مَن يراني برفقه سلام، إبنة أختي، يخالُ أنّها إبنتي. وهؤلاء الناس ليسوا تمامًا على خطأ، فتلك الصبيّة الجميلة كادَت فعلاً أن تكون إبنتي... وهذه قصّتي.
عليّ البدء بشخصيّة كريمة أختي. فمنذ نعومة أظافري، كانت هي تحاولُ لَفت انتباه كلّ مَن جاء ليُبارك لأهلي بولادتي. كان الأمر مُضحكًا للحاضرين، لكنّهم لَم يُدركوا أنّ تلك الغيرة التي بدَت بريئة ومؤقّتة ستستمرّ طوال حياتي. فمنذ ذلك الوقت، أصرَّت كريمة على تحطيمي بأيّ شكل كان وبأخذ كلّ ما قد أمتلكُه.
حاولَ والدايَ الحدّ مِن ممارسات أختي تجاهي، وبعد ان فهِمَت كريمة أنّها ستُعاقَب على أفعالها، بدأت تدّعي أنّها تكنّ لي حبًّا كبيرًا وخوفًا حقيقيًّا عليَّ، وصارَت تؤذيني خفيةً أو بطريقة غير مباشرة. ولأنّني لم أعد أملكُ أيّ دليل على تصرّفاتها، فضّلتُ السّكوت كي لا أُتّهَم بالكذب والافتراء. كلّ ما بقيَ لديَّ كنا أمَلي بأن تتغيّر أختي مع الوقت، لكنّها صارَت أكثر أذيّة مِن البداية، لأنّها باتَت تعرفُني جيّدًا وتعرفُ ما الذي يُزعجُني ويُزعلُني، وكانت تتلذّذ بمشاهدتي وأنا أبكي بمرارة.
عندما صرتُ في الجامعة، وقعتُ في الحبّ، وأعطاني ذلك الشعور قوّة رهيبة، وخلتُ نفسي لبرهة قادرة على الوقوف بوجه كريمة أو على الأقلّ تحمّل ممارساتها. كان إسم حبيبي جهاد، وكنّا متّفقَين على الزواج بعد تخرّجنا وإيجاد عمل يُساعدُنا على تحقيق أحلامنا. فمع أنّ جهاد كان ابن رجل ثريّ، فقد أرادَ تحقيق ذاته بذاته، الأمر الذي زادَ إعجابي به واحترامي له. لكنّ كريمة لَم تكن مستعدّة لرؤيتي سعيدة، وقرّرَت أن تُسند لي ضربة قاضية لَن انساها أبدًا... وهي تمكّنَت من ذلك، وببراعة.
فقبل أن نحدّد موعد الزفاف بعد خمس سنوات مِن المواعدة، جاء جهاد ليقول لي إنّه لن يتزوّجني بل سيتزوّج أختي. كيف ومتى تمكّنَت كريمة مِن وضع يدَيها على حبيبي؟ لست أدري. توسّلتُ جهاد بأن يعدل عن قراره، مُستعملة جميع عبارات الحب التي أعرفُها، إلا أنّه اعتذر والدّمع يملأ عَينَيه: كانت كريمة حاملاً منه ولا يقدرُ على تركها وهي بهذه الحالة. عندها أدركتُ أنّ أختي بذلَت أقصى جهودها، بِما فيها التنازل عن شرَفها، لتنكيد حياتي، وأنّ لا أمَل لديَّ باسترجاع حبّ حياتي. وهكذا قبلتُ بالأمر الواقع... كعادتي.
