لم أكن أريد دخول تلك المسابقة الجماليّة، إلا أنّ أهلي الذين كانوا عادة محافظين جدًّا، هم الذين أصرّوا على ذلك. إستغربتُ الأمر إلى أن علمتُ أنّ الجائزة الكبرى كانت ماليّة، الأمر الذي كان سيُساعد العائلة على اجتياز محنة ماديّة مؤلمة. إلى جانب ذلك، كنتُ سأحظى، لو ربحتُ المسابقة، بسيّارة جديدة ورحلة سياحيّة وجوائز أخرى.
شعرتُ بأنّني أُستغَلُ وحزنتُ كثيرًا، إلا أنّني رضختُ لرغبات أفراد عائلتي خاصّة بعدما قالت لي أمّي:
ـ إن كنتِ بهذا الجمال، فالفضل يعود لي ولأبيكِ، وأقلّ ما يُمكنكِ فعله هو ردّ ذلك الجميل لنا... لا تنسِ أيضًا أنّنا ضحَّينا كثيرًا مِن أجل تأمين كل ما يلزمكِ مِن مأكل وملبس وعلم... لا تكوني جاحدة يا ابنتي!
ما عساني أفعل أو أقول بعد هكذا حديث؟ لِذا توجّهتُ على مضض إلى العنوان المذكور في الصحيفة، وملأتُ استمارة ووقفتُ أمام الكاميرا ليلتقطوا لي بعض الصوَر، وعدتُ أنتظر مكالمة هاتفيّة مِن القيّمين على المسابقة.
تمنَّيتُ ألا أُقبَل لكن القدر شاءَ غير ذلك. فبعد أيّام قليلة، جاءَت المكالمة وتعالَت الزغاريد في البيت. إبتسَمتُ لهذا الكمّ مِن الحماس لأنّني كنتُ أعلم ما قد يعني فوزي لهم.
منذ تلك اللحظة، بتُّ الإبنة المدلّلة التي ستغرِق أهلها بالمال والجوائز، وبدأَت والدتي تعدّ لي حمية غذائيّة خاصّة كي أحافظ على رشاقتي.
أمّا بالنسبة إليّ، فبدأتُ أقصد معهدًا حيث قامَ المنظّمون بتعليمي وباقي المشتركات المشي والرقص وبعض الأغنيات. وكي أتفرّغ لهذا البرنامج الحافل، إضطرِرتُ لترك دراستي، مرّة أخرى على مضض. الشيء الوحيد الذي أفرحَني هو أنّني تعرّفتُ إلى صديقات جديدات، أي البنات نفسهنّ اللواتي ستتنافسنَ معي، إلا أنّ ذلك لم يمنعنا مِن التصادق. صحيح أن كان هناك مَن تردنَ الفوز بشراسة، لكنّ الأجواء كانت سليمة ومسليّة.
سرعان ما لاحظَني المدير المنظّم لكثرة جمالي واجتهادي وجدّيّتي في التعلّم، وأثنى عليّ ملمحًا إلى أنّني قد أكون الفائزة. وبالرغم مِن ذلك، لم أتشاوف على غيري، بل بدأتُ أساعد الفتيات الباقيات على إنجاز الرقصات كما يجب.
لكن مع مرور الأيّام، بدأتُ أستمتع بما أفعلُه وما يجلب لي مِن مدائح مِن قِبَل كل مَن عرفَني، حتى أصبحتُ أحلم بالفوز والجلوس على عرش الجمال، وكأنّني بذلك أتفوّق على بنات جنسي. وأعترفُ أنّني لم أعد لطيفة أو متواضعة كالسابق. حتى في البيت، صرتُ آمر باقي أفراد العائلة، أوّلاً لأنّهم كانوا بحاجة إليّ، وثانيًا لأنّني اعتقدتُ فعلاً أنّني مميّزة وأستحقّ التبجيل.
ومع اقتراب موعد المسابقة، بدأتُ أتوتّر كثيرًا مِن كثرة خوفي مِن عدم الفوز باللقب المنتظر. في تلك المرحلة بالذات، ناداني المدير إلى مكتبه وطلَبَ منّي اغلاق الباب ورائي. وبعد أن جلستُ قبالته قال لي:
ـ بعد أيّام معدود سيتقرّر مصيركِ، يا غنوة.
