إبنتي المختلفة

أحبَبتُ إبنتي لحظة ما وضعوها على صدري، وذلك بالرّغم مِن اختلافها عن باقي المولودين الجدد. كانت جنا مصابة بتشويه خلقي، ولم تكشف الصورة الصوتيّة ذلك لأنّني لم أخضع سوى لواحدة في أوّل حملي بسبب قلّة المال. لم أكن أتمتّع بتغطية صحيّة، وكلّ شيء كان مُكلفًا للغاية، خاصّة عندما تركَني زوجي قبل أن يعلم أنّني أنتظرُ مولودًا منه. طلّقَني بعد شهرَين مِن زواجنا ليعيش حبًّا قديمًا له. وعندما حاولتُ إخباره بأنّه سيُصبح أبًا وعليه تحمّل مسؤوليّاته، علِمتُ أنّه سافَرَ مع زوجته الجديدة إلى قارّة بعيدة.

ساعَدني أهلي معنويًّا بفترة حملي وبعدها، لكن ما مِن أحد في عائلتي كان قادرًا على مدّي بالمال اللازم للإعتناء بطفلة تحتاج إلى أمور خاصّة بحالتها. عشنا نتقاسَم اللُقمة، وكبرَت جنا مِن دون أن تختلط بالناس أو تقصد مؤسّسة للأولاد ذوي الإحتياجات الخاصّة. كانت إبنتي غير قادرة على السّمع أو النطق أو حتى المشي، لكنّها ترعرعَت محاطة بأناس محبّين، وأنا متأكّدة مِن أنّها شعَرَت بهذا الدفء العائليّ.

وجدتُ عملاً في إحدى المحلات التي تبيع الملابس، وكان أجري ضئيلاً لأنّ مالك المحل إستغلّ عدَم امتلاكي لأيّ شهادة أو حتى خبرة. أي أنّ حالتي الماديّة في تلك المُدّة كانت صعبة جدًّا، وخلتُ أنّني سأعيش هكذا حتى آخر أيّامي، فوسط بؤسي لم أرَ الضوء في آخر النفق... إلى حين تعرّفتُ إلى جواد.

كان قد مضى على ولادة جنا حوالي العشر سنوات، وكنتُ قد بدأتُ، رغمًا عنّي، أن أعتاد على وضعي. وحين وصَلَ ذلك الرجل إلى المحل لتوصيل ملابس جديدة، لم أشكّ بأنّ الإبتسامة العريضة التي ارتسمَت على وجهه ستكون بداية قصّة حبّ بيننا.

كان جواد رجلاً عصاميًّا بدأ مِن الصفر ليُصبح مالك معمل كبير لتصنيع الملابس النسائيّة، وبقيَ يهتمّ بمصالحه بنفسه وكأنّه موظّف بسيط. لِذا لم يخطر ببالي أنّه ثريّ، بل خلتُه إنسانًا يُكافح للعَيش كلّ يوم بيومه. وهو لم يُفصح لي عن حالته، ربمّا ليرى إن كنتُ مهتمّة بشخصه أو بماله. وبعد أن تأكَّدَ مِن حسن نوايايَ، عرَضَ عليّ أن أصبَحَ زوجته. كان يعلم بحالة جنا، لكنّه لم يرَها قبل أن يأتي لطلب يدي مِن أهلي.

لاحظتُ طبعًا ارتباكه عندما وقعَت عيناه على ابنتي، لكنّه لم يقل شيئًا واكتفى بملامسة يدها كما قلتُ له أن يفعل، لتعلَم جنا أنّ شخصًا يُحاول التواصل معها. إبتسمَت له وعادَت إلى عالمها المُغلَق والذي تسكنُه أفكار لن أعلم بها أبدًا.

 


وافَقَ ذويّ طبعًا بعد أن فقدوا الأمل بأن يتزوّجني أحد، فامرأة مطلّقة ولها إبنة معوّقة لا تجذب العرسان بتاتًا. لكنّ حبّ جواد لي كان كبيرًا بقدر قلبه الذي كان يتّسع لي ولجنا.

