إنتقمتُ مِن زوجي الكسيح!

نظرتُ إلى ذلك الرجل المُلقى على سرير مشفى وتساءَلتُ عمّا سيكون موقفي منه. للحقيقة، حتى وصولي غرفته، كانت المشاعر تتخبّطُ في داخلي، أي مزيج مِن الفرَح والشفقة. أجل، فرِحتُ لأنّ زوجي يتألّمُ بعد أن دهسَته سيّارة مُسرِعة. لا، لستُ إنسانة سيّئة، بل امرأة قد تحمّلَت لمدى سنوات العنف والإهانات اليوميّة مِن قِبَل إنسان لا يعرفُ الرحمة. وها أنا أجدُ نفسي واقفة أمام طاغية مكسور جسديًّا ومعنويًّا. أخيرًا ثأَرَ لي القدَر منه... أخيرًا وقَعَ الجبّار.

فتَحَ علاء عَينَيه ورأيتُ لِبرهة فيهما ما يُشبه نداء إستغاثة ومِن ثمّ تغلَّبَ فيه الكبرياء فأزاحَ وجهه قائلاً:

 

- ماذا تريدين؟ إرحلي مِن هنا وعودي إلى البيت لتقومي بواجباتكِ! أتسمعين ما أقوله؟ هيّا!

 

هزَزتُ برأسي، فحتى بحالته هذه كان لا يزال يُمارس "رجولته" عليّ، وكان مِن الواضح أنّه لَم يتلّقَ بعد الخبَر وإلا شعَرَ ولو بالقليل مِن الضعف والضياع. لَم يقُل له الأطبّاء إنّه لن يمشيَ بعد الآن بل صارَ كسيحًا إلى الأبد. فشاورتُ نفسي: هل أزفُّ له الخبَر بنفسي وأٌراقبُ بشماتة ردّة فعله؟ كنتُ أستحقُّ التلذّذ بانتصاري بعد عذابي الطويل. فأعطوني لحظتي التي طالَ انتظارها، مِن فضلكم!

عدتُ إلى البيت مِن دون أن أكون قد ذقتُ طعم التشفّي، لكنّ ذلك لَم يكن سوى تأجيل لِما سيحدثُ لاحقًا. فقد أصبَحَ علاء تحت رحمتي حتى آخر أيّامه.

إتّصلتُ بولَدي الذي كان مُسافرًا بعيدًا بعد أن دبَّرتُ له موطنًا آخر لأنقذه مِن أبيه الذي كان يُعنّفُه لأيّ سبب. فما ذنب صغيري إن كنتُ قد أسأتُ الإختيار وقرّرتُ البقاء مع زوج بغيض؟ ولدى معرفة إبني بما جرى لأبيه، تصوّرتُه يبتسمُ مِن دون أن يُظهِر لي ذلك، بل قال:

 

- الله موجود بالفعل. ماذا ستفعلين به الآن؟

 

لَم أجِبه على سؤاله بل غيّرتُ الحديث لأنّني لَم أكن أملكُ الجواب بعد.

زرتُ علاء في المشفى يوميًّا وجلستُ بالقرب منه كأيّ زوجة أخرى، إلا أنّه تجاهَلَ وجودي وأنا لَم أُخاطِبه. كان قد علِمَ حقيقة وضعه، وهو الآخر لَم يعُد يعلَم أيّ موقف سيتّخذه.

يوم عادَ زوجي إلى البيت على كرسيّه بدأَت حياتنا الجديدة، إذ كانت قد انقلبَت موازين القوى بشكل جذريّ. كنتُ قد أصبحتُ الأقوى وهو الأضعَف. دخَلنا في صمت رهيب وهو توجَّهَ فورًا إلى غرفة نومنا قائلاً: "ستنامين في غرفة إبننا". سكتُّ مطوّلاً ثمّ سألتُه:

 

ـ ولِما أفعل؟ ما سبَب هذا القرار؟

 

ـ لا أحتاجُ إلى مُبرّرات، ألَم تتعودّي على ذلك؟

 

ـ إن لَم يكن هناك سبب وجيه لطلبكَ، فلا أرى حاجة لتلبيَته.

 


كنتُ قد قلتُ ذلك مِن دون تفكير وتفاجأتُ كثيرًا بنفسي. لو حدَثَ ذلك الموقف قَبل الحادث، لانتقلتُ إلى غرفة منامة أخرى مِن دون جدَل. نظَرَ إليّ علاء بغضب، وقبل أن يُفرِغ سمّه عليّ أضفتُ:

 

ـ يُمكنُكَ أنتَ الإنتقال إلى غرفة إبننا لو أرَدتَ.

