بالرغم مِن حبّي العميق لوحيدي، شعرَتُ بالخذلان بشأنه بعد أن دخَلَ المدرسة، فتبيّنَ أنّه لَم يرِث ذكائي أو ذكاء أبيه، بل كان تلميذًا أقلّ مِن فالِح. تمسَّكتُ بأمَل أن تتحسّن علاماته مع الوقت، إلّا أنّه بقيَ يُعاني حتى لِلوصول إلى مُعدّلٍ يُخوّله الانتقال إلى الصفّ الأعلى. في البدء، ظنَنتُ أنّه يُعاني مِن خطب ما مِن الناحيّة العقليّة أو النفسيّة، لِذا عرضتُه على أخصّائيّين في مُختلف المجالات، فكان تشخيصهم دائمًا: لا مُشكلة بِرمزي إبني. تمنَّيتُ لو أنّه يُعاني مِن شيء بالتحديد لِحَلّ مُشكلته، لكنّه كان بكلّ بساطة... كسولًا! سبَب كسَله كان معروفًا منّي، إذ أنّه أوّل مولود في العائلة، ذكَر ووحيد، أيّ أنّه تلقّى دلَعًا مُفرطًا مِن قِبَل الجميع، وخاصّة مِن حماتي التي تسكنُ معنا منذ البداية. حاولتُ مَنعها مِن مُعاملته وكأنّه الطفل ـ الملَك، إلّا أنّ لا شيء رَدَعَها. أنا لا أُلقي عليها كامِل المسؤوليّة، إلّا أنّ دورها في "مصيبتي" كان رئيسيًّا.
لِذا، حين بلَغَ رمزي سنّ العاشرة تقريبًا وصارَ على شفير الرسوب، إستعَنتُ بأستاذه في المدرسة ليُعلّمه كلّ المواد العلميّة عندنا في البيت. ووجود حماتي معي طمأنَني مِن ناحية استقبال رجُل ثلاث مرّات في الأسبوع، ومَنع كلام الناس حول هذا الشأن. كنتُ قد التقَيتُ مرّتَين بالأستاذ تامِر خلال اجتماعات أقامَتها المدرسة بين الأهل والأساتذة، وتبادَلنا الحلول التي بإمكانها إنقاذ العام الدراسيّ لابني، ومنها الدروس الخصوصيّة. وبما أنّ زوجي كان يكسبُ الكثير مِن المال بفضل شركته الخاصّة، لَم يكن موضوع الدَفع أبدًا مُشكلة لدَينا ما دامَ ينتفِع ابننا مِن تلك الدروس. فرِحَ رمزي حين علِمَ بقدوم أستاذه، فشعَرَ بأنّه، مرّة أخرى، صبيّ مُميّز إذ أنّ الأستاذ بنفسه قادِم إليه، فبدأ يتباهى بالأمر أمام رفاقه ويخترعُ القصص الإضافيّة. فالجدير بالذكر أنّ ابني كان يُحِبّ إطلاق العنان لمُخيّلته، الأمر الذي يصلُ أحيانًا إلى حدّ الكذِب، ربّما لأنّه ربيَ وحيدًا وتعوَّدَ الحصول على الانتباه الحصريّ ولَفت الأنظار. لَم أكن أُحِبّ تلك الخصال، وحاولتُ مَنعه مِن الكذب لكنّ حماتي تدخّلَت في كلّ مرّة إلى حين استسلَمتُ وتركتُه يقولُ ما يُريد.
جرَت الدروس جيّدًا، على الأقلّ في الفترة الأولى. لكن سرعان ما ملَّ رمزي مِن ذلك الأستاذ الذي كان يحمِله على التركيز والدرس والاجتهاد، وهي أمور لَم يكن ابني مولَعًا بها بسبب كسَله. لكنّني لَم أستسلِم لِرَفضه المواصلة، واتّفقتُ مع تامِر على الاستمرار وعدَم ترك ابني مهما كلَّفَ الأمر. حماتي كانت، كعادتها، تُدافِع عن رمزي وتحثُّني للتوقّف عن تعذيبه، فصرختُ في وجهها أنّ العِلم ليس تعذيبًا، بل تهذيب للقدرات والتقدّم، للحصول على مُستقبل أفضل وفُرَص أكثر في الحياة. إلّا أنّها أجابَت أنّ لا حاجة لابني أن يدرس طالما سيستِلم يومًا شركة أبيه، وكأنّ ذلك لا يتطلّب معرفة، ومعلومات، واطّلاع وكفاءة. إستشَرتُ زوجي في كيفيّة مُتابعة الدروس في هكذا أجواء سلبيّة مِن قَبل ابننا وأمّه، وهو لَم يكترِث كثيرًا، بل قالَ لي ما يقوله عادةً عندما لا يُريدُ إعطاء رأيه بموضوع شائك أو مُزعِج: "إفعلي ما تُريدينَه". لِذا فعلتُ ما أريدُه، وتابعَت الدروس لرمزي بعد أن اتّفقتُ مع مُديرة المدرسة بأن تُطالِبه بالتمارين التي يقومُ بها مع تامِر وإلّا ستتِمّ مُعاقبته. لكنّني لَم أتصوّر أبدًا ما بإمكان أن يفعله ابني بسبب كسَله.
