إدمان على الحب

لَم يجد وائل أخي الحبّ حقًّا إلا حين بلَغَ العقد السادس مِن عمره. كان قد تزوَّجَ ثلاث مرَّات وأنجَبَ مِن كلّ زوجة ولدًا، لكنّ قلبه بقيَ يبحثُ عن التي ستملأه... إلى حين تعرَّفَ إلى مايا. غلطة عظيمة أودَت به إلى الجحيم بكلّ ما للكلمة مِن معنى.

أذكرُ يوم عرّفَني وائل على مايا وأنّني وجدتُها جميلة للغاية وفرحتُ له لولا طبعًا فارق العمر الشاسع بينهما. فقد كانت تلك الصبيّة تصغرُه بأكثر مِن ثلاثين سنة. لكنّ شيئًا آخر شغَلَ بالي وهو نظراته لها التي كانت مليئة بِشغَف عميق. فلَم ينظر أخي إلى أيّة مِن نسائه هكذا مِن قَبل. لكن سرعان ما نسيتُ مخاوفي، خاصّة بعدما رأيتُ وائل سعيدًا لِدرجة أسعدَتني أنا الأخرى. هل كان يُعقَل أن يستقرّ أخي أخيرًا مع أحد ويلعبُ حقًّا دور الزوج والأب؟ رجَوتُ ذلك مِن كلّ قلبي.

اليوم، عندما أستذكرُ ذلك اللقاء الأوّل، لا أستطيع القوَل إن كانت مايا تنظرُ أيضًا إلى أخي نظرة شغَف أم لا... فأنا لَم ألاحِظ شيئًا ربمّا لأنّه لَم يكن هناك ما يُلاحَظ.

يجدرُ الذكر بأنّ وائل هو رجل ذو نفوذ وشهرة، ولن أذكر مهنته كي أُحافظ على خصوصيّاتنا. وهو كان يملكُ الكثير جمَعَه مِن تعبه ولَم ينسَ أحدًا في طريقه، فقد كان كريمًا للغاية مع الجميع. وقد تكون هذه المواصفات والصفات هي التي جذَبَت مايا لوائل. على كلّ الأحوال، يجب أن يكون هناك حافز ما لتتزوّج صبيّة مِن رجل يكبرها بهذا القدر، كما أنّ حافزه هو كان جمالها وصباها. الحياة هي مسألة عرض وطلَب، حتى في أمور القلب.

أقامَ وائل لِمايا فرحًا لن ينساه أحَد لكثرة ضخامته وفخامته، ومِن ثمّ رحلا إلى إحدى الجزر لِقضاء شهر العسل. عند عودتهما، رحتُ وزوجي لزيارتهما في الفيلا الجديدة التي اشتراها وائل خصّيصًا لِمايا. أعترفُ أنّني شعرتُ بغيرة عابرة تجاه هذا الكمّ مِن الدّلَع، فكلّ امرأة تتمنّى أن تجدَ يومًا رجلاً كهذا. لا تفهموني خطأً، فأنا سعيدة للغاية مع زوجي لكنّني لطالما افتقَدتُ معه ذلك الشغف.

قضى أخي وقته مع زوجته بالسفَر والصّرف والدعوات، وكأنّهما في إحدى القصص الخرافيّة التي تُروى للفتيات الصغيرات. وأذكرُ أنّني قلتُ لنفسي إنّ الأمور تجري بينهما على نمط أكثر مِن جيّد. كنتُ أعني حينها أنّ وائل سيملُّ كعادته مِن زوجته، فهو تركَ الثلاث زوجات السابقات بعد أقلّ مِن سنتَين على زواجه منهنّ.

 


لكن في تلك المرّة، كان وائل مفتونًا بِمايا لدرجة أنّني سألتُ نفسي لاحقًا إن كان ضحيّة سحر ما. لكنّ الحقيقة أنّ المرء لا يحتاجُ لأيّة شعوذة لِفقدان عقله وإرادته مِن أجل الحبّ.