 

وبهذه الجملة بالذات، تحدَّدَت الأدوار الجديدة في البيت. دخَلَ زوجي غرفة ولدنا وأقفَلَ الباب وراءه بقوّة كتعبير عن إستيائه العظيم. أمّا أنا، فابتسَمتُ بفخر أيضًا عظيم. رحتُ أنقلُه إلى فراشه بصمت، وعندما دخلتُ سريري، أخذتُ أفكّرُ جدّيًّا بما سأفعلُه بزوجي: هل سأنتقمُ منه أم أواصلُ معاملته كزوجة مُطيعة وراضخة، فلا تنسوا أنّني اعتدتُ على تنفيذ الأوامر والخوف مِن العواقب.

في صباح اليوم التالي لوصولنا البيت، إستفَقتُ بعد ليلة قضَيتُها بهناء أذهلَني. قصدتُ المطبخ وحضّرتُ الفطور كالعادة، أي كما اعتدتُ أن أفعلَ طوال عشرين سنة، ثمّ نادَيتُ علاء ليُوافيني. وبما أنّه لَم يأتِ، أخذتُ آكلُ لوحدي كي أبدأ بترتيب البيت كالعادة أيضًا.

بعد حوالي الساعة، سمعتُ علاء يصرخُ مِن الغرفة وبنبرة صوت مليئة بالغضب:

 

ـ أين أنتِ يا قبيحة؟ أين الفطور؟!؟ أنا جائع! هيّا! وبسرعة وإلا... 

 

رحتُ الغرفة ووقفتُ عند الباب وأجبتُه:

 

ـ وإلا ماذا؟!؟ أجِبني! لقد نادَيتُكَ ولم تحضُر فأكلتُ لوحدي.

 

ـ وكيف تريديني أن أحضُر؟ أنا كسيح!

 

ـ آه صحيح ذلك! أنتَ كسيح، لقد نسيتُ ذلك، فنبرة صوتكَ البارحة واليوم أنسَتني حالتكَ، فمِن الواضح أنّكَ لا تُدركُ بعد أنّ أمورًا عديدة قد تغيّرَت.

 

ـ أيّة أمور؟

 

ـ أنّكَ لَم تعُد قادرًا على أذيّتي، أوّلاً لأنّكَ فقدتَ حركتكَ وثانيًا لأنّكَ لَم تعد قادرًا على فعل أيّ شيء مِن دوني.

 

ـ تستفيدين مِن حالتي للتحكّم بي؟

 

ـ أنتَ تحكّمتَ بي مِن دون عذر... أنسيتَ يا عزيزي كيف كنتَ تُعاملني وإبننا؟ أنسيتَ التعنيف المجّاني والإهانات اليوميّة والإزدراء؟ أنسيتَ خياناتكَ لي التي لَم تتكبّد حتى عناء إخفاءها عنّي، أو إجباري على ممارسة الجنس معكَ ساعة تشاء وكيفما تشاء حتى لو كنتُ مريضة؟ وتهريبي لولدي منكَ؟ لقد أجبرَني طبعكَ البشع على العَيش مِن دون وحيدي.

 

ـ تستحقّين أفظَع مِن ذلك بعد! هيّا! ساعديني على الإستحمام وارتداء ملابسي وضعيني على الكرسيّ!

 

إبتسَمتُ له وعدتُ إلى المطبخ لتحضير وجبة الغداء قائلة: "إن لَم تأتِ لتناول الطعام فسآكل مِن دونكَ". بقيَ علاء يُناديني ويشتمُني عن بعد طوال النهار. أكلتُ لوحدي ثمّ عدتُ إلى غرفته لأقول له.

 

ـ مِن الآن فصاعدًا، ستُكلّمني باحترام وتهذيب ومِن دون استعمال صيغة الأمر، بل كلمات مُحدّدة كـَ "مِن فضلكِ" و "شكرًا" وإلا بقيتَ مكانكَ طوال حياتكَ!

 

ـ سأشتكي للشرطة وسأحبسُكِ!

 

ـ لا أرى هاتفًا بالقرب منكَ.

 

سكَتَ علاء قليلاً ثمّ قال بصوت خافِت:

 

ـ لقد بللتُ الفراش.

