إبني الكاذِب

يوم عيد الأمّ، فتَحتُ الهديّة التي قدّمَها لي ابني سامِر ووجدتُ فيها عقدًا مِن اللؤلؤ فائق الجمال. في البدء ظننتُ أنّه غير حقيقيّ، لكن لدى رؤية اسم محلّ المُجوهرات المعروف الموجود على العلبة، سألتُه على الفور كيف له أن يشتري هكذا هديّة ثمينة. لكنّه ابتسَمَ لي وأجابَ: "لا شيء غالٍ عليكِ يا ماما"، وقبّلَني على خدَّيّ بقوّة. نظرتُ إلى زوجي الذي استغرَبَ هو الآخَر مِمّا يحدث، لكنّه لَم يقُل شيئًا، بل اكتفى بهزّ رأسه. لبِستُ العقد وابتسَمتُ بدوري، فلَم أمتلِك يومًا أيّة قطعة مُجوهرات سوى خاتم الزواج وأساوِر أهداني إيّاها أبي يوم زفافي. فلَم نكن أغنياء، بل على العكس، كنّا نعيش ببساطة حقيقيّة، وبالكاد نستطيع أن نصل ماليًّا إلى نهاية الشهر. لَم أنَم جيّدًا في تلك الليلة بسبب العقد، ثمّ قلتُ لنفسي إنّني سأعرِف كلّ ما أريد معرفته عاجِلًا أم آجِلًا.

نسيتُ الموضوع بعد أيّام، خاصّة أنّني وضعتُ العقد في خزانتي، فأين أرتديه؟ لَم نكن نذهب إلى أيّ مكان، ولَم أكن أريدُ أن يراه أحَد مِن جيراني أو أقاربي حول عنقي. للحقيقة، كنتُ أفضّل لو أنّ سامِر جلَبَ لي مجموعة مِن الطناجر جديدة، كالتي رأيتُها على التلفاز والتي لا يلتصِق الطعام فيها ولا تحتاج إلى زيت عند الطهو!

كان سامر وحيدي، فبعد ولادته بقليل، أُجرِيَت لي عمليّة منعَتني مِن الإنجاب مُجدّدًا، فصبَبتُ كلّ حبّي واهتمامي عليه. هو لَم يكن فالِحًا في المدرسة، وبالكاد وصَلَ إلى الصفوف العليا، فلَم يدخل الجامعة، بل صارَ ينتقَّل بين عمَل وآخَر حتّى صارَ في السادسة والعشرين ولا مُستقبل جادًّا أمامه، وحين وجَدَ وظيفته الأخيرة، تمنَّيتُ لو أنّه يمكثُ فيها وقتًا كافيًا ليَبنيَ لنفسه عائلة كسائر الناس. وهو كان على ما يبدو قد وجَدَ عمَلًا مُريحًا، وإلّا كيف له أن يشتري لي عقدًا كهذا؟ لكن لَم يخطر ببالي أبدًا أن يقومَ بأعمال مشبوهة، فهو لَم يمدّ يدَه أبدًا على ما ليس له، كما علَّمتُه وأبوه، فاحترَمتُ سرّيّة مصدر ماله لأنّني كنتُ أثِق بنزاهته.

مرَّت الأيّام والأشهر وإذ بي أرى يومًا إبني مارًّا بسيارة حمراء فخمة بينما كنتُ عائدة مِن السوق. في البدء لَم يُسجِّل عقلي أنّه سامِر، فكيف له أن يقودَ مركبة بهذه الفخامة؟ لكن بعد ثوانٍ، وبعد أن غابَت السيّارة عن نظَري، تأكّدتُ مِن أنّه هو. عندها غضبتُ كثيرًا لأنّه كان يكذِب عليّ! لذلك انتظرتُ عودته مِن عمَله، وسألتُه كيف له أن يقتني تلك السيّارة. هو ضحِكَ وقال:

ـ يا ماما، هي ليست سيّارتي، بل سيّارة...

 

ـ سيّارة مَن؟ فكلّ أصدقاؤكَ فقراء! تكلَّم! هل سرَقتَها أو سرَقتَ ثمنها؟؟؟

 

ـ لا! لا! حسنًا... سأقولُ لكِ الحقيقة... لستُ موظّفًا... بل أنا سائق خاصًا لدى أناس أثرياء، وتلك هي سيّارتهم.

