إفتِتان خطير (الجزء الثاني)

بعد انسحاب صديق أسمى وتراجعه المُفاجئ، جلَسنا نُحلِّل ما قد حصَلَ، وتوافَقنا على أنّ عادل قد أقنَعَ بطريقة عدائيّة حتمًا، ذلك الرجُل على ترك أسمى التي أحسَّت بالخذلان مِن قِبَل صديقها الذي خالَته رجُلاً كفاية للوقوف إلى جانبها بوجه عادل. واسَيتُها وكذلك إبن خالتنا وبدأنا نُفكِّر بالخطوة التالية. نمنا عند طلوع الفجر مُنهكين مِن كثرة التحليل والتخطيط والانفعال. وقبَل أن نغرق في النوم، قالَت لي أختي: "أنا آسِفة جدًّا... لو لَم يرَني عادل، لمَا حدَثَ كلّ ذلك". أجبتُها أنّه إنسان مُضطرِب نفسيًّا، وعليّ أن أحمِدَ ربّي أنّه بانَ على حقيقته قَبل أن أتزوّجه وأُنجِبَ منه.

في اليوم التالي خابَرت أسمى صديقها وسألَته عمّا جرى ليتّخِذ قراره، لكنّه لَم يشأ الكلام إلى حين أقنعَته أختي بضرورة الأمر، فهو قال لها:

 

ـ لا أدري مِن أين جاء ذلك المجنون بعنواني، إلا أنّني وجدتُه بانتظاري في مرآب المبنى وبيَده عصًا كبيرة لوَّحَ بها في وجهي صارخًا: "إمّا أن تختفي مِن حياة أسمى أم تختفي نهائيًّا مِن الوجود! ولستُ أمزَح!". وبدأ بتكسير سيّارتي بواسطة عصاه ثمّ غادَرَ. إسمعي يا أسمى... أكنّ لكِ مشاعر صادقة، لكنّني أخافُ على حياتي أيضًا، ومِن الواضح أنّ ذلك الشخص مُختلّ عقليًّا وبإمكانه أن يُسبّب الأذى الفعليّ... أنصحُكِ بتوخّي الحذَر وابلاغ الشرطة عنه. ففي هذا البلَد، على خلاف بلَدنا، تأخذُ السلطات هذه المواضيع بجدّيّة تامّة. أنا آسِف جدًّا وأرجو منكِ أن تتفهّمي موقفي.

 

وتفهّمَت أختي موقف صديقها، فلا يجوزُ أن يتأذّى أحَد بسببها، فهي لن تقبل بذلك. أعجبَتها فكرة إبلاغ الشرطة، إلا أنّ ابن خالتي عرَضَ أن يُحاوِل إقناع عادل على التراجع قَبل أن نلجأ إلى رجال الأمن. قبِلنا معه ورجَوتُ أن ينجَح في محاولته وينتهي الموضوع بسلام.

أخَذَ قريبي موعدًا مِن عادل عبر الهاتف وراحَ يُلاقيه في الفندق، ودعوتُ وأختي له بالتوفيق. لكن شيئًا في قلبي قال لي إنّ ذلك المجنون لن يقتنِع بسهولة، بعد أن توصَّلَ إلى تهديد صديق أسمى وتحطيم مركبته.

ذهَبَ ابن خالتنا للقاء عادل، وانشغَلَ بالنا كثيرًا على نتيجة هذا اللقاء. فلقد قلَبَ ذلك المُختلّ حياتنا رأسًا على عقَب في غضون أيّام وأسابيع. كيف يُعقَل أن يتصرّف عادل بهذا الكمّ مِن العدائيّة والعنف، بينما كان إنسانًا عاقلاً ومُتوازنًا ومُحِبًّا؟ لَم أُصدّق أنّ أسمى كانت لوحدها مسؤولة عن ذلك التحوّل، فلَم أسمَع مِن قَبل بهكذا أمر. فلَو أنّ أختي شاركَته مشاعره، لفهِمتُ أنّه قد يفعل المُستحيل لعَيش حبّه معها. إلا أنّها رفضَته وأوضحَت له الأمر. غريب عقل الانسان!

عادَ قريبنا وعلى وجهه علامات الاستياء العميق. قال لنا:

 

ـ يجدرُ بنا العودة إلى البلَد، فعادل بالفعل مجنون، والحقيقة أنّ كلامه ونظراته مُخيفة للغاية.

