إختيار سيئ

هل اعتقَدَ صهري أنّ لا أحد سيعلمُ بعلاقته مع تلك المرأة؟ وهل يبقى أمرٌ مخفيًّا إلى الأبد؟ فقد حدث ذات يوم، وبعد أن انهَيتُ زيارة لإحدى صديقاتي، قرّرتُ المشي في ذلك الشارع لأتفرّجَ على واجهات المحلات الفخمة الموجودة إلى جانبَيه. وفي أحد المقاهي، كان وائل جالسًا برفقة امرأة مُمسكًا بيَدها وناظرًا إليها بحبّ وحنان. إرتبكتُ كثيرًا غير عارفة ما عليّ فعله بشأن ما رأيتُه. فاختبأتُ في المحّل المُقابل مُبقيةً عينًا على زوج ابنتي ورفيقته، بينما يدايَ على رفّ الملابس وكأنّني بصدَد اختيار قطعة منه. ثمّ طلَبَ وائل الحساب وقامَ والمرأة مِن مكانهما وخرجا مِن المقهى يدًا بيَد، وصعدا سيّارة صهري حيث تبادلا القُبل الحارّة. كان بودّي الخروج إليهما والصراخ فيهما، إلا أنّني لَم أفعَل شيئًا. فلَم أتصوّر أبدًا أنّ بإمكان وائل خيانة مهى ابنتي لكثرة حبّه لها واهتمامه بها. إلى جانب ذلك، كانت مهى أصغر منه سنًا وجميلة للغاية وتهتمُّ بمظهرها الخارجيّ بتأنٍّ. أمّا السيّدة التي كانت برفقته، فكانت إنسانة عاديّة الملامح والقوام وسنّها يُقاربُ سنّ صهري. ماذا وجَدَ فيها لَم يجِده في ابنتي؟!؟

عدتُ إلى البيت غاضبةً وحزينةً، ورأسي مليء بالأسئلة والاستنكار الشديد. لَم أُخبِر مهى عمّا رأيتُه خوفًا عليها، فهي كانت مُتعلّقة جدًّا بزوجها وأب أولادها. إلا أنّني صمَّمتُ على التكلّم مع وائل، وبأسرع وقت، ليضَع حدًّا لتلك المهزلة.

لِذا رحتُ في اليوم التالي إلى مقرّ عمل صهري الذي كان يُديرُه، وأدخلوني إلى مكتبه الفخم حيث كان جالسًا كالملك على عرشه. كانت تلك أوّل مرّة أرى مكتبه وذًهِلتُ بالمكان. إستقبلَني وائل بفرَح وأيضًا برَيبة، فماذا كانت تُريده حماته لتأتي إليه وليس إلى بيته كالمعتاد؟ وبعد أن تبادلنا بضع جمل، سادَ سكوت غير مُريح... إلى أن قرَّرتُ البدء في الكلام.

 

ـ صهري العزيز... يؤسفُني إخباركَ بأنّني رأيتُكَ البارحة مع... مع عشيقتكَ. فجئتُ أستفسرُ عن الأمر الذي أحزنَني إلى أقصى درجة.

 

تفاجأ وائل لكنّه تمالَكَ نفسه قدر المُستطاع، ثمّ قال بعد أن أخَذَ نفَسًا عميقًا:

 

ـ أجل، لدَيّ عشيقة.

 

ثمّ سكَتَ. إستغربتُ اكتفاءَه بتلك الكلمات، فقلت له:

 

ـ أهذا كلّ ما لدَيكَ؟ أعطِني على الأقل أعذارًا وتفسيرات... أنا أمّ زوجتكَ منذ أكثر مِن عشر سنوات!

 

ـ ليس لدَيّ ما أقوله. أنتِ رأيتِني وأنا اعترَفتُ أنّ لدَيّ عشيقة.

 

ـ حسنًا... وهل تنوي المضيّ بهذه العلاقة بعدما فضحتُ أمركَ؟

 


ـ أجل يا حماتي، فأنا أحبُّ تلك المرأة.

 

ـ ماذا؟!؟ وتقولُها بكلّ وقاحة؟ إعتقدتُكَ تحبّ زوجتكَ يا وائل، أم أنّكَ ممثّل بارع؟

 

ـ هو ليس تمثيلاً بحدّ ذاته بل لِنقُل "مُراعات للظروف"، فلا تنسي يا حماتي أنّ لدَينا أولادًا ولا يجب أن يتربّوا سوى في مناخ حبّ وتفاهم بين الوالدَين. لو سمحتِ لي الآن أن أنهي عمَلي، فعليّ تأمين حياة كريمة لإبنتكِ.

 

تفاجأتُ ببرودته ووقاحته فتركتُه بدون أن أودّعه.