 

ـ ولِما الكذِب؟ لماذا لَم تقُل ماذا تفعل منذ البدء؟

 

ـ لقد خجِلتُ مِن نفسي... فأرَدتُ أن ترَيني وأبي كموظّف.

 

ـ ليس هناك مِن داعٍ للخجَل إن كنتَ سائقًا خاصًّا يا بنَي! وماذا عن العقد؟ هل سرقَته مِن مُستخدميكَ؟!؟

 

ـ لا!!! بل إنّ سيّدتي أعطَتني إيّاه مِن مجموعة مجوهراتها يوم جاءَ عيد الأم، هي أرادَتني أن أكون فخورًا بهديّتي.

 

ـ حسنًا، حسنًا.

 

عانَقتُ سامِر وهو طلَبَ المُسامحة لأنّه أخفى عنّي تلك الأمور. لَم أغضَب منه، فالمُهمّ أنّه كان يعمَل وليس مُلقىً على الأريكة لأشهر كما سبَقَ وحصَلَ له. أوصَيتُه بأن يكون سائقًا أمينًا وأن يقودَ بتأنٍّ ليُحافِظ على سلامة مُستخدميه وسلامته، وهو وعدَني بأنّه سيكون حريصًا. أطلَعتُ زوجي على ما علِمتُه ولَم يأبَه هو الآخَر بنوعيّة عمَل ابننا طالما كان شريفًا.

لكنّ اتّصالًا كان سيُغيّر حياتنا.

فذات يوم، إتّصَلَ بي رجُل، ومِن نبرة صوته حين هو سألَ إن كنتُ أمّ سامِر، فهِمتُ أنّ ما سيَلي لن يكون لطيفًا:

ـ إبعدي ابنكِ عن زوجتي!

 

ـ زوجتكَ؟ ومَن تكون أنتَ لأعرِف مَن هي زوجتكَ؟ لستُ أفهَم!

 

ـ أبعديه وإلّا فقَدتيه! فهو عشيق زوجتي!

 

ـ يا إلهي! ما هذا الكلام؟!؟ مَن أنتَ؟!؟ تكلَّم!

 

ـ أنا زوج سهام... سامِر يعمَل لدَينا كبستانيّ في حديقة منزلنا.

 

ـ أنتَ حتمًا مُخطئ، فسامِر يعمَل كسائق خاصّ، ولقد رأيتُه على متن تلك السيّارة الحمراء الفخمة.

 

ـ إنّها سيّارة زوجتي الخاصّة وابنكِ كان يقودُها لأنّها أعارَتها له.

 

ـ إبني شابّ رصين وهو لن يُعاشِر امرأة مُتزوِّجة!

 

ـ أقولُ لكِ إنّه عشيقها ولقد استمالَها بفضل شبابه ووسامته، فأنا رجُل مُسِنّ... وكذلك هي! لا أدري ما حصَلَ لعقلها لتقَع تحت سِحر شابّ يصغرها بأربعين سنة! هو يستفيدُ منها مِن كلّ النواحي، وهي تُعطيه المال وتشتري له ما تطلبه نفسه، وأنا صرتُ مضحكة لكلّ مَن يعرِف بتلك العلاقة! أعدُكِ بأنّني سأتصرَّف لو لَم تقنعيه بأن يبتعِد عن زوجتي وعنّا، فلدَيّ معارِف مُستعدّون لمُساعدتي!

 

ـ ما هذا التهديد المُخيف؟!؟ سأتكلّم مع سامِر وأرى إن كنتَ تقول الحقيقة. فأنا لا أُصدّقُكَ، فإمّا أنّها دعابة سخيفة، أو أنّكَ تتصوّر أمورًا ليست موجودة!

