إبنة نصّابين

لا تظنّوا أنّ أولادكم لا يعرفون ما يجري بينك وبين زوجك أو زوجتك، أو في البيت عامّة، أو أنّهم لا يُدركون، حتى لو لاحقًا، حقيقة ما يجري.

كنتُ فتاةً في الحادية عشرة مِن عمري وكنتُ قد أدركتُ حقيقة والدَيّ البشعة. للحقيقة، لَم أكبر لأصبح مثلهما ومثل أخي الكبير، وأجهلُ حتى اليوم السبب. فقلبُ هؤلاء الناس كان مليئًا بالطمَع والإحتيال والبغض المجانيّ تجاه كلّ مَن يملكُ أكثر منهم، وشغلهم الشاغل وضع اليَد عليه. مَن مِن أبي أو أمّي أثَّرَ على الآخر أم أنّهما وجدا نصفهما الثاني؟

فأبي كان يلعبُ المَيسر ليليًّا بتشجيع مِن أمّي، وهو قد أعدَّ إبنه لحذو حذوِه حين يكبر. وحين كان والدي يعود إلى البيت في الصباح، كنّا نُراقبُه بهمّ لنرى إن كان قد ربِحَ أم خسِرَ، فمزاجه كان مرتبطًا طبعًا بحصيلة ليلته.

في ما يخصّ أمّي، فهي كانت تدورُ على الجيران لتبُثَّ سمّها عن هذه أو تلك، فقط للترفيه والأذى المجّاني. إلى جانب ذلك، كانت تعملُ جهدها للإستفادة مِن أيّ كان للحصول على ما استطاعَت مِن دون تعَب.

أمّا أخي الذي كان يكبرُني بثلاث سنوات، فكان ينتظرُ بفارغ الصبر أن يتمكّن مِن تطبيق ما تعلّمَ مِن والدَيه.

وصِرتُ كالغريبة بين أهلي لأنّني كنتُ مُختلفة عنهم وأُحاول، بامكانيّاتي الضئيلة، تأنيبهم على ما يفعلونه كلّ يوم. إلا أنّني لَم أتوقَّع أبدًا ألا يكون مِن حدود لشرّهم وطمعهم وغشّهم.

ففي يوم مِن الأيّام، وصلَت أمّي البيت وبرفقتها سيّدة في العقد الخامس مِن عمرها. لَم أكن قد رأيتُها مِن قَبل فنظرتُ إلى أمّي مُستفسِرة إلا أنّها ابتسَمت لي بطريقة غريبة للغاية. ألقَت السيّدة منال التحيّة عليّ، أيضًا بطريقة غريبة، وراحَت تجلسُ مع والدتي في الصالون بينما كنتُ أُنهي واجباتي المدرسيّة على مائدة الطعام. وطوال جلسة المرأتَين، بقيَتا تتكلّمان بصوت خافِت وتنظران إليّ بين الحين والآخر. علِمتُ طبعًا أنّ شيئًا ما يُحاكُ، على الأقل مِن جهة أمّي، وعزمتُ على معرفة كلّ شيء حين تُغادر ضيفتنا.

بعد ساعة تقريبًا وبعد أن ودّعَتني السيّدة منال بكلمات لطيفة وبسمة عريضة ونظرة تحملُ معانٍ لَم أستطِع فهمها، نادَتني والدتي إلى المطبخ وقالَت لي:

 


ـ إنّها سيّدة لطيفة، أليس كذلك يا صغيرتي؟

 

ـ ما الذي تُحضّرينه يا ماما؟

 

ـ ماما... عليكِ نسيان تلك الكلمة لفترة مُعيّنة.

 

ـ ماذا تقصدين؟؟؟

 

ـ فلقد قلتُ للسيّدة منال إنّكِ فتاة يتيمة.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ إهدئي يا حبيبتي... فهي سيّدة ثريّة ولقد فقدَت زوجها منذ سنة وتشعرُ بالوحدة، إذ أنّها لَم تُنجِب قط. وجدتُها على أحد مواقع التواصل الإجتماعيّ وعرضتُ عليها مُساعدتي بتربية فتاة يتيمة... وقلت لها إنّكِ إبنة إبنة خالتي ومصاريفكِ باهظة وتحتاجين لرعاية مَن هو مُقتدِر.

