ما أجمَل الشعور بالانتقام حين يكون المرء قد اكتشَفَ أنّه كان ضحيّة كاذِب وماكِر! فلقد قالَ لي كريم إنّه عازِب ويودُّ الزواج منّي. كان يجدرُ بي عدم الوثوق بذلك التطبيق المُخصّص للتعارف، فمُعظم المُنتسبين إليه يسعون إلى تمضية الوقت وليس الارتباط الجدّيّ. إلتقَيتُ وكريم مرّات عديدة، وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدة بالتواجد معه وتبادُل الآراء... والنظرات التي تحملُ معانٍ كثيرة. تصوّرتُ نفسي مُتزوّجة منه وأعجبَتني الفكرة. لكن شاء القدَر أن علِمتُ الحقيقة، أو بالأحرى، شاءَت زوجته اطلاعي عليها.
فذات يوم، رنّ هاتفي وابتسمتُ لدى رؤية اسم حبيبي على الشاشة، لكنّ تلك البسمة اختفَت حين قالَت لي امرأة بصوت غاضب:
ـ مَن أنتِ؟!؟ أجيبي!
ـ أنتِ المُتصِّلة وعليّ أنا أن أسألكِ هذا السؤال! مَن أنتِ؟
ـ أنا زوجة كريم وأنتِ على علاقة به!
ـ ماذا؟!؟ ليس لكريم زوجة بل هو أعزب.
ـ لدَيه زوجة وولدان يا عزيزتي!
ـ أنتِ تكذبين حتمًا... ما هي دوافعكِ؟ هل أنتِ حبيبة قديمة وتودّين الانتقام منه لأنّه تركَكِ؟ هل سرقتِ هاتفه؟!؟
ـ عليّ إقفال الخطّ ... فهو يستحمّ الآن وسيخرجُ مِن الحمّام بين لحظة وأخرى. إسمعيني جيّدًا... إن كنتِ ذكيّة ولو بعض الشيء وإن كنتِ حقًّا تجهلين أنّه مُتزوّج، فانتظري منّي مُكالمة بعد ساعات قليلة، سأحفظُ رقمكِ في هاتفي. وإن كنتِ بالفعل إنسانة شريفة تجهلين وضع كريم العائليّ، فلن تقولي شيئًا له بشأن اتّصالي الآن ولاحقًا.
غضَبي كان لا يُقاس! هكذا إذًا... الأستاذ كريم له زوجة! بدأ رأسي يُراجعُ كُلّ التفاصيل التي كان عليها لَفت انتباهي للأمر، كتأخيره المُستمرّ على مواعيدنا، أو أنّنا لَم نلتقِ يومًا خلال فرصة نهاية الأسبوع بحجَج أقنعَتني آنذاك، أو حتى إصراره على إزالة الصوت عن هاتفه عندما نكون سويًّا. ما أغباني، فالموضوع كان بوضوح الشمس، لكنّ حبّي له وثقتي العمياء به شجَبا عنّي الحقيقة الجليّة...
إنتظرتُ بفارغ الصبر اتّصال الزوجة لأعرفُ المزيد، لكنّ الكاذب اتّصَلَ بي أوّلاً مؤكّدًا لي شوقه وحبّه لي. عمِلتُ جهدي للحفاظ على هدوئي وعدَم شتمه ومواجهته بالذي علِمتُه، فكان عليّ الحفاظ على هدوئي مهما كلّف الأمر.
رنّ هاتفي مساءً وأجبتُ وقلبي يدقّ مِن الرهبة، ففي آخِر المطاف كنتُ سأتكلّم مع زوجة مجروحة بإمكانها إستعمال ألفاظ جارحة تجاه التي سرقَت منها ربّ عائلتها وأب أولادها. لكنّ المرأة كانت لطيفة معي بعد أن تأكّدَت أنّني بالفعل كنتُ أجهل أنّ كريم ليس عازبًا. وهذا ما قالَته لي:
ـ كريم إنسان أنانيّ وماكِر... منذ ولادة ابننا الأصغَر، تحوّلَ مِن زوج مُحبّ إلى رجُل قاسٍ لا يتأخّر عن إهانتي عند أيّ سبب. حاولتُ شتّى الطرق معه، إلا أنّني فشلتُ للأسف. وشعرتُ طبعًا أنّه يُعاشِر غيري، فأنتِ لستِ الأولى في حياته "كعازِب" بل سبقَتكِ الكثيرات. هو يتسلّى معهنّ ومِن ثمّ يبحث عن وجوه جديدة، لكن هذه المرّة، تجرّأتُ وأخذتُ قرار مواجهة عشيقة زوجي، أيّ أنتِ، بواسطة هاتفه عندما كان يستحمّ.
ـ لستُ عشيقته بل علاقتنا شريفة يا سيّدتي!
ـ إنّها مسألة وقت، فهو يعرفُ كيف يُقنعُ النساء بإعطائه ما يُريد. ألَم يعِدكِ بالزواج؟
ـ بلى.