 

أقفَلتُ الخطَّ وأنا في غاية الغضب، ثمّ اتّصلتُ بابني طالبةً منه أن يأتيَ بسرعة، مُتحجّجةً بإصابتي بدوارٍ حادّ. ركَضَ سامِر إليّ ليجِدَني بكامِل عافيَتي فاستاء، إلّا أنّني واجهتُه بالذي علِمتُه. عندها هدأ ورأيتُ علامات الخوف على وجهه:

ـ زوجها إتّصَلَ بكِ؟ مِن أين وجَدَ رقمكِ؟

 

ـ هذا لا يهمّ... هل صحيح أنّكَ بستانيّ ولست سائقًا خاصًّا، وما هو أهمّ، هل صحيح أنّكَ عشيق مُستخدمتكَ؟

 

ـ أجل، وأجل. لكن افهميني يا ماما... تلك المرأة هي التي تحرّشَت بي وغرَّتني إلى حين قبِلتُ معها. وهي تُحِبّ أن تشتري لي كلّ ما هو ثمين وجميل. فكيف لي أن أرفض؟

 

ـ ستقِّدم استقالتكَ على الفور وإلّا حسِبتُ نفسي لَم أُنجِبكَ أبدًا! لَم أُربّيكَ هكذا، نحن فقراء لكن شرفاء! أسمِعَتني؟!؟

 

لَم يمتثِل سامِر لأمري، بل بقيَ يُعاشِر مُستخدمته لأنّه كان غبيًّا ويعتقِد أنّ الزوج لن يُنفِّذ تهديده.

وذات يوم، وصلَني اتّصال مِن المشفى مفاده أنّ سامِر في غيبوبة بعد أن هاجمَه مجهولون وأبرَحوه ضربًا. كان جسَده مكسورًا بأكمله، والضربات التي تلقّاها على رأسه كانت خطيرة للغاية. بكيتُ ليلًا نهارًا وأنا بِجانبه، أنتظرُ أن يستفيق وينظُر إليّ ويُناديني "ماما". قالَ لي الأطبّاء إنّهم لا يعرفون أبدًا أن كان سامِر سيستعيد كامِل قدراته العقليّة أو الجسديّة حين يستفيق... إن استفاق! فصلَّيتُ أن يفتَح لابني عَينَيه بأيّ شكل كان.

طالَ انتظاري مدّة شهر بكامله، حين استفاقَ سامِر أخيرًا، وكان ذلك اليوم هو الأسعَد في حياتي. لكنّه لَم يتمكَّن مِن المشي بعد ذلك، بل صارَ مُقعدًا.

لَم أشتكِ على الزوج، بل ضدّ مجهول بعد أن أجبرَتني الشرطة على تقديم شكوى. فالحقيقة أنّني خفتُ أنّ يُكمِل الزوج ما بدأه ويحرمني مِن ابني مدى الحياة. وفي قرارة نفسي، كنتُ أُدرِك أنّ ما حصَلَ لسامِر كان بسببه، أوّلًا لأنّه عاشَرَ امرأة مُتزوِّجة، وثانيًا لأنّه لَم يأخذ تهديد الزوج على محمَل الجَدّ. فكان مِن الواضِح أنّ المال أعمى إبني لدرجة التهوّر وارتكاب ما لا يقبَل به ربّنا.

بدأ سامِر جلسات مُعالجة فيزيائيّة طويلة ومُكلِفة لكنّه لَم يستسلِم، إلى حين صارَ قادِرًا بعد سنتَين على السَير بواسطة عكازتَين، الأمر الذي اتاحَ له التنقّل والشعور بالاستقلاليّة، بعد أن اعتمَدَ عليّ وعلى أبيه في أبسط الأمور. بعد ذلك، هو وجَدَ عمَلًا كوظّف هاتِف في إحدى الشركات وبدأ يجني بعض المال. هو لَم يُثِر أبدًا ما حصَلَ له بسبب علاقته بمُستخدمته المُسِنّة، لأنّه شَعَرَ أخيرًا بالخزيّ لأقصى درجة. فهو فهِمَ أنّ عليه أن يجني ماله مِن عرَق جبينه مِن دون استغلال الآخَرين، وبطريقة شريفة.

بعد سنة، تعرَّفَ سامِر على صبيّة خلوقة وتزوّجا ثمّ أنجَبا إبنة جميلة، ووجَدَ أخيرًا توازنه، لكن بعد ماذا؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button