 

ـ أنا لا أُصدِّق أُذنَيَّ! ألهذا الحدّ أنتِ بلا ضمير؟!؟

 

ـ إخرسي وإلا قطعتُ لسانكِ فأنا أمّكِ!

 

ـ حسِبتُ نفسي يتيمة!

 

ـ لعَنكِ الله! لطالما كنتِ مُختلفة عنّا! لو لَم ألدكِ بنفسي لصدّقتُ أنّكِ لستِ إبنتي. إسمعي... ستزورُنا السيّدة منال مُجدّدًا وستفعلين كما أُملي عليكِ.

 

ـ وإلا ماذا؟

 

ـ وإلا قلبتُ حياتكِ إلى جحيم!

 

ركضتُ أخبرُ أخي بالذي يُحضَّر لي، وهو فاجأني بالقول: "كلّ ما عليكِ فعله هو تنفيذ أوامر أمّنا، فلا بدّ مِن الإستفادة منكِ يومًا". بدأتُ بالبكاء وحبستُ نفسي في غرفتي بعد أن قرَّرتُ تنفيذ اضراب عن الطعام لتسجيل رفضي القاطع للمُتاجرة بي. إلا أنّ ما مِن أحد أهتمّ للأمر بل سُرَّت والدتي وقالَت لي مُبتسمة: "أضربي عن الطعام... هكذا ستبدين نحيفة وتشفقُ عليكِ السيّدة منال أكثر... فكرة جيّدة!

وأدركتُ أنّ لا مفرَّ مِن لعب لعبة عائلتي العزيزة، وإلا حصَلَت لي أمور غير سارّة على الإطلاق.

عادَت السيّدة منال مُحملّة بالهدايا لي ولأخي، وبالطبع بمبلغ مِن المال أخذَته منها أمّي مُدّعية الإحراج والإمتنان وهامسة لها:

 

- ما تفعلينه يا سيّدة هو مِن لله... وهو سيُبارككِ بدوره...لو أنّ أمثالكِ كثر!

 

ولدى سماعها تقول ذلك، إبتسَمتُ ضمنيًّا عالمة ما قصدَته حقًّا والدتي بـِ "لو أنّ أمثالكِ كثر".

مرَّت سنة بكاملها، وكانت السيّدة منال قد دفعَت مبلغًا غطّى مصاريف دراستي وأخي وملابسنا وأكلنا وحاجيات البيت... وفساتين أمّي وبزّات أبي ونفقات لعبه بالمَيسَر وكذلك أساور وخاتمَين مِن الذهب.

لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا بالنسبة لهؤلاء النصّابين بل أرادوا المزيد، فادّعوا مرضي ونالوا مصاريف علاج... مرضٕ نفسيّ، أي صعب الفَضح، وذلك بسبب "فُقداني والدَيَّ باكرًا". المسكينة منال ذرفَت الدموع لدى سماع أبوَيّ يرويان لها بوادر عِقَدي النفسيّة وتأثيرها عليّ حين أكبر، وشكرها بحرارة لإنقاذ فتاة مِن الجنون.

وبعد مرور سنة أخرى تكلَّلَت بشفائي مِن عقدي النفسيّة المزعومة، إقترَحَت منال على والدتي ما لَم أتصوّره ممكنًا:

 

ـ أعيشُ وحيدة في بيت كبير وأتوقُ لوجود أحد معي، خاصّة ولد. ما رأيكِ لو آخذ تلك الفتاة الجميلة واللطيفة لتسكنُ معي؟ لا تخافي، إلى جانب الإهتمام بها كليًّا، سأُخصُّكم بمبلغ شهريّ كبير تعويضًا لحرمانكم منها. فكّري بالأمر، لا تُعطيني جوابًا الآن.