ففي إحدى المرّات، وبعد أن غادَرَ الاستاذ بيتنا، أخذَتني حماتي جانبًا وقالَت لي:
ـ ما الذي يدورُ بينكِ وبين ذلك الرجُل؟
ـ أيّ رجُل؟
ـ الأستاذ تامِر!
ـ لَم أفهَم قصدكِ.
ـ هناك أمور مُريبة تجري بينكما! ألا تخجلين مِن نفسكِ؟!؟
ـ ما الموضوع؟!؟ وكيف تتكلّمين معي بهذه الطريقة؟
ـ وكيف تُريديني أن أُكلّم كنّتي الخائنة؟
ـ أنتِ فقدتِ عقلكِ حتمًا!!!
ـ لستُ غبيّة! أرى كيف تنظران إلى بعضكما! إضافة إلى ذلك، قالَ لي رمزي إنّكما تتبادلان الكلام الغراميّ طوال الوقت!
ـ إنّه يكذب! بالكاد يُلقي عليّ الأستاذ التحيّة وأودِّعه حين يرحَل!
ـ لكنّكِ تجلسين معه خلال الحصّة.
ـ أنا لا أجلس معه، بل مع ابني بينما يُدرّسه أستاذه!
ـ الأمر سيّان!
ـ وكيف تُصدّقين رمزي، وأنت تعرفين أنّه يختلِق القصص دائمًا!
ـ آه... هذه خطّة دفاعكِ؟ إتّهام ولَد بريء بالكذِب لتُنقذي نفسكِ؟
ـ ليس هناك مِن شيء بيني وبين الأستاذ، وما قالَه رمزي هو كذِب! دعيني وشأني الآن، فلدَيّ أمور أهمّ مِن كلامكِ المُهين!
ـ لن تطأ قدَم ذلك الرجُل بيتنا مجدّدًا!
ـ هذا ليس بيتكِ، يا حماتي، بل أنتِ ضيفة عندنا، لا تنسي ذلك!
ـ إنّه بيت ابني، يعني بيتي!
ـ لقد دفَعتُ نصف ثمَن البيت مِن جَيبي، لا تنسي ذلك أبدًا! دعيني وشأني أقول لكِ!
ـ حسنًا، سأريكِ أيّتها الفاجِرة!
خفتُ أن تُخبِر حماتي ما قالَه رمزي لزوجي، فنادَيتُ ابني لمعرفة سبب كذبه بشأني، وهو قالَ:
ـ لا أريدُ الدرس أيضًا في البيت، فيكفيني الدرس في المدرسة!
ـ وتختلِق قصّة تمسّ بِشرَفي وتضَع علاقتي بأبيكَ بِخطَر؟!؟
ـ كلّ ما عليكِ فعله هو إيقاف الدروس!
ـ يا إلهي! ما هذا الكمّ مِن الشرّ! أنتَ لا تزال في العاشرة مِن عمركَ! كيف ستصبح حين تكبر، وماذا ستفعل بالناس مِن حولكَ لو أزعجوكَ أو أغضبوك؟!؟
ـ سأقولُ لأبي أمورًا كثيرة لو لمَحتُ الأستاذ في البيت!
ـ أصمُت أيّها الولَد! أنا أمّكَ!!! عُد إلى غرفتكَ الآن ولا تخرج منها إلّا عندما آذنُ لكَ! فأنتَ مُعاقَب!
ـ جدّتي لن تقبَل بذلك!
ـ تبًا لها!!!