موقف أبويَّ مِن الذي حصل كان غريبًا للغاية. فلقد تغاضا عن موضوع حَمل اختي وكأنّ الأمر لَم يحصل، ولَم يتكبّدا عناء مواساتي لفقدان حبيبي، بل أخذا يُخطّطان لحفلة الزفاف. لَم ينسيا تذكيري بأن أُبقيَ خبَر حمَل كريمة سرًّا. حضرتُ فرَح أختي بخطيبي السّابق وأنا أبكي، وظنّ الجميع أنّني سعيدة لهما كثيرًا. إضطرّ جهاد لقبول مساعدة أهله وباتَ يعمل مع أبيه، الأمر الذي جعَلَ منه رجلاً ثريًّا. كانت كريمة قد نجحَت في حياتها على جميع الأصعدة.
كنتُ قد قرّرتُ الإبتعاد عن ذلك الثنائيّ عندما وُلِدَت سلام. وقد إستغرَبتُ اختيار إسمها الذي لم يكن يتماشى مع الذي فعلَته أختي، وخلتُ طبعًا أنّها بذلك تطوي صفحة الماضي لتصبح امرأة مسؤولة ومحبّة.
أوّل ما وقَعَ نظري على الجنين، شعرتُ بعاطفة جيّاشة تنتابُني. كان الأمر وكأنّني أنظُر إلى إبنتي، وعندما حملتُها وبدأ قلبانا يدقّان سويًّا، نسيتُ كلّ ما حصَل، ووعَدتُ نفسي بأن أحبّ تلك المخلوقة الصّغيرة بكلّ جوارحي.
قد يظنّ البعض أنّ كريمة حاولَت إبعادي عن ابنتها لتُكمل ما بدأته منذ صغرنا، إلا أنّها وجدَت بذلك وسيلة لإلقاء الأعباء على غيرها لتستمتِع بمال زوجها. فحياة الأمومة لَم تكن مِن اختيارها، بل كانت طريقة لإجبار جهاد على تركي والزواج منها. وكَم ارتاحَ قلبها عندما رأت أنّني نسيتُ غدرها لي وبدأتُ آتي يوميًّا لأرى الطفلة.
جهاد، مِن جهّته، خجِلَ ِمن نفسه لأقصى درجة أمام موقفي المُسامح، ووجَدَ أنّني كنتُ فعلاً الإنسانة الأنسَب له. ولكن كان قد فاتَ الأوان وهو رضخَ للأمر الواقع، أي أنّه تزوّج مِن إنسانة معدومة الاخلأق والضمير والمسؤوليّة.
لَم نعد نرى كريمة في البيت، لأنّها صارَت تذهب في الصباح الباكر مع صديقاتها لتعود متأخّرةً ومحمّلةً بأكياس مليئة بالأحذية والحقائب الباهظة الثمَن. وفي تلك الأثناء، كنتُ أبقى مع سلام وأهتمّ بالأكل والبيت مع عاملة النظافة. وعندما كان يعودُ جهاد مِن أعماله، كان ينظرُ اليَّ بمزيج مِن الإمتنان والحزن.
كبرَت سلام لتصبح فتاة مرحة وطيّبة، أي نسخة منّي، الأمر الذي كان يُغضِبُ أختي لأنّها أرادَتها لعوبة وقويّة مثلها. إلا أنّها لَم تُشارك بتربيتها، ممّا منعَها مِن غرس بذور الشرّ في إبنتها.
العلاقة بين سلام وكريمة بدأَت تسوء عندما بلّغَت إبنة أختي سنّ المراهقة، أي حين أدركَت فعليًّا كَم أنّ أمّها مُستهترة وسطحيّة، وبدأَت المشاكل بين الاثنتَين. أنا فعلتُ جهدي كي لا تتفاقم الأمور، وذلك مِن أجل الحفاظ على سلامة إبنة أختي النفسيّة.
فتلك الفتاة كانت كلّ ما أريدُه مِن هذه الدنيا، لِدرجة أنّني بقيتُ عزباء عن قصد. فكيف لي أن أترك سلام لوحدها مع كريمة؟ إلى جانب ذلك، كانت سلام فعلاً بمثابة إبنتي، فهي مِن الرجل الذي كنتُ أنوي الزواج منه وكان الشبَه بيني وبين أختي كريمة كبير للغاية.