بعد أيّام مِن عذاب نفسيّ وتساؤلات لا تُحصى، وصلتُ إلى نتيجة تُريحُ بالي، وهي أنّ زواج ابنتي يسير بهناء كما هو، فلَم أُلاحِظ أبدًا على مهى أيّة علامات حزن أو استياء حيال وائل الذي كان بالفعل يؤمّنُ لها حياة مُريحة للغاية. إذًا كان عليّ حفظ ما أعرفُه لنفسي والتصرّف وكأنّ شيئًا لَم يحصل، الأمر الذي كان بحدّ ذاته صعب التنفيذ. لِذا فضّلتُ التخفيف كثيرًا مِن زياراتي لِمهى، ورؤيتها وأولادها فقط بمناسبة الأعياد. وبالطبع فهِمَ صهري دوافعي وعدَم استطاعتي النظر في عَينَيه وتمالك نفسي.

مرَّت الأشهر واجتمَعنا جميعًا حول مائدة الغداء يوم عيد ميلاد ابنتي. وبعد تناولنا الطعام وقطع قالب الحلوى، ذهَبَ الأولاد إلى غرفهم وبقيتُ لوحدي مع وائل ومهى نشرب القهوة في الصالون. وإذ بصهري يقول عاليًا لزوجته:

 

ـ حبيبتي... لقد رأتني أمّكِ ذات يوم مع عشيقتي، وهي تعتبرُني خائنًا سافلاً.

 

سكتَت مهى ونظرَت إليّ بإحراج واضح وتلبّكَت للغاية، غير عارفةً ما ستقوله بعد ذلك التصريح. مِن جهتي، أفرَغتُ حينها كلّ الغضب الذي كتمتُه لأشهر وصرختُ به:

 

ـ لَم أرَ وقاحة مُماثلة في حياتي! إلى هذا الحدّ لا تتحلّى بأيّة ذرّة احترام أو حياء؟ أجل يا حبيبتي، رأيتُه مع تلك... تلك المرأة وكان يُقبّلُها. لَم أكن أُريدُكِ أن تعلمي بالأمر لكن مِن الواضح أنّ زوجكِ المصون يعتبرُ خيانته لكِ إنجازًا ذكوريًّا! أنا آسفة للغاية أنّكِ اضطرِرتِ لِمعرفة حقيقة زوجكِ بهذه الطريقة. هيّا، إحزمي حقائبكِ وتعالي معي والأولاد! لا يجدرُ بكِ المكوث ولو ثانية واحدة إضافيّة مع وائل. هيّا!

 

إلا أنّ ابنتي بقيَت صامتةً ولَم تُبارِح مكانها، بل نظرَت إلى زوجها بتأنيب واضح وكأنّه قال شيئًا أمامي لَم يكن عليه قوله. أضفتُ سائلةً:

 

ـ ما الأمر؟ ما الذي يجري هنا؟ ليتكلّم أحدكما!

 

كان صهري الذي تكلّمَ ليقول لزوجته:

 

ـ قولي لي يا حبيبتي... هل أحبَبتِ هديّتي لكِ؟

 

ـ كثيرًا يا حبيبي، أشكركَ على ذلك.

 

ـ وماذا جلَبَ لكِ عشيقكِ؟ وأيّه هديّة أحببتِ أكثر؟

 

شعرتُ وكأنّ الدنيا تهبطُ على رأسي! لِمهى عشيق؟!؟ وزوجها على عِلم بذلك؟ أسرعتُ أُدافعُ عن ابنتي:

 

ـ لو لإبنتي عشيق، فذلك لأنّكَ حطّمتَ مشاعرها بخيانتكَ لها! وأنا أعذرُها تمامًا!

 

أجابَني وائل:

 


ـ بل العكس يا حماتي، بالعكس. إسأليها بنفسكِ، فلَن ألبِسَ دور الزوج الشرّير... إسأليها ما الذي أنقصتُه عليها كي تُقرّر أنّ غيري أفضل منّي؟ قدّمتُ لها كلّ ما لدَيّ ولَم يكن ذلك كافيًا لها. صبرتُ وسامحتُ وساومتُ، وحين وجدتُ أنّ لا منفعة مِن كلّ تلك المحاولات، بادرتُ إلى عَيش حبّ صادق مع أخرى أنوي الزواج منها قريبًا. فأنا يحقّ لي أن أكون سعيدًا بعد كلّ الذي مرَرتُ به. سأتركُكِ مع زوجتي "الحبيبة" فلدَيّ مَن أُقابلُه الآن.

 

خرَجَ وائل فبقيتُ لوحدي مع مهى التي لَم تكن قادرة على النظر إليّ مِن كثرة خجلها مِن نفسها، فسألتُها:

 

ـ هل ما قالَه وائل صحيح؟ على الأقل دافعي عن نفسكِ! قدّمي لي الحجَج! أم أنّ ليس هناك مِن تبرير لخيانتكِ لوائل؟ هل كبرتِ لتصبحي فاسدة؟ لَم أُربّيكِ هكذا بل على القيَم والأخلاق! لقد دمّرتِ عائلتكِ... ماذا ستقولين لأولادكِ حين يُغادر أبوهم؟

 

ـ سيأخذُهم معه.

 

ـ ماذا؟!؟ هل أجبركِ على التخلّي عنهم؟ سنوكلُ مُحاميًا و...

 

ـ لا... بل أنا أبدَيتُ رغبتي بإعطائهم له.