لكن لم يتقبّل الجميع إبنتي، فعائلة جواد لم تفهم استعداده للعَيش مع معوّقة طوال حياته. بنظرهم كان يستحق أفضل مِن ذلك، وبدأوا يُمارسون ضغوطًا كبيرة عليه ليتراجع عن قراره بالزواج منّي. ولم تتردّد أمّه على معاتبتي لإقحام إبنها بمصيبة كان بالغنى عنها لو حكّمَ عقله واختار إمرأة غيري. خافوا طبعًا مِن أن أنجبَ له ولدًا آخر معوّقًا، مع أنّ الأطبّاء قالوا لي إنّ حالة جنا نادرة جدًّا والإحتمالات بحدوث إعاقة أخرى شبه معدومة. عندها عرَضتُ على حبيبي أن ننفصل قبل فوات الأوان، إلا أنّه رفَضَ قطعيًّا الرّضوخ لتدخلات الناس في حياته الخاصّة. إفتخرتُ بجواد وبقوّة شخصيّته وحبّه لي، وتزوّجنا أخيرًا.

أستطيع القول إنّ زوجي كان يعطف وبشكل كبير على جنا التي أصبحَت متعلّقة جدًّا به وتبحثُ عن رفقته في كلّ ثانية لأنّه أعطاها بمجرّد وجوده، شعورًا بالأمان. كنتُ سعيدة جدًّا لأنّنا كنّا نشكّل فعلاً عائلة متماسكة، وقرَّرتُ توسيعها بالإنجاب مجدّدًا. لكنّ جواد لم يعد متحمّسًا للفكرة، فبالرّغم مِن أنّه لم يقل ذلك بوضوح، إقترَحَ عليّ الإنتظار قليلاً قبل أخذ هكذا قرار. وعندما سألتُه عن السّبب، إكتفى بالقول:"لدَينا مصاريف كثيرة وأعمالي بوضع سيّىء". بالطبع لم أرَ سببًا للشكّ بكلام زوجي، فتابعتُ حياتي بتفاؤل لم أعرفه مِن قبل.

إلا أنّ الأحداث بدأَت تأخذ منعطفًا مختلفًا، حين اقترَحَ عليّ جواد أن نُرسل جنا إلى مؤسّسة خاصّة خلال النهار كي يتسنّى لها الإختلاط بالناس وتعلّم أمور عديدة، كقراءة "البراي" أو الأشغال اليدويّة لتُسلّيها وتُخرجها مِن قوقعتها. سرُرتُ جدًّا للخبر، فكنتُ أتمنّى أن يحدث ذلك مِن قَبل، لكنّ إمكانيّاتي، كما ذكرتُ، لم تكن تسمح لي بصرف مبالغ لا أملكُها. لم يخطر ببالي أنّ زوجي الذي كان أجَّلَ موضوع الإنجاب بسبب مصاريفنا الكثيرة، كان قد أصبَحَ مستعدًّا لدفع قسط لا بأس به مِن أجل إبنتي.

وهكذا، صارَت جنا تقصد المؤسّسة في الصّباح لتعود بعد الظهر، الأمر الذي أعطاني متّسعًا مِن الوقت للإعتناء بالبيت وبنفسي.

بعد حوالي الثلاثة أشهر، زفّ لي جواد خبرًا وصفَه بالسّار: كانت المؤسّسة تعرض تأمين المنامة والوجبات إلى جانب توسيع البرنامج لتعليم صنعة حرفيّة قد تساعد ذوي الإحتياجات الخاصّة على إيجاد عمل. لم أرَ الحاجة لذلك، لكنّ زوجي شرَحَ لي أنّنا لن نعيش إلى الأبد وأنّ على جنا تدبير نفسها في أحد الأيّام. إقتنعتُ بالموضوع بالرّغم مِن قلَقي على ابنتي مِن بقائها بعيدة عنّي، وعلى نفسي مِن العَيش مِن دونها خمسة أيّام في الأسبوع. لكنّ مصلحتها كانت تأتي أوّلاً، وهكذا قُمنا بحجز غرفة جميلة لها. وبعد أن أفهمتُ جنا بأنّها ستبقى في المدرسة وتأتي إلى البيت خلال فرصة نهاية الأسبوع، ودّعتُها والدّمع في عَينَي.

 


فور رحيل إبنتي، حصَلَ تغيّر جذريّ في طباع جواد، إذ صارَ فرحًا ومرتاحًا أكثر وكأنّه استعادَ حرّيّته. كنتُ أعلم أنّ العَيش مع معوّقة ليس بالسهل، لكنّني لم أتصوّر، على الأقل إستنادًا إلى تصرّفاته مع جنا، أنّ زوجي يُعاني مِن وجودها بيننا. لم أقل شيئًا، إلا أنّني تمنَّيتُ أن يُدركَ أنّ ابنتي لن تبقى في المؤسّسة طوال حياتها، بل ستعود بصورة نهائيّة بعد انتهاء البرنامج.