 

عندما غادرَت السيّدة بدأتُ بالبكاء والصراخ والتهديد، لأنّني رأيتُ بسمة خاطفة على وجه أمّي وعلِمتُ أنّها ستوافق. أيّ أمّ تستحقّ هذااللقَب بإمكانها "بَيع" إبنتها لإنسانة غريبة؟!؟ تشاورَت والدتي مع أبي وأخي وجاؤوا كلّهم إلى غرفتي. قال لي والدي:

 


ـ إنّها خدمة تُسدينها لمَن ربّياكِ واعتنيا بكِ بحب وحنان. لن يطول الأمر، بل فقط بضعة أشهر، فنحن بحاجة إلى المال.

 

ـ لتصرفه على لعب القمار يا بابا؟!؟ أو لتشتري الذهب يا ماما؟ أو لتحصل على ألعاب الفيديو يا أخي؟!؟ تبًّا لكم جميعًا! يا لَيتني ولِدتُ وسط عائلة أخرى!!! أكرهُكم!

 

عندها قال أخي:

ـ منذ البدء وأنتِ مُختلفة عنّا، ومِن الأفضل أن ترحلي، فلا مكان لكِ بيننا.

 

ـ سأفضحُكم! سأقولُ للسيّدة منال الحقيقة.

 

أجابَت أمّي:

ـ إن فعلتِ ذلك، لن يكون هناك مِن مكان لكِ تعودين إليه. ستبقين في الشارع. أهذا ما تُريدينَه؟!؟

 

أدركتُ أنّ لا حلّ لمشكلتي، فرافقتُ السيّدة منال ذات نهار إلى بيتها ومعي حقيبتي. لَم أتفوّه بكلمة واحدة طوال أيّام عديدة مع أنّ منال كانت بغاية اللطف معي.

كان البيت جميلاً بالفعل وغرفتي أجمَل. وكان مِن المُتوقَّع أن أدخل مدرسة جديدة بعد انتهاء الفرصة الصيفيّة حيث أتلقّى دراسة مُمتازة لتأمين مُستقبل واعد. لَم أتحمّل فكرة هذا التغيير المُفاجئ والجذريّ خاصّة أنّه مبني على كذبة كبيرة.

ومع الوقت، صِرتُ أكلّمُ السيّدة منال، فلَم يكن هناك أحد غيرها سوى عاملة تأتي كلّ أسبوع مرّتَين للتنظيف. وعند اقتراب بداية العام الدراسيّ، قلتُ لصاحبة البيت:

 

ـ سيّدتي... أنتِ إنسانة طيّبة... أريدُ أن أقول لكِ شيئًا بغاية الأهميّة... لقد حضّرتُ حقيبتي هذا الصباح لأنّني أعلَم أنّكِ ستُرسليني بعيدًا بعد سماع كلامي. دعيني أُكمِل مِن فضلكِ. أنا لستُ يتيمة على الإطلاق، بل أهلي هم الذين أخذتِني منهم. وأنا لستُ مثلهم وأكره ما يفعلونه ولا أقبَل به، فلقد هدّدوني بالأفظَع إن لَم أوافق على خطّتهم الدنيئة. أنا آسفة عنهم لأنّهم استغلّوكِ هكذا، وأتمنّى أن أكبر لأصبَحَ إنسانة ناجحة ولأجني ما يكفي لردّ كلّ قرش أخذوه منكِ. قد يستغرقُ الأمر سنوات طويلة، إلأ أنّني سأعملُ بجّد وكدّ لأفي بوعدي لكِ.

 

ضحِكَت السيّدة منال عاليًا وعانقَتني قائلة: "ما أجمل براءة الأولاد!".

نظرتُ إليها بإندهاش، فهي لَم تبدُ لي غاضبة على الإطلاق. فتابعَت:

 

ـ لَم أكن مخطئة بشأنكِ، فأنتِ حقًّا مُختلفة عن هؤلاء القوم ولهذا السبب بالذات إنتشَلتُكِ مِن بين مخالبهم.