في الواقع، ما كان يشعره أخي تجاه مايا لَم يكن حبًّا بالمعنى التقليديّ، بل شبيهًا بالإدمان. فمَن يعرفُ مُدمنًا على المُخدّرات أو رآه في الأفلام السينمائيّة أو الوثائقيّة سيفهمُ ما أقصد: لَم يكن وائل قادرًا على العَيش مِن دون مايا. وإن غابَت عنه لساعة واحدة، كان يصير كالمجنون ويُطالب بها وهو على شفير البكاء. لَم أكن أعلَم ذلك، بل ظننتُه يُقيم علاقة حبّ عاديّة مع زوجته حتى ذلك اليوم حين تلقَّيتُ مُكالمة هاتفيّة منه يقول فيها:

 

ـ أين مايا؟ هل هي بِصحبتكِ؟!؟

 

ـ مرحبًا أخي... أنا بخير وأنتَ؟

 

ـ أين مايا؟

 

ـ ليس مِن عادتها أن تزورَني ولا أعلَم أين هي. هل مِن مُشكلة؟ هل غابَت طويلاً؟

 

ـ أحاولُ الاتصال بها لكنّ جوّالها مُقفل... غادرَت المنزل منذ نصف ساعة!

 

ـ نصف ساعة فقط؟ ها ها ها! تبدو لي وكأنّكَ عُدتَ مُراهقًا!

 

ـ تسخرين منّي؟!؟ قد تكون ماتَت!

 

ـ ولِما تموت؟

 

ـ الحوادث تحصل! سأجولُ على المستشفيات!

 

وأقفلَ وائل الخط. رددتُ انشغال باله إلى الغيرة، ففارق السنّ بين الثنائيّ يولّدُ الشكّ، ولِمتُ أخي على تصرّفه غير الناضج. خفتُ أن يغضبَ أخي مِن مايا ويفتعلَ معها مشكلاً، لِذا عاودتُ الإتصال به بعد ساعة فطمأنَني بأنّ زوجته بِخير:

 

ـ أشكرُ ربّي يا أختي، فحبيبتي بِخير إلا أنّها كانت في مكان لا تُغطّيه شبكة الهاتف.

 

ـ آملُ أنّكَ لَم تصرخ بها؟!؟

 

ـ لا! بالعكس بل قبّلتُها لدى عودتها وطلبتُ منها السماح لأنّني خابرتُها مرارًا، فهي لا تُحبّ ذلك. عليّ أن أكف عن إزعاج حبيبتي... يا لِسخافتي!

 

إستغربتُ ردّة فعل أخي التي لَم تكن تُناسب طباعه، إلا أنّني سُرِرتُ لأنّه لَم يتشاجَر مع زوجته على شيء بسيط كهذا.

 


بعد فترة، صارَ أخي يُفضّل البقاء في البيت مع زوجته، وخفتُ أن يكون مريضًا ولا يُريدُ أن ينشغل بالي. لِذا زرتُه لأكتشف أنّه بخير وأنّ ذلك هو قرار أخذَه بإرادته:

 

ـ تعلمين يا أختي كَم أنّ العالَم الخارجيّ خطِر... قد يحصل أيّ شيء في أيّة لحظة، ولا يسعُني حتى التفكير بأن تُصاب حبيبتي بأيّ أذى.

 

نظرتُ إلى مايا ورأيتُ الحزن والضياع في عَينَيها. كان مِن الواضح أنّ حبّ زوجها لها صارَ بمثابة سجن ذهبيّ هي لَم تُرِده. تابَعَ وائل وهو يدلُّ على زوجته:

 

ـ أترَين هذه المخلوقة؟ لا أستطيع تصوّر حياتي مِن دونها ولو لِثانية واحدة. هي كلّ شيء بالنسبة لي، كلّ شيء! وأنا مُستعدّ لاعطائها روحي ودمي!

 

إنزعَجَت مايا مِن كلامه وفضّلَت دخول غرفتها. بقيتُ لوحدي مع أخي فقلتُ له بِصوت هادئ:

 

ـ لا يجدرُ بكَ حَبس مايا هكذا فهي حتمًا بحاجة إلى الخروج ورؤية أصدقائها وعائلتها.

 

ـ ليأتوا إلى هنا فالكلّ مُرحَّب به!

 

ـ الأمر يختلف يا وائل...

