كان مكتوبًا لي أن أكون بسيطة العقل بسبب عائلتي. أجل، فلقد ورثتُ، بشكل خفيف، مشاكل إتّسمَ بها كلّ ذويّ مِن دون استثناء. لَم أعرف ذلك إلا عندما دخلتُ المدرسة وظهرَت لدَيّ صعوبة في الإستيعاب، ناهيك أنّ رفاقي لَم يتأخّروا بالرغم مِن صغر سنّهم، بالتهكّم عليّ عندما علِموا مِن أهلهم أنّني "إبنة العائلة المجنونة". بعد ذلك، صرتُ أنتبه إلى ما يجري في البيت الكبير حيث كنتُ أعيشُ مع جدّتي وأمّي وأخوالي. لَم أذكر أبي لأنّه ترَكَنا بعد ولادتي بقليل، بسبب حالة والدتي النفسيّة التي لَم يُحسن التعامل معها.
ومع الوقت، بتُّ أكيدة مِن أنّ الناس الذين أعيشُ معهم ليسوا سليمي العقل، وأنّني كنتُ أفضلهم بالرغم مِن الصعوبات التي واجهتُها في الدراسة وفي التعامل مع مَن حولي. غضبتُ كثيرًا لأنّ الحياة لَم تعطِني فرصة العَيش بطريقة طبيعيّة، ولأنّني سأبقى وسط مَن يُذكّرني بالنقص الذي أُعاني منه.
صعدتُ الصفوف بجهد فرَضتُه على نفسي، لأثبت للعالم أنّني لستُ بلهاء، وقرّرتُ عدَم دخول الجامعة لأنّ ذلك كان يعني حتمًا فشَلي. لِذا إتّجهتُ إلى العمل بكلّ ما لدَي مِن مُعطيات ضئيلة. إفتخر بي ذويّ لأنّني كنتُ الوحيدة في العائلة التي أنهَت المدرسة، وأقاموا لي حفلاً دعوا إليه أهالي الحيّ كافة. لكن لَم يأتِ إليه سوى الذين جاءوا بدافع الفضول وليجمعوا ما بقدرتهم مِن قصص مُضحكة عنّا وعن تصرّفاتنا في تلك الليلة. كنتُ مُستاءة جدًّا، فذلك كان يعني أنّ كلّ ما قد أفعله في حياتي لن يُزيل عنّي ذلك اللقَب اللعين.
بدأتُ العمل في مصنع للألبسة قريب مِن مسكننا، لأنّني كنتُ أخافُ مِن تعلّم القيادة أو حتى ركوب سيّارة أجرة. لِذا كنتُ أقطعُ تلك المسافة سيرًا على أقدامي ذهابًا وأيّابًا. وعلى هذه الطريق بالذات تعرّفتُ إلى جهاد، الرجل الذي غيّر مجرى حياتي. كان هناك رجل آخر إسمه كريم يعمل معي في المصنع، إلا أنّه لَم يحظَ باهتمامي لأنّه كان مثلي، إنسانًا بسيطًا، وكنتُ بحاجة إلى مَن يُشعرني بأنّي مِن المُميّزين.
كان جهاد يملكُ محلاً في الشارع الذي أمرّ به يوميًّا، وصارَ يقفُ أمام بابه في الوقت المُناسب لينظر إليّ بإعجاب ويُسمِعُني مِن وقت لآخَر كلمة لطيفة. كنتُ أُجيبُ على سلامه وتمنّياته لي بيوم سعيد، وأبتسمُ له رغمًا عنّي لأنّه كان وسيمًا وأنيقًا. وبعد فترة، قبلتُ دخول محلّه لأتفرّج على البضاعة الجميلة الآتية مِن أوروبا. فهو كان يستورد العطور والملابس الداخليّة النسائيّة وكلّ ما يلزم السيّدات الأنيقات. وكَم فرحتُ عندما أهداني وشاحًا حريريًّا جميلاً للغاية! وأظنُّ أنّني أحببتُه في ذلك اليوم بالذات، بعد أن أعجبَني الشعور الذي ولّدَه إهتمام رجل بي.
رحتُ البيت وخبّأتُ الوشاح في قعر خزانتي، وحلِمتُ بجهاد وهو يقولُ لي إنّه يُحبّني ويطلبُ يدي. أقولُ أحلمُ لأنّني كنتُ مُدركة أنّ رجلاً مثله لن يُقدِم أبدًا على الإرتباط بي لأنّه كان يعلمُ إبنة مَن أنا. صحيح أنّني كنتُ جميلة بعض الشيء، لكنّ الفرق الفكريّ بيننا كان شاسعًا.