 

ـ أنتِ على عِلم بـ...

 

ـ ليس في المرحلة الأولى، لكن موقفكِ كان واضحًا وقرأتُ في نظراتكِ ما صارَ جاليًّا لاحقًا. أجريتُ بعض التحرّيات عن أهلكِ وتأكّدتُ مِن شكوكي. وحين بدأوا بطلَب المزيد والمزيد واختلاق قصص لا يُصدّقها سوى الأغبياء، قرّرتُ جلبكِ إلى هنا. فالمحتال يحسب نفسه أذكى مِن غيره. صحيح أنّه يتمكّن مِن تمرير كذباته في بعض الأحيان، إلا أنّ ثقته المُفرطة بنفسه وطمَعه يحملانه على اقتراف الأخطاء الفاضحة. إبقي معي، فمكانكِ ليس معهم وإلا تعذّبتِ وسطهم أو تحوّلتِ إلى شبيهتهم. سوف أؤمِّن لكِ أفضل تعليم وأفضل حياة وأُعطيكِ مناخًا صالحًا لتكبري. وأنا مِن جهتي سأحصلُ على الإبنة التي طالما تمنَّيتُها. فربّما هو الله الذي دبَّرَ لنا لقاءنا لتُعطي كلّ واحدة منّا للأخرى ما ينقصُها. على الأقلّ حاولي لبعض الوقت. ما رأيكِ؟

 

أمضَيتُ الخمس سنوات المُتبقيّة لي لبلوغ سنّ الرشد عند منال، ولعبنا اللعبة تاركين أهلي يظنّون أنّ مكيدتهم نجحَت. كنتُ سعيدة للغاية مع تلك السيّدة التي تحوّلَت على مرّ الزمَن إلى أمّ فعليّة لي. مالها لَم يكن السبب، بل عاطفتها القويّة لي ومُعاملتها التي لَم أكن لأحصل عليها مِن قِبَل التي أولدَتني. وأنا بالمُقابل، كنتُ لها إبنة صالحة وهادئة وبالفعل محطًّا لآمالها.

زرتُ أهلي بين الحين والآخر فقط كي لا يشكّوا بشيء، وبقيتُ أدّعي أنّني أسكنُ عند منال رغمًا عنّي. في كلّ زيارة لي، كانوا يقضونها بتلقيني سبلاً جديدة للإستفادة مِن صاحبة البيت وليس بالتعبير عن شوقهم لي. على كلّ الأحوال، لَم يكن يهمّني الأمر، فكنتُ أعلَم أنّ إنسانة عظيمة تنتظرُني لدى عودتي.

عندما صِرتُ راشدة قانونيًّا إستطعتُ الإنفصال كليًّا عن عائلتي، فلَم يعُد لهم سلطة عليّ. وقطعَت منال إمداداتها لهم، الأمر الذي حملَهم على تهديدها بشتّى الطرق والألفاظ. ومع الوقت، هم نسوا أمري ربمّا لأنّهم وجدوا طريقة أخرى لجني المال نصبًا.

دخلتُ الجامعة وتخرّجتُ، وتعرّفتُ إلى شاب مُمتاز وأقامَت لي منال أفضل زفاف في حديقة المنزل. كنتُ قد أخبرتُ عريسي قصّتي، فلا بدّ له أن يعرف حقيقة نسَبي، على الأقل مِن إسمي الذي لَم يكن مُطابقًا لإسم منال، وخفتُ طبعًا أن يُحاول أحد أفراد عائلتي الإستفادة منه يومًا ما. لَم أدعُ طبعًا أيًّا منهم إلى فرَحي وهم لَم يسألوا عنّي على الإطلاق. أنجبتُ ولدَين رائعَين كبروا مع "جدّتهما" منال التي توفَّيت حين أصبحا مُراهقَين. بكيتُ كثيرًا على "ماما منال" التي أحبَّتني مِن دون قَيد أو شرط، ولأنّها مِن هؤلاء الذين يُجيدون الحبّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button