 

ـ لو أنا فعلتُ ذلك، ماذا كنتَ ستقول لي؟

 

ـ إنّكِ وسِخة.

 


ـ صحيح ذلك... هل تُريدني أن أحكيكَ كما تفعل؟

 

ـ لا طبعًا.

 

ـ هل تُريدُني أن أغسلكَ وأغيّر الشراشف؟

 

ـ بالطبع!

 

ـ إذًا أطلُب منّي ذلك بتهذيب.

 

نظَرَ زوجي إليّ بغضب واضح وقال مُستهزئًا:

 

ـ مِن فضلكِ، نظّفيني.

 

ـ هكذا يُكلّمُ الزوج الصالح زوجته. ولا تنسَ أن تشكرَني عندما أنتهي.

 

نظّفتُ علاء وألبستُه وأجلستُه على كرسيّه وأمام التلفاز، وهو بقيَ صامتًا غير عالم أيّ موقف يأخذه منّي. تناولنا وجبة العشاء سويًّا بصمت وعندما اقتربَ موعد النوم سألتُه:

 

ـ ماذا الآن؟

 

ـ مِن فضلكِ، هل لكِ أن تحضّريني لدخول الفراش؟

 

ـ بكلّ سرور يا زوجي العزيز!

 

صراعي لاستعادة كرامتي دامَ أشهر طويلة، فلَم يكن مِن السهل على زوجي التخلّي عن طغيان مارسَه عليّ لسنين لا تُحصى، والإعتراف بعجزه عن القيام بأبسط الأمور. فهو تارةً باتَ يُكلّمُني بلطف وتارةً يعودُ ويُهينُني.

تغيّرَت الأحوال بشكل جذريّ حين جاءَت إحدى جاراتنا لزيارتنا حاملة معها الإنفلونزا التي التقتها علاء وبقيَ في فراشه يُعاني مِن حرارة مُرتفعة وموجات برد عنيفة. دخلتُ غرفته وقلتُ له:

 

ـ أتعرف بماذا يًذكّرني هذا المشهد؟ قبل حادثكَ بسنة، أُصبتُ أنا بالشيء نفسه ونمتُ نومتكَ وشعرتُ بالذي تشعره... بفارق كبير وهو أنّكَ هزئتَ منّي وقلتَ لي...

 

ـ قلتُ لكِ أن تنهضي مِن السرير لإكمال واجباتكِ المنزليّة وتعدّي لي الطعام وإلا أبرحتُكِ ضربًا.

 

ـ تمامًا... ونفذّتُ أوامركَ حرفيًّا. أيّ إنسان يفعلُ ما فعلتَه؟

 

ـ وحشٌ.

 

ـ أنتَ قلتَها. وما ينبغي عليّ فعلُه بكَ الآن؟

 

ـ الإنتقام منّي طبعًا.

 

ـ صحيح ذلك... إلا أنّني لستُ وحشة، على عكسكَ. سأهتمُّ بكَ وأُداويكَ لأُعلّمُكَ كيف يكون البشَر. أرجو أن تتعلّم جيّدًا منّي.

 

بعد تلك الحادثة، إنقلَب طبع علاء إنقلابًا أصفُه بالسحريّ. رأيتُ ذلك في عَينَيه، فاختفى منهما الغضب والإزدراء وحلَّ مكان امتعاضه الدائم منّي نظرة إمتنان عميق. شعرتُ بدفء لَم أعرفه طالَ قلبي، ولأوّل مرّة منذ عشرين سنة إرتسمَت على وجهي بسمة فرَح. ولأوّل مرّة شعرتُ أنّ لي زوجًا بالفعل، حتى ولو كان كسيحًا وغير قادر على القيام بأيّ شيء لوحده.

وذات ليلة، بعد أن ساعدتُ علاء على الصعود إلى فراشه، أمسَكَ بيدي وشدَّ عليها بقوّة ثمّ قال لي والدّمع يملأ عَينَيه:

 

ـ لماذا عاملتُكِ بهذه الطريقة البغيضة؟ لماذا؟

 

ـ لأنّكَ كنتَ شرّيرًا وأنا كنتُ ضعيفة... بقيتُ آملُ بأن أجِدَ فيكَ بعض الحنان والإنسانيّة بدلاً مِن الرحيل وإبني بعيدًا عنكَ وتركَكَ تعيش لوحدكَ مع شرّكَ.

 

ـ لا تتركيني أبدًا، أرجوكِ يا حبيبتي!

 

ـ هذا يتوقّف عليكَ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button