إلا أنّني كنتُ مُخطئة، فجهاد كان فعلاً مُهتمًّا بي ويُريدُني، الأمر الذي علِمتُ به يوم زارَنا في البيت مِن دون موعد، حاملاً الهدايا والحلويات. ولَم أصدّق أذنيّ عندما قال للعائلة المُجتمِعة إنّه جاء لِطلَب يدي. نظرَت أمّي إلى جدّتي وإخوتها ثمّ إليّ وضحِكَت مُجيبةً: "خذها ساعة تشاء!". هي لَم تقل ذلك بنيّة السخرية بل مِن كثرة فرحتها.
في اليوم التالي ركضتُ أُخبر زملائي في المصنع عن خطوبتي، وبدأ الكلّ بالتصفيق والغناء لي، إلى أن جاء المُدير وفرّقهم. وحده كريم لَم يُهنّئني بل بقيَ واقفًا أمام آلته. بعد دقائق، إقتربَ منّي وقال لي:
ـ ولماذا يُحبّكِ رجل مثله؟ أنتِ فتاة بسيطة.
ـ وإن يكن؟ ما الغريب في ذلك؟ أنا جميلة ومُهذّبة. وما دخلكَ أنتَ؟
ـ أنا؟ لا... لا دخلَ لي.
ـ لقد لاحظتُ كيف تنظرُ إليّ يا كريم، وأظنّ أنّ لدَيكَ اهتمامًا خاصًّا بي.
ـ أنا... لا... أقصد بلى... أعني...
ـ وتقول إنّني البسيطة؟ جهاد لَم يتردّد بالتعبير عن حبّه لي، فهو رجل حقيقيّ!
ـ أنا أيضًا رجل حقيقيّ وسأقولُ ما في قلبي! أُحبّكِ يا منال! أحبّكِ!
سمعه العمّال الآخرون وضحكوا عليه بقوّة، الأمر الذي أسكتَه.
قلتُ له قبل أن يعود إلى عمله:
ـ أنتَ شاب لطيف يا كريم، لكنّ قلبي ملك جهاد.
بالفعل لَم يكن يهمنّي ذلك الزميل، فقد كان جهاد يُريدُني لِدرجة ربط حياته بي وكان ذلك كافيًا لإسعادي.
بدأتُ أتحضّر للزفاف وسط جوّ مِن الفرح مِن قِبَل عائلتي وجيراني، الذين افتخروا بأنّني سأرتبطُ بإنسان "طبيعيّ". للحقيقة لَم أسأل نفسي لماذا أرادَني جهاد أنا بالذات، مع أنّه يرى نساءً عديدات في محلّه طيلة النهار. وما علِمتُه قبل الزفاف بأيّام قليلة أحبطَني إلى أقصى درجة.
في ذلك اليوم كنتُ قد جلبتُ لزملائي في المصنع بعض الحلوى للإحتفال معهم بزواجي ولتوديعهم، ودعوتُ مُديرنا ليحتفل معنا. سألوني بعض الأسئلة وغنّوا لي وصفقوا بفرح وابتهاج. ثمّ أعطاني المدير فرصة لأذهب إلى البيت وأكمل تحضيراتي، بعد أن قدّمتُ استقالتي التي ستدخل حيّز التنفيذ بعد أيّام.
خرجتُ مِن المصنع بعد أن فتّشتُ على كريم ووجدتُه مُختبئًا في أحد المستودعات مِن كثرة حزنه على رحيلي وزواجي. نظرتُ إليه بشيء مِن الحرَج ثمّ قبّلتُه على خدّه قائلة: "ستنساني بعد فترة... أنا آسفة".