 

عندها أجابَته أسمى:

 

ـ لا يسعُني العودة الآن، عليّ المكوث هنا لفترة قصيرة لإنهاء المُعاملات، وبطاقات السفَر باهظة الثمَن. إضافة إلى ذلك، لا أريدُ أن يُتابِع عادل تهديداته وتصرّفاته العدائيّة في عقر داري. عليه أن يهدأ ويفهم أنّ لا أمَل لدَيه بينما نحن هنا. سُمعتي غالية عليّ وأنوي يومًا الزواج وتأسيس عائلة، مِن دون أن يتعرّض عادل للانسان الذي سأختارُه كما فعَلَ مع صديقي هنا.

 

كانت أختي على حقّ في كلامها. لكنّ إبن خالتنا قرَّرَ العودة حتّى لو كان ذلك مِن دوننا، مُتحجِّجًا بعمَله الذي كان قد تركَه مِن أجلنا. لكنّ الحقيقة أنّه خافَ مِن عادل، فلَم نعلَم بالتفصيل الحديث الذي دارَ بين الرجُلَين.

سافَرَ قريبُنا وشعَرنا بأنّه تخلّى عنّا، لكنّنا أدركنا أنّها مسألة علينا حلّها بنفسنا. ولَم يتبقَّ لنا سوى إبلاغ الشرطة.

قصَدتُ وأسمى مركز الشرطة وقابَلَنا مُحقِّق وشرَحنا له القضيّة. هو سألَنا إن كان لدَينا أدلّة على تهديدات عادل، إلا أنّنا لَم نستطِع تقديم ما طلَبَه. كان هناك صديق أسمى، إلا أنّه رفَضَ الادلاء بشهادته حين اتّصَلَ به المُحقّق، فهو لَم يكن يُريدُ المزيد مِن المتاعب. طمأنَنا الشرطيّ أنّ نادرًا ما يُقدِم الناس على تنفيذ تهديداتهم، لكن كان مِن الواضح أنّ عادل جدّيّ للغاية، ألَم يُحطِّم سيّارة صديق أختي؟!؟ وعَدَنا المُحقّق بأنّه سيُكلّم عادل، فأخَذَ رقم هاتفه وعنوان الفندق الذي يمكثُ فيه، وترَكنا القسم خائبتَين.

ولكثرة إمتعاضي، إتّصلتُ بأمّ عادل في البلد وقلتُ لها:

 

ـ إبنكِ مجنون! فهو هدَّدَ صديق أختي وكسَّرَ سيّارته وأجبرَه على تركها، وابن خالتي ترَكَنا لوحدنا هنا وعادَ إلى البلَد. إسمعي، نحن عائدتَان لتوّنا مِن قسم الشرطة وسيُواجِه إبنكِ إحتمال دخول السجن، أهذا ما تُريدينَه؟ ولا تقولي لي إنّني السبب! فلا أحَد يتصرّفُ بهذه الطريقة لو كان يملكُ قواه العقليّة كاملةً! أريدُ أن أعرِفَ منكِ ما الخطب في عادل وإلا سيُلقون به وراء القضبان!

 

ـ يا إلهي... لَم أتصوّر أنّ عادل سيتصرّفُ هكذا، فلطالما كان...

 

ـ كان عاقلاً؟!؟ لا أُصدّقُكِ! أنتِ أمّه وتعرفينَه أكثر مِن أيّ إنسان آخَر! ماذا حدَثَ له عندما كان صغيرًا؟!؟

 

ـ حسنًا... ما لا تعرفينَه هو أنّ عادل كبرَ مِن دوني... فأبوه كان إنسانًا بشِع الطباع، لدرجة أنّني فضّلتُ الرحيل حتى لو عنى ذلك ترك ولَدي ورائي.

 

ـ تابعي.

 

ـ بقيتُ على إتّصال بعادل عن بُعد لكنّ ذلك طبعًا لَم يكن كافيًا، والمسكين شعَرَ بالوحدة والضياع كونه ولَدًا وحيدًا يمكثُ في البيت بينما أبوه في عمَله، وقد كنتُ رفيقته الوحيدة عبر الهاتف. لكن حدَثَ أن تقدَّمَ لي عريس ولَم أشأ الرفض، فلَم يكن لدَيّ مدخول لأعيشَ منه. تزوّجتُ وسافرتُ مع زوجي، وبقيتُ أكلّمُ عادل لكنّ انشغالي بزوجي وانخراطي بمجتمعي الجديد أخذا الكثير مِن وقتي. وعلى مرّ الأيّام، إبتعَدنا عن بعضنا. كنتُ أعلَم أنّني ظلَمتُ إبني، لكنني لستُ إمرأة شُجاعة وفضّلتُ الراحة على المُناضلة مِن أجل وحيدي. فلَم أنجِب مِن زوجي الثاني.

