الكثير مِن الناس.
بعد فترة، بدأتُ أتلقّى اتّصالات غريبة على هاتفي المحمول، وأسمَع أصواتًا بشِعة ولَهاث مُعيب. فهِمتُ أنّه عمّي، لكنّني لَم أكن أملكُ دليلًا إذ انّ رقم المُتّصل كان محجوبًا. لِذا غيّرتُ رقمي وارتاحَ بالي.
ويوم وُلِدَت لنا إبنة، منَعتُ عمّي مِن أن يراها بأيّ شكل، فهو إنسان قذِر ولا أستبعِد أن تتكوّن لديه أفكار دنيئة تجاهها في يوم مِن الأيّام. عارَضَني زوجي فهدّدتُه بتركه إن بقيَ مُصِرًّا على أن تكون لأبيه صِلة بابنتنا، فهدأ قليلًا.
لا أزال عند قراري، فواجباتي كأمّ هي حماية ابنتي مهما كلّفَ الأمر!
حاورتها بولا جهشان