ولأستعيد فرحتي بعد أن أحزنَني مشهد كريم ودموعه، ركضتُ إلى جهاد. دخلتُ المحل لكنّني لَم أرَه قرب الصندوق، فسألتُ الموظّفة عنه، لكنّ الفتاة بدَت مُربكة للغاية، ثمّ أشارَت بإصبعها إلى الغرفة الخلفيّة. في تلك اللحظة، وبالرّغم مِن بساطتي، شعرتُ بأنّ شيئًا مُريبًا كان يحدث. فتحتُ باب تلك الغرفة لأرى خطيبي بصحبّة سيّدة، وهما... كيف أقولُ ذلك... في وضع حرِج للغاية. صرختُ لكثرة اندهاشي، الأمر الذي أفزعَهما. إرتدَت السيّدة ملابسها بسرعة فائقة وركضَت خارجًا. وبقيَ جهاد مكانه لكن سرعان ما نسيَ خوفه ليستعيد ثقته بنفسه ويقول لي:
ـ ما الذي أتى بكِ إلى هنا بهذه الساعة؟
ـ أهذا كلّ ما وجدته لتقوله لي؟ مَن هي تلك المرأة وكيف تخونني قبل أيّام مِن زواجنا؟
ـ وما دخلكِ أنتِ؟
ـ أنا خطيبتكَ وسأصير زوجتكَ! هذا هو دخلي! ألا تحبّني؟!؟
ـ أحبّكِ؟!؟ هل صدّقتِ فعلاً كلامي؟
ـ يا إلهي! ولماذا تُريد الزواج منّي إذًا؟
ـ لتوسيع محلي وتأسيس فرع آخر... أنا لَم أطلب شيئًا مِن أحد، فأخوالكِ هم الذين طلبوا منّي أن أتزوّجكِ مُقابل المال وقطعة مِن الأرض.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، فمَن سيُريد الزواج مِن "إبنة العائلة المجنونة؟". على كلّ الأحوال، كنتُ سأطلقّكِ بعد فترة، فهذا كان الإتّفاق بيننا... كانوا يُريدونكِ أن تنعَمي بالزواج مِن إنسان طبيعيّ ولو لأشهر قليلة. لِذا علينا الزواج، فلا يجوز عليكِ خذلانهم بعد الذي فعلوه مِن أجلكِ. ستتزوّجين مِن رجل صحيح العقل ووسيم، وأنا سأرتّب أعمالي كما أنوي فعله.
ـ هل بإمكانكَ أن تُحبّني يومًا؟
ـ أنا آسف، لا أحبّكِ ولن أحبّكِ.
ـ إذًا أنا أفسخُ خطوبتنا. الوداع.
لَم أخبر أخوالي أو أيّ أحد أنّني علِمتُ بالصفقة التي أُبرِمَت حولي، وغرقتُ في حزن لا مثيل له. فقد رأيتُ أمَلي بالعَيش بطريقة طبيعيّة يتبخّر لأعود إلى واقع لَم أكن أريدُه. ما هذه اللعنة؟ هل كُتِبَ لي أن أبقى إبنة المجانين طوال حياتي؟ ألن يُريدُني أحد؟
الوحيد الذي كان فعلاً يُريدُني كان كريم الذي فرِحَ للغاية عند سماع خبر فسخ خطوبتي، ومع أنّني لَم أقل له شيئًا عن السبب، هو قال لي بعد عودتي إلى المصنع:
ـ علِمتِ بحقيقته، أليس كذلك؟ ألَم أقل لكِ إنّه لا يُحبّكِ؟ لماذا تُريدين رجلاً مثله؟ لِتشعري بالأهمية؟ أنتِ مهمّة يا منال، على الأقل بالنسبة لعائلتكِ ورفاقكِ في العمل... وبالنسبة لي. أليس ذلك كافيًا؟ كونكِ بسيطة لا يجعلُ منكِ إنسانة ناقصة، بل مُختلفة. إضافة إلى ذلك، فمقابل الصعوبات التي تجدينها لاستيعاب بعض الأمور ثمّة ما تُحسنين فعله. إحمدي ربّكِ على ما أعطاكِ أيّاه. أحبُّكِ وأريدُكِ بكلّ جوارحي... فتعلّمي كيف تُحبّيني، وأنا واثق مِن أنّنا سنكون سويًّا أقوى وأفضل مِن أيّ شخص ذكيّ وناجح.
تأثّرتُ كثيرًا بكلام كريم لكنّني لَم أحبّه... على الأقل في المرحلة الأولى، فكان عليّ نسيان جهاد وما فعلَه بي. ثمّ، يومًا بعد يوم، صرتُ أرى في كريم أشياءً أحبَبتُها، مثل طيبة قلبه ونزاهته وتفانيه في عمله وتجاه أهله وتجاهي. وسألتُ نفسي كيف لَم أرَ تلك الخصال فيه قبل ذلك. إنّ السبب يعود حتمًا إلى إصراري على إثبات تميّزي عن ذويّ. لكن ما حاجتي فعلاً إلى الذكاء؟ فالحبّ لا يحتاجُ إلى الفطنة، بل إلى قلب كبير.
حاورتها بولا جهشان