لكن ذات يوم، واثناء مشاجرة عنيفة دارَت بين سلام وأمّها، صرخَت هذه الأخيرة:
- لقد سئمتُ منكِ! كان مِن الأفضل لي أن أترك أباكِ يتزوّج مِن أختي وألا أُجبَر على هذه الحياة بسبب حملي بكِ!
نظرَت سلام إليّ مُستفسرة، فأخذتُها جانبًا لأهدّئ مِن روعها. لكنّ الصبيّة بقيَت مُصرّة على معرفة ما قصدَته أمّها. وبعد محاولات عديدة منّي لتجنّب الموضوع، إضطرِرتُ لأروي لها ما حدَثَ منذ سنوات عديدة.
ولحظة انتهَيتُ مِن الكلام، عانقَتني سلام بقوّة قائلة:
- لقد أرَحتِ يا قلبي! لا تأسفي على اخباري الحقيقية، فأنتِ أمّي الفعليّة! لا يهمّني أن تكون قد ولدَتني، فهذا ليس شرطًا للأمومة. الأمومة عاطفة واهتمام وتضحية.
ومنذ ذلك اليوم لم تعُد سلام تدخل بسجالات مع كريمة، وبدَت تلك الصبيّة أكثر ارتياحًا وفرحة. وحده بقيَ جهاد يُعاني بِصمت مِن خيانته لي وتداعياتها.
لكنّ سلام لَم تكتفِ بمعرفه الحقيقة، بل قرّرَت ان تُصلِح الخطأ الذي حصل منذ ستّ عشرة سنة، أي بإعادة أبيها إليّ لنؤلّف سويًّا عائلة حقيقيّة. وكان مِن الواضح أنّها ورثَت دهاءها مِن أمّها، لكن لِفعل الخير وليس الشرّ.
قصدَت سلام أباها في مقرّ عمله لتُعطي صبغة رسميّة لمُقابلتها له، فهي اقترحَت عليه أن يتخلّص مِن أمّها بطريقة سلميّة جدًّا، لا بل بإعطائها ما طالما أرادَته:
- لقد عرفتُ الحقيقة مِن خالتي. علِمتُ أنّكما كنتما مخطوبَين وأنّكَ خنتَها مع أمّي.
- يا إلهي... ماذا تريديني أن أقول؟ أنا آسف حبيبتي... أعرفُ مدى قباحة ما اقترَفتُه، لكنّ أمّكِ لَم تترك وسيلة لإقناعي... لا تزالين صغيرة لِفَهم ما أقصد.
- بل أفهمُ تمامًا ما تقصد يا أبي، لكنّ الموضوع الآن هو كيفيّة تصحيح ما حصل.
- ما مِن طريقة، يا صغيرتي... عليَّ دفع ثمَن خيانتي... وغاليًا! ولولا وجودكِ...
- لولا وجودي لَما اضطرِرتَ للزّواج مِن أمّي.
- صحيح، صحيح.
- إسمَع... أمّي تحبّ المال والجاه وتكرَه تحمّل المسؤوليّة، وانا متأكّدة مِن أنّها لا تحبّني ولا تحبّكَ، فهي لا تحبّ سوى نفسها. إنّكَ ثريّ ويُمكنُكَ شراء حريّتكَ بِمالكَ.
- فكّرتُ بالأمر لكنّني لَم أشأ إحزانكِ، خلتُ أنّكِ تحبّين أمّكِ.
- أحبُّ خالتي فهي أمّ لي بالفعل، أحبُّها لأنّها حطّمتَ قلبها وسامحتكَ، وأحَبَّت إبنتكَ أكثر مِن عزّة نفسها. أُعرض على أمّي مبلغًا يُقنعها بالرحيل بعيدًا عنّا واحصل منها على تنازل عنّي. إفعل ذلك حتى لو كنتَ ستفقد ثروتكَ بالكامل، فهذا أقلّ ما يُمكنكَ فعله مِن أجل خالتي ومِن أجلي. لقد أعطَيتَني أمًّا قبيحة لأقصى درجة، ودمّرتَ حياة التي كانت تحبّكَ.