جنا أيضًا تغيّرَت، فحين كانت تأتي إلى البيت، كانت أكثر انطواءً مِن قبل، وردَدتُ الأمر إلى تغيير نمَط حياتها. لكن كان علينا أن نصبر ريثما تتمكّن مِن تعلّم ما سيُساعدها للحصول على نوع مِن الإستقلاليّة.

قرَّرَ زوجي أخيرًا أنّ بإمكاننا التفكير بالإنجاب، وكنتُ سعيدة للغاية لأنّني أردتُ تربية طفل بطريقة طبيعيّة، ورؤيته يكبر كسائر الأطفال.

لكن مشروعنا لم يتحقّق بعد أن قالَ لي زوجي:

 

ـ مِن الجيّد أنّ جنا في المؤسّسة، هكذا سيولَد ويكبر طفلنا في مناخ سليم.

 

ـ ماذا تقصد؟ ستعود إبنتي إلى البيت بعد فترة وسيربى الطفل معها.

 

ـ لن أسمَحَ بذلك، أريد عائلة طبيعيّة. جنا باقية في المؤسّسة وسأدفع كلّ ما يلزم لذلك. لا تخافي، هي بأفضل حال هناك.

 

ـ لستَ مَن يقرّر ما سيحصل لجنا فهي أوّلاً وآخرًا إبنتي، وهي كانت منذ البدء جزءًا مِن المعادلة. لن أعيش مِن دونها ولن أبعدُها عنّي لأنّ الأمر يُزعجكَ. كنتَ تعلم ما الذي ينتظركَ معنا وقبِلتَ به. ما الذي غيَّرَ رأيكَ هكذا؟

 

ـ حاولتُ... ولم أقدر. لا أستطيع رؤيتها أمامي يوميًّا... لا أستطيع التواصل معها ولا أرى منفعة مِن بقائها هنا.

 

ـ جنا ليست غرَضًا نُبقيه أو نَرميه، بل إنسانة بكلّ ما للكلمة مِن معنى. هي قطعة منّي لا ولن تتجزّأ. إسمع... ستعود جنا إلى البيت غدًا ولن أقبَلَ بغير ذلك.

 

ـ وإنّ رفضتُ؟

 

ـ تعلم جوابي.

 

إنتابَني الندَم بعد أن لفَظتُ جملتي الاخيرة، فكنتُ مِن جرّائها سأخسر جواد، لكنّني تداركتُ نفسي وبقيتُ مصرّة على إعادة جنا. فما مِن رجل في العالم يستحقّ أن أتخلّى عن إبنتي التي لم تطلب أن تولَد مختلفة، وأن تعاني طوال حياتها مِن عزلة تامة وابتعاد الناس عنها. كنتُ كلّ عالمها ولم تكن تملك سوايَ.

عادَت جنا ورحَلَ جواد. حزنتُ طبعًا، إلا أنّ دموعي توقّفت بمساعدة إبنتي التي عرفَت كيف تُنسيني، مِن دون أن تعلم، غياب زوجي. هي الأخرى تأثَّرَت مِن بُعد جواد الذي كان يُعطيها نوعًا مِن الأمان، إلا أنّها صبَّت إهتمامها كلّه على تأدية الأشغال اليدوّية التي تعلّمَتها في المؤسّسة.

ومع أنّ زوجي طلّقَني، بقيَ يبعث لي المال لأتمكّن مِن إرسال إبنتي إلى المؤسّسة خلال النهار. وهكذا عدتُ إلى العمل وتابَعنا حياتنا وكأنّ شيئًا لم يحصل.

اليوم أصبحَت جنا في الخامسة والعشرين، وتحسّنَت قدرتها على التواصل مع العالم الذي يُحيط بها. حياتي هادئة، وتعوّدتُ على العَيش مِن دون حبّ رجل، فحبّ إبنتي لي يعني الدنيا بأسرها. أصلّي كلّ ليلة ليُبقيني الله بصحّة جيّدة ويُطيل بعمري، فلا أجرؤ على تصوّر ما

قد يحصل لابنتي بعد مماتي. وحتى ذلك الحين، أحاول وضع المال جانبًا لتستفيد منه جنا عندما تصبح وحيدة، وأتابع تقويتها معنويًّا وجسديًّا وتعليمها كلّ ما سيُمكّنها مِن مواجهة عالمٍ قاسٍ لا يرحم مَن هم مختلفين.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button