ـ أرأيتِ؟
ـ ماذا تُريدين منّي؟ أن أفسخَ علاقتي به؟ إعتبري الأمر مُنتهيًا، فلَم أعُد أُريده!
ـ بالفعل أُريدكِ أن تبتعدي عنه، لكن ليس قبل أن آخُذ حقّي منه.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ إبقِ معه قدر المُستطاع ثمّ ارميه فجأة مِن دون تفسير! إيّاكِ أن تقولي له لماذا تركتِه، فهذا لا شيء أمام الذي كان ينوي فعله بكِ والذي فعلَه بي.
أعجبَتني فكرة الزوجة، فإذا واجهتُ كريم ثمّ تركتُه، لن يكون ذلك عقابًا بل ردّة فعل طبيعيّة قد يكون حسَبَ حسابها. فلا بدّ له أنّ يتوقّع أن يرانا أحد سويًّا ويُخبرُ زوجته بالأمر، وذلك بالرغم مِن كلّ جهوده. فالجدير بالذكر أنّ الذي أحبَبتُه كان يتمنّى عليّ دائمًا أن نلتقي في أماكن "هادئة" و "بعيدة عن الناس" لنستلذّ بوجود بعضنا.
لِذا عمِلتُ حسب تعليمات الزوجة المغشوشة، ومثّلتُ دور الحبيبة المُتيّمة، لكنّ الأمر لَم يكن سهلاً لولا رغبتي القويّة بالانتقام. مِن جانبه، لَم يشكّ كريم بشيء على الاطلاق، بل بقيَ يملأ رأسي بوعود بالزواج والحياة السعيدة. في الوقت نفسه، صرتُ أتبادَل الرسائل مع الزوجة بانتظام وهكذا رأيتُ صوَر ولدَي الذي ادّعى العزوبيّة، وأسفتُ لهما كثيرًا لأنّ أباهما لا يُحبّهما كفاية للاهتمام بهما كما يجب بل يقضي وقته بالركض وراء النساء.
بعد أشهر قليلة، وبينما اعتقَدَ كريم أنّني بالفعل صدّقتُ أنّنا سنتزوّج قريبًا، ضربتُ الضربة القاضية: توقّفتُ فجأة عن رؤيته وحظرتُه على هاتفي وكلّ مواقع التواصل الاجتماعيّ. ضحكتُ ضُمنًا على ردّة فعله، إذ أنّه تفاجأ حتمًا وتساءَلَ مئة سؤال لن يجد لها جوابًا. علِمتُ أنّه سيُحاولُ المجيء إلى حيث أسكن مع أهلي، إلا أّنّني أعطَيتُهم التعليمات بعدَم فتح الباب له بعدما أطلعتُهم على حقيقته البشعة. حزنتُ قليلاً، ربّما لأنّني اعتدتُ على وجود كريم في حياتي، لكنّ العَيش مِن دونه كان أفضَل مِن العذاب الذي كان بانتظاري لولا مُساعدة الزوجة لي. تمنَّيتُ أن يعودَ كريم بعد ذلك إلى عائلته، فما ذنب ولدَيه؟
جاء كريم بالفعل إلى بيتنا ولاقى إستقبالاً عدائيًّا جدًّا مِن قِبَل أخي الكبير الذي لكمَه على وجهه وألقى به أرضًا. جاءَ بعض الجيران للفصل بينهما، إلا أنّ أخي كان الأقوى فأبرَحَ الكاذب ضربًا إلى أن أُغميَ عليه. حملَه أحدهم إلى المشفى بينما صفّقَ الحاضرون لأخي بعدما أكّدَ لهم أنّ كريم أرادَ غشّي والاستفادة منّي لأغراض تمسّ الشرَف. شاهدتُ ما يجري مِن شبّاك غرفتي، وأعترفُ أنّني استمتعتُ كثيرًا بالمشهد.
بعد ساعات، تتالَت الأمور بسرعة، فجاءَ رجال شرطة وأخذوا أخي للحقيق معه وأبقوه في القسم طوال الليل. شعرتُ بالذنب مع أنّني لَم أطلُب مِن أحد ضرب كريم، لِذا رحتُ القسم في الصباح الباكر لأشرَحَ للمسؤولين أنّ المسألة ليست سوى تحصيل شرَف، وأن مَن يجدرُ به أن يكون وراء القضبان هو كريم ولا أحد سواه.
نظَرَ إليّ المُحقّق بطريقة لَم تُعجِبني حين وقفتُ أمامه قائلة:
ـ ألا تخجلون مِن أنفسكم؟ أخي دافَعَ عن شرَفي! ألقوا بالمُحتال في السجن بدلاً منه!
ـ المُحتال، كما أسمَيته، هو في غيبوبة.
ـ ماذا؟ إذًا مَن الذي اشتكى على أخي؟
ـ أهله.
ـ أذًا ألقوا به في السجن حين يستفيق!
ـ قد لا يستفيق، يا آنستي.
ـ ماذا؟
ـ الضربات على رأسه كانت عنيفة للغاية، وفي حال ماتَ كريم، سيُحاسَب أخوكِ كقاتِل.