 

ـ كيف ولماذا؟

 

ـ لأنّ "صديقي" لا يُريدُهم.

 

ـ يا إلهي!!! تتخلّين عن فلذات كبدكِ مِن أجل رجُل؟ مِن أجل لذّتكِ؟!؟ وتوكلين تربيتهم لِغريبة قد تُسيء مُعاملتهم؟ هل فقدتِ عقلكِ كليًّا؟ سيكبُر هؤلاء الصغار بشعور بالتخلّي والأمر سيوّلدُ لدَيهم عقدًا عديدة، بينما أنتِ في أحضان رجُل ما؟!؟ أعذريني لكن عليّ فعل ذلك.

 

وقمتُ مِن مكاني وصفعتُها بقوّة هائلة وهي لَم تقُل شيئًا بل بدأَت بالبكاء، فقد كانت تلك أوّل مرّة أمدُّ يَدي على ابنتي التي لطالما كانت عاقلة وهادئة. أخذتُ حقيبة يدي وأسرعتُ بالخروج لأفكّر مليًّا بكلّ تلك المُستجدّات المُقلِقة للغاية.

لَم أنَم على الأطلاق في تلك الليلة، وفي الصباح الباكر عدتُ إلى شركة وائل لأقول له حين دخلتُ مكتبه:

 

ـ لا دخلَ لي بما يجري بينكَ وبين مهى، فكلاكما راشدان. لكن أن يدفَعَ أحفادي ثمَن ما يجري، فلا! لِذا أُريدُ تربيتهم بنفسي وفي بيتي. وليذهَب كلّ منكما في طريقه. وإيّاكَ أن ترفض، فأعدُكَ بأن...

 

ـ لا داعٍ للتهديد يا حماتي، لأنّني أُفضّلُ أن يبقى أولادي في عهدتكِ. فمهما كان حبّ زوجتي المُستقبليّة لي، لا أدري إن كانت ستكون أمًّا بديلة جيّدة لهم. أريدُكِ أن تتأكّدي مِن أنّني لَم أتصوّر أبدًا أن يحصل لنا ذلك، إلا أنّ الحياة تلعبُ بنا كما تشاء.

 

إنفصلَت ابنتي وزوجها بعد ستّة أشهر، واستقبلتُ أحفادي الذين لَم يستوعبوا تمامًا لماذا سيعيشون معي حصريًّا. سافرَت مهى مع حبيبها وتزوّجَ وائل مِن التي أحبَّها، وصارَ يبعثُ لي مبلغًا شهريًّا يكفي لمصاريف أولاده ومصاريفي، ويزورُنا كلّ يوم تقريبًا إمّا لوحده أو مع زوجته.

أمّا بالنسبة لِمهى، فاكتفَت بالمكالمات الهاتفيّة مِن حيث هي، واعدةً أولادها بجَلبهم إليها يومًا. ولَم يأتِ ذلك اليوم، فهي أنجبَت مولودًا اعتبرَته وحيدها وصارَت اتّصالاتها تشحُّ يومًا بعد يوم. فكان مِن الواضح أنّها أسَّسَت في المهجر حياةً جديدة لها لا دخل لأيّ منّا فيها. وبقيتُ أسأل نفسي كيف لابنتي أن تكبُرَ لتصبح معدومة المسؤوليّة وأنانيّة لهذه الدرجة، فلَم يكن هناك مِن بوادر تُشيرُ إلى هكذا طباع. هل أخطأتُ بشيء حين أنشأتُها؟ هل لأنّ والدها توفّى حين كانت لا تزال صغيرة؟ لا أملكُ الجواب.

بعد حوالي السنتَين على طلاقه مِن ابنتي وزواجه الجديد، صارَ أحفادي يقضون فرصة نهاية الأسبوع عند أبيهم ومِن ثمّ الفرصة الصيفيّة. والحقيقة أنّ زوجة وائل كانت تحبُّ استقبالهم في بيتها والترفيه عنهم. ربمّا هي أشفقَت عليهم لتخلّي أمّهم عنهم، أو شعرَت بحنان الأمومة تجاههم، فهي لَم تُنجِب ولدًا مِن وائل. وعلى مرّ السنوات، صارَ أولاد مهى يعيشون بصورة دائمة مع أبيهم ويُخصّصوني بزيارات دائمة، فهم لَم ينسوا كيف اهتمَّيتُ بهم ومسحتُ دموعهم حين انفصَلَ أبواهم.

وعندما أفكّرُ بكلّ ما حدَث، أستغربُ كيف للإنسان أن يفقدَ صوابه فجأة وينسى كلّ مَن حوله، حتى أولاده. لو بقيَت مهى في البلَد، لأجبرتُها على رؤية طبيب نفسيّ والمُعالجة لتعود إلى أولادها كي يربوا بِكنفها. ومِن جهة أخرى، أرى أنّ بعض النساء يتحلّونَ بعاطفة "شاملة" مِن دون أن يُفرّقنَ بين شخص وآخر، على مثال زوجة وائل. وأشكرُ ربّي أنّه تزوّجها بالذات لأنّه أحسنَ الاختيار، على خلاف اختياره لابنتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button