في البدء، حاولَت كريمة رفض عرض زوجها، لأنّ ذلك يعني التخلّي عن سيطرتها عليه وعلى ابنتها... وعليَّ طبعًا. لكن كمّية المال التي عرَضَها عليها جهاد كانت كافية لإقناعها بقبول الطلاق والتنازل عن الفتاة. باعَت كريمة إبنتها ولَم يتفاجأ أحد بذلك، فهذه كانت طبيعتها.
لَم أعرف سبب رحيل أختي إلا لاحقًا، فقد ظنَنتُ أنّها سئِمَت مِن عائلتها ومِن الدّور الذي لم تكن تريد لعبه. إلا أنّ سلام أخبرَتني بالذي فعلَته وأبوها، وطلبَت منّي أن أقبَل بتصحيح الأمور. لَم افهم قصدها، وهي شرحَت لي أنّها تريدُ منّي أن أتزوّج مِن أبيها. رفضتُ بقوّة، فلَم أتغلّب على ألَم خيانة وخذلان جهاد لي وتدميره لحياتي. لكنّني وعَدتُ سلام بأن أستمع لِما سيقولُه خطيبي السابق.
جلَستُ مع جهاد لوحدنا بعد أن ترَكتنا سلام وذهبَت لزيارة صديقتها. كان المشهد غريبًا للغاية ومُرتبكًا، وكان هو غير قادر على إيجاد الكلمات المناسبة للبدء بالكلام. أمّا انا، فكنتُ أنظرُ إليه بجفاف، لا أفكّر سوى بإنهاء هذه المقابلة وبسرعة.
وفجأة بدأ جهاد بالبكاء وركَعَ أمامي مُمسكًا بطرَف فستاني. ثمّ قالَ:
- أنتَ حقًّا ملاك! فلقد تحمّلتِ بصمت رؤيتنا نعيش كالعائلة بينما حرمتِ نفسكِ مِن أبسط الحقوق... أحبَبتِ إبنتي وقمتِ بتربيتها وجعلتِ منها إنسانة رائعة مثلكِ. لا تقسي عليَّ، أرجوكِ، فقلبي لَم يعد يحتمل. حبيبتي... كنتُ شابًّا آنذاك ولَم أستطع الإفلات مِن مخلوقة شرّيرة لِدرجة مُخيفة. أنتِ نفسكِ وقعتِ ضحيّتها طوال حياتكِ، فكيف لي أن أنجو مِن شباكها؟ صدّقيني، أنا لَم أكفّ عن حبّكِ وكتَمتُ الأمر عنكِ كي لا أزيد مِن عذابكِ. لكنّني أصبحتُ حرًّا الآن ويُمكننا استرجاع حياتنا معًا.
- كلامكِ جميل لكنّه جاء مُتأخّرًا... فأنا لَم أعُد أحبّكَ. لقد ماتَ شعوري تجاهكَ يوم قتلتَه مِن دون رجفة عَين. أنا آسفة، لكنّني أفضّل العَيش مِن دونكِ... إلا أنّني لا أستطيع العَيش مِن دون سلام، فلا تُبعدني عنها، أرجوكَ.
وبالرّغم مِن رفضي له، لَم يعترض جهاد على أن أستمرّ بزيارة إبنته. وبعد سنوات قليلة، إنتقلَت سلام للعَيش معي بصورة دائمة عندما قرَّرَ أبوها الزواج مِن جديد.
أنا اليوم سعيدة كما أنا، أي مع "إبنتي" كما أسمّيها. أعلمُ أنّ يومًا سيأتي وتتركني لتؤسّس حياة خاصّة بها، إلا أنّها تكون قد أعطَتني أجمل سنين حياتي.
حاورتها بولا جهشان