ـ قاتِل؟ كريم غشّني وأرادَ الاستفادة منّي جنسيًّا! فهو للحقيقة مُتزوّج وله ولدان.
ـ لقد تحقّقنا مِن كلّ تلك الأمور يا آنسة بعد أن فسَّرَ لنا أخوكِ لِماذا إعتدى على الرجُل، لكن كلّ المُستندات الرسميّة تقول إنّه عازب وليس لدَيه أولاد على الاطلاق.
عندها أخبرتُ المُحقّق عن اتّصال الزوجة بي مِن هاتف كريم، فأخَذَ منّي هاتفي ووجَدَ رقم الزوجة فخابرَها ودعاها لموافاتنا بالحال إلى القسم تحت طائلة جَلبها بالقوّة.
بعد انتظار طالَ حوالي الساعة، دخلَت امرأة مكتب التحرّي فنظرتُ إليها بتمعّن لكنّها بالكاد لاحظَت وجودي، لأنّها بكلّ بساطة لا تعرفُني شخصيًّا. عرّفتُها عن نفسي فتفاجأت وصرَخَت:
ـ ماذا فعلتِ يا بلهاء؟!؟
أسكَتَها المُحقّق في الحال وسألَها:
ـ لماذا أوهمتِ هذه الصبيّة بأنّ كريم زوجكِ وأب ولدَيكِ، وكيف استطعتِ الاتّصال بها مِن هاتفه؟
ـ الخائن! لقد أحبَبتُه بكلّ جوارحي إلا أنّه تركَني قبل زفافنا بأيّام بحجّة أنّه لَم يعُد أكيدًا مِن وجوب زواجنا! لقد ذلّني وحطّمَ قلبي وأحلامي بلمحة بصَر... الخائن! ثمّ بدأتُ أراقبُه أينما يذهب لأرى مَن هي التي فضّلَها عليّ إلا أنّني لَم أجِد شيئًا. لكنّه لاحظَ مُلاحقتي له وطلبَ منّي تركَه بسلام. في البدء لَم أقبَل، إلا أنّني ارتأيتُ أنّه مِن الأفضل لو ادّعَيتُ أنّني أُريدُ إبقاء علاقة صداقة معه. أبرَمنا إتّفاقًا يقضي ببقائنا على اتّصال ببعضنا والالتقاء أحيانًا لشرب القهوة، مُقابِل قبولي بالواقع وعدَم مُضايقته. صدّقَني الغبيّ ربمّا لأنّني مُمثّلة بارعة فاطمأنَّ قلبه مِن جهتي. مرَّت الأشهر ولاحظتُ عليه انشغالاً جديدًا قد يعني أنّه وجَدَ حبًّا آخر. وفي أحد الأيّام حين كنّا سويًّا نشرب القهوة في أحد المقاهي، دخَلَ الحمّام فاستغنمتُ الفرصة للبحث في هاتفه لأرى مَن هي التي يتّصلُ بها كثيرًا، فخابرتُها على الفور وكأنّني زوجته. لا أفهَم لماذا أنا في القسم يا حضرة التحرّي، فالذي فعلتُه لا يُعتبَر جرمًا يُعاقِب عليه القانون.
ـ إلا إذا أدّى إلى موت كريم.
أخبرَها الرجُل عمّا حدَث، وهي فاجأته بالضحك عاليًا فرَحًا، فتصوّر كريم ميّتًا كان بالنسبة لها الانتصار الأكبر. تجمَّدَ الدَم في عروقي لكثرة اشمئزازي منها ومِكرها وكُرهها لكريم.
ندِمتُ كثيرًا لأنّني صدّقتُ تلك المجنونة مِن دون أن أُحاول معرفة الحقيقة مِن مصدر آخَر، بالرغم مِن أنّ شعوري الأوّليّ كان أنّها حبيبة قديمة. فلَم أخسَر حبّ كريم وحسب بل أقحَمتُ أخي، عن غير قصد، في مأزق قد يُكلّفه سنوات طويلة مِن عمره. يا إلهي، إشفِ كريم!
لا يزال كريم في الغيبوبة وأطّلِع على حالته مِن خلال المشفى، فأهله لَم يسمحوا لي بزيارته. ولا يزال أخي في السجن. لَم أعُد قادرة على القيام بشيء، فتركتُ عمَلي وأقضي أيّامي بالتفكير والصلاة. فالذنب ذنبي وأخافُ مِن أن يدفَعَ الآخرون الثمَن.
يا لَيت الانسان يستعملُ ذكاءه وفطنته في أمور الحبّ كما يفعلُ في أمور أخرى، لَتجنَّبَ التورّط بالمشاكل، أكانت صغيرة أم كبيرة. فالحبّ والغيرة يُعميان بصيرتنا ونتمسّك بأدنى الأمور التي تُثبتُ لنا أنّ السعادة التي نعيشُها ليست حقيقيّة، بدلاً مِن الاستمتاع بتلك اللحظات الجميلة، فهي حقًّا ثمينة ولا يُمكننا إسترجاعها يومًا.
حاورتها بولا جهشان