 

ـ مايا سعيدة هكذا، أنا مُتأكّد مِن ذلك فهي تُحبُّني للغاية! لو تعلمين كَم تغيّرَت حياتي مذّ دخَلَت حبيبتي حياتي! أنا رجلٌ آخرٌ!

 

ـ أرى ذلك بوضوح. لكن أنصحُكَ بعدَم تضييق الخناق على زوجتكَ فقد تخسرها.

 

ـ إيّاكِ أن تلفظي هذه الكلمة! أمنعُكِ مِن ذلك! هذا فأل سيّء!

 

ـ أنا آسفة يا أخي.

 

في ذلك اليوم بالذات شعرتُ بأنّ زواج أخي لن يدوم، لكنّني لَم أتخايَل أبدًا كيف كان سينتهي. فلطالما كان وائل رجلاً قويًّا وذا إرادة حديديّة وتصميم ثابت. أيّ وتَر أصابَت مايا مِن دون أن تدري؟ لا أعلم.

إبتعَدَ أخي عنّي بعدما خافَ مِن كلامي وتوبيخي له، لكنّني بقيتُ أتّصلُ به بين الحين والآخر. إلا أنّني لَمَستُ تغيّرًا مُخيفًا لدَيه، فصارَ وكأنّه تعِبًا ومُنهارًا. علِمتُ منه أنّ مايا أصرَّت على الخروج بالرغم مِن إرادته، الأمر الذي ولَّدَ لدَيه ضياعًا وخوفًا وكأنّه ولد صغير تركَته أمّه لوحده في البيت.

يوم وقوع المُصيبة، ترَكَ لي وائل رسالة صوتيّة على جوّالي يقول فيها:

 

ـ علِمتُ أنّ لِمايا عشيقًا... هي قالَت لي ذلك بِنفسها وتنوي الرحيل معه بعيدًا عنّي... كيف لي أن أعيشَ مِن دونها؟ عرضتُ عليها البقاء ومسامحتها والبدء مِن جديد لكنّها رفضَت... ورفضَت أيضًا مبلغًا ضخمًا مِن المال كي تُغيّر رأيها... لقد خسرتُها إلى الأبد... لو ترَين كيف نظرَت إليّ يا أختي... رأيتُ الكره في عَينيها... الكره! حبيبتي تكرهُني! لَم يعُد هناك مِن سبب لحياتي... الموت هو خلاصي... لن أعيشَ لحظة مِن دون مايا! مايا... حبيبتي... أميرتي الصغيرة... قولي لها إنّني احبُّها وأُهديها دمي كما وعدتُها. الوداع.

 

كدتُ أقَع أرضًا لدى سماعي الرسالة، لكنّني جمَعتُ قوايَ لأركبَ سيّارتي وأقود بسرعة إلى منزل أخي. قرعتُ الباب مئة مرّة وخبطتُ عليه آملة بخَلعه، لكنّني عدتُ واتّصلتُ بالشرطة التي اقتحمَت البيت.

وجَدنا وائل ميّتًا برصاصة أطلقَها مِن مُسدّسه على رأسه. كان دمُه يملأ القاعة في مشهد لن أنساه يومًا.

حاولتُ أن ألومَ مايا على انتحار وائل، لكنّني عدتُ واقتنعتُ بأنّها كانت هي الأخرى ضحيّة. فمِن الواضح أنّ أخي كان يُعاني مِن خطب ما كان نائمًا في رأسه واستفاقَ مع مايا، فليس مِن المعقول أن يفقدَ رجل صوابه فجأةً هكذا.

لا أزالُ أبكي أخي حتى اليوم، لكنّني فهمتُ أنّ ما حصَلَ له كان محتومًا ولا دخل لِزوجته فيه بشيء فلو لَم تكن هي محطّ ادمانه، لكانت أخرى أو شيء أخر. أرجو فقط أن يكون أخي في مكان أفضل، وأن تكون روحه قد ارتاحَت مِن عذاب أودى به إلى ارتكاب ما لا يقبله أحد. أتمنّى أنّ الله الرحوم سيُسامحه على إنهاء حياته بنفسه، فهو يعرفُ كلّ شيء عن ثنايا أنفسنا ويفهمُ أنّنا مخلوقات ضعيفة وخائفة... فهو الذي خلقَنا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button