راحَ ابني يشتكي لحماتي التي قبّلَته وواسَته وامتنَعَت عن التحدّث معي طوال اليوم. وحين عادَ زوجي مِن العمَل، هي أخذَته إلى غرفة رمزي وبقوا جميعًا هناك لِحوالي النصف الساعة. ولدى خروجه، جاء زوجي إليّ يسألُني عن موضوع العلاقة المزعومة مع الأستاذ. شعرتُ أنّ الجميع يتواطأ ضدّي: إبني وحماتي والآن هو، فبدأتُ أصرخ مِن كلّ قلبي، فكَيلي كان قد طفَحَ مِن تدخّل أمّه في حياتنا وكيفيّة تربيَتي لابني الذي صارَ كسولًا ومُدلّعًا وكاذِبًا بسببها. وبالطبع صدَّقَ زوجي أمّه وابنه، وهدَّدَني بالطلاق إن اتّضَحَ أنّني والأستاذ على علاقة غراميّة. عندها قلتُ له:
ـ للحقيقة، لا أشعرُ بالأمان معكَ، يا زوجي العظيم، فأنتَ دائم الغياب ولا تتدخّل بشيء ولا تسأل حتّى كيف هي حياتي مع ابننا وأمّكَ، وكأنّ كلّ ما أُريدُه منكَ هو أن تجلب المال. أنسيتَ أنّ لدَيّ أيضًا مالًا خوَّلَني شراء نصف البيت حين كنتَ في ضيقة مادّيّة؟ لا، ما أريدُه مِن زوجي هو الدعم والعاطفة والأمان. قبِلتُ أن نجلبَ أمّكَ لأنّني امرأة ذات قلب كبير، لكن ليس لتخربَ حياتي وعائلتي. إسمَع، إن كنتَ ستُصدّق ولَدًا كسولًا وكاذِبًا وأمًّا مُتسلطِّة وحاقِدة، في حين لَم أخطئ يومًا بحقّكَ، وسيرتي هي نظيفة كالثلج، فاعلَم أنّني لا أُريدُكَ في حياتي. أهكذا تنسى في لحظات كلّ ما عشناه سويًّا منذ خطوبتنا مِن حبّ وتفاهم؟ أنسيتَ كيف وقفتُ إلى جانبكَ لتؤسِّس شركتكَ؟ تنسى بلحظة كلّ ذلك؟ إسمَع، هذا ابني ولن أدَعه يُدمِّر مُستقبله بسبب جدّته وبسببكَ! وأفعَل ما تشاء!
سكَتَ زوجي ولَم يُجِب ودخَلَ الصالون وبقيَ فيه حتّى الصباح، وهو لَم ينَم بجانبي. ثمّ أيقظَ رمزي وطلَبَ منّه أن يرتدي ملابسه لأخذه في نزهة. لَم أفهَم ما يجري، ولَم أسأل.
وعندما عادا بعد حوالي الساعتَين، كان ابني يبكي واقترَبَ منّي قائلًا: "العفو يا ماما، سامحيني"، قَبل أن يدخل غرفته. بعد ذلك، أخبَر زوجي أمّه أنّها ستنتقِل للعَيش في شقّة صغيرة يستأجِرها لها، ويجلِب لها مُساعِدة منزل لتبقى معها ليلًا نهارًا، مُضيفًا: "أحبُّكِ كثيرًا يا أمّي، لكنّني لا أُريدُ أن أفقِد عائلتي. لقد تخطَّيتِ حدودكِ ولَم ترَي مانعًا أبدًا باتّهام زوجتي بالخيانة مِن دون دلائل، ورؤيتي حزينًا ووحيدًا إن طلّقتُها. فلقد أجبَرتُ رمزي على الاعتراف بالحقيقة، وهو أقرَّ بأنّه اختلَقَ قصّة العلاقة مع الأستاذ لتتوقّف الدروس، فبرأيه، كانت تلك الطريقة الوحيدة."
عندها هي أجابَت بكلّ ثقة: "تبقى وحيدًا؟ لا يا ابني، فلدَيّ عروس جميلة لكَ، لا تخَف، إنّها جاهِزة!". كِدتُ أصفعها مِن كثرة غضبي، إلّا أنّني تمالكت أعصابي احترامًا لزوجي فقط، خاصّة أنّني شعرتُ بالفخر تجاهه لأنّه تصرَّفَ كما يجِب. وبعد أقلّ مِن أسبوع، غادرَت حماتي بيتنا مِن دون أن تودّعني.
ومنذ رحيل جدَّته، تغيّرَت تصرّفات ابني، ففي غياب حليفته، أُجبِرَ رمزي على الانصياع لرغباتي في ما يخصّ تصرّفاته وتخيّلاته، وخاصّة درسه. فتحسَّنَت علاماته في المدرسة، بالرغم مِن أنّني أوقَفتُ الدروس الخصوصيّة منعًا لأيّ شكّ مِن قِبَل زوجي.
أحمُد ربّي أنّ ما حصَل قد حصَلَ، فلولا ذلك، لَبقِيَت تلك المرأة تتحكّم بعائلتي، ومَن يدري لكانت حاولَت التخلّص منّي بأيّ طريقة أخرى، بعد أن اتّضَحَ أنّها مُستعِّدة لاستبدالي بامرأة غَيري بغضّ النظَر عن رغبة ابنها أو مصلحة حفيدها.
تغيّرَ زوجي هو الآخَر، فصارَ حاضِرًا أكثر، وباتَ بالفعل سنَدًا لي ويلعَب دور الأب الفعليّ، مِمّا أثّرَ إيجابيًّا على رمزي، وحيدنا.
حاورتها بولا جهشان