 

ـ وكيف عدتِ؟

 

ـ كان قد مضى عشرون سنة تقريبًا على رحيلي حين ماتَ زوجي الأوّل، ورأيتُ أنّ الوقت حان لأعود إلى ولَدي الذي صارَ رجُلاً. ترَكتُ زوجي الثاني وعدتُ إلى البيت.

 

ـ أرى أنّ ترك الناس سهل عليكِ!

 

ـ لا تحكُمي عليّ، أرجوكِ.

 

ـ سأحكمُ عليكِ لأنّ أفعالكِ ستِدمِّرُ حياتي وحياة أختي! تابعي!

 

ـ عندما عدتُ، وجدتُ إبنًا مكسورًا ومُضطربًا، وهو استقبلَني على شرط أن أقسمُ له أنّني لن أرحَل مُجدّدًا. إضافة إلى ذلك، بدأ يُقفلُ الباب حين يخرجُ مِن البيت ويتّصلُ بي مرّات لا تُحصى خلال النهار. تفهّمتُ قلَقه ولَم أمانِع، فإلى أين أذهب؟ أقنعتُه لاحقًا بضرورة إيجاد حبيبة وزوجة لكنّه كان خائفًا مِن أن تتركه هي الأخرى. لذلك تركَ بنفسه كلّ صبيّة إلتقى بها قَبل أن تفعل هي. وكان سيترككِ على كلّ الأحوال، صدّقيني. وأظنّ أنّه مفتون بأختكِ لأنّها تعيشُ في الخارج، وعلِمَ أنّ عليها الرجوع ولو لفترة. فهو رأى فيها صورة عنّي وأرادَ إسترجاعها... هذا تفسيري الشخصيّ لكنّني لستُ طبيبة نفسيّة.

 

ـ علِمتُ أنّه مُضطرِب وأردتِ تزويجه لي؟!؟ خذيه إلى مُعالِج نفسيّ قَبل أن ترميه على غيركِ لتصحيح أخطائكِ! إسمعي... ستتّصلين به على الفور وتُهدّدينَه بتركه والذهاب بعيدًا إن هو لَم يتركنا بسلام! أقسمُ لكِ أنّني سأفعلُ جهدي ليسجِنوه! وأنتِ تعلمين كيف هي السجون، فهو سيفقدُ عقله كلّيًّا هناك!

 

ـ يا إلهي لا! أرجوكِ! سأفعلُ جهدي، أعدُكِ بذلك! لا تسجني إبني، فهو مريض! سأكلّمه... أعرفُ ما سأقوله له... أعرفُه جيّدًا... يا حبيبي يا عادل... ماذا فعلتُ بكَ؟ سأهتمّ بالأمر... لا تؤذيه!!!

 

لا أعلَمُ ماذا قالَت له أمّه، لكنّ عادل عادَ إلى البلَد وعلِمنا ذلك مِن ابن خالتي الذي طمأنَنا هاتفيًّا. بقَينا حيث نحن لأسبوعَين وعدنا بدورنا. لَم أكن مُطمئنّة، وكذلك أسمى. ولزِمنا البيت لفترة طويلة ولَم نُبارِحه، إلا حين علِمنا أنّ عادل ذهَبَ إلى مؤسّسة للأمراض العقليّة ليتعالَج. حينها فقط إستطَعنا أن نتنفّس الصعداء. يا للتجربة الصعبة!

في آخِر المطاف، عادل ليس سوى ضحيّة أب طاغٍ وأمّ أنانيّة، لكنّه أيضًا يُشكِّل خطرًا على غيره. لماذا يتزوّجون الناس إن كانوا غير قادرين على تحمّل مسؤوليّة الزواج والانجاب وتربية أولادهم؟ هل فقط لاعتبارات إجتماعيّة؟ فأخطَر القاتلين كانوا يومًا أطفالاً صغارًا بريئين... ماذا حصَلَ لهم ليتوصّلوا إلى درجة أذيّة لا تُعقَل؟ لنسأل أهلهم عن الموضوع!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button