ـ أجل سيّدي وأنا خائفة جدًّا.
ـ عليكِ أن تخافي فالمنافسة شديدة.
ـ صحيح ذلك... الفتيات جميلات ولكن أعلم أنّ فرصتي بالنجاح كبيرة، أليس هذا ما قلتَه لي مرارًا؟
ـ أجل ولكن... الجمال لا يكفي.
ـ أنا أيضًا ذكيّة وموهوبة بالرقص والغناء.
ـ كل هذا ليس كافيًا، يا غنوة.
ـ ما الذي ينقصني إذًا؟ قُل لي وسأفعلُه!
عندها قامَ المدير مِن وراء مكتبه، وجلَسَ بالقرب منّي ووضَعَ يده على فخذي وقال لي بصوت أرادَه ناعمًا وودودًا:
ـ أستطيع التأثير على اللجنة الفاحصة... إيجابًا أو سلبًا، الأمر عائد لكِ.
وانحنى الرجل عليّ وحاوَلَ تقبيلي، إلا أنّني أبعدتُه عنّي وخرجتُ بسرعة مِن المكتب. وسمعتُه يقول لي: "سأنتظر ردّكِ... لا تتأخّري، فغيركِ قد يكون أكثر تعاونًا."
ركضتُ أختبئ في غرفة الملابس وبدأتُ بالبكاء. سمعَتني إحدى الفتيات وجاءَت تواسيني. أخبرتُها بما حصل فأجابَتني:
ـ أنتِ الأخرى؟ لقد حاوَلَ معنا جميعًا. لا أعرف أيّاً منّا قبِلَت معه، إلا أنّني فعلتُ مثلكِ.
ـ يا إلهي... ظننتُ أنّ المسابقة نزيهة وأنّ المنافسة شريفة... ماذا سأقول لأهلي؟ هم ينتظرون فوزي لتحسين أحوالهم. كم سيخيب أملهم بي!
ـ لكنّهم سينسون كل شيء عندما يعلمون أنّكِ حافظتِ على شرفكِ.
ـ أنتِ محقّة... لا شيء يساوي الحفاظ على الشرف.
مسحتُ دموعي وأخذتُ أمتعتي، وعدتُ إلى البيت مصمّمة على عدَم العودة إلى ذلك المكان الفاسد. عندما رأتني والدتي محمّلة، نظَرَت إليّ باستغراب وسألَتني عمّا يجري فأخبرتُها بما حدَثَ مع المدير. وإذ بها تقول لي:
ـ إنسحبت مِن المسابقة؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ ستعودين على الفور، أسمعتِ؟
ـ أقول لكِ إنّ الرجل يُريد ممارسة الجنس معي كي أفوز!
ـ أعلم ما قلتِه لي، لستُ صمّاء أو غبيّة! هيّا! عودي إلى المعهد!
ـ تريدين أن أنصاع لرغبات ذلك الرجل؟!؟
ـ هناك تضحيات عليكِ القيام بها لبلوغ هدفكِ.
ـ بل هي تضحيات لكِ ولباقي الأسرة! ما هذه الأنانيّة؟ وأين ذهَبَ كلامكِ عن الشرف والأخلاق؟
ـ أنتِ الأنانيّة يا غنوة! فوزكِ سيجلب لنا المال والجوائز والسمعة الحسنة.
ـ السمعة الحسنة؟ مِن أين؟ مِن بيع جسدي؟
ـ لن يعرف أحد بشيء... وهل سنخبر الناس بما ستفعليه؟ بالطبع لا.
ـ يكفي أنّني سأعلم.
ـ ألا تريدين مستقبلاً جميلاً؟ أم أنّكِ تريدين أن تعيشي مثلي؟ تريدين أن تتزوّجي مِن رجل فقير وأمّيّ، وأن تربّي أولادًا كثر وتحرمي نفسكِ مِن كل ما هو جميل وثمين؟
ـ لم يُجبركِ أحد على الزواج مِن أبي أو الإنجاب منه، وكان بإمكانكِ متابعة علمكِ والعمل لكسب المال... أنا لستُ أنتِ وأنتِ لستِ أنا. لن أعود إلى المعهد مهما كلّف الأمر، فلستُ بحاجة إلى بَيع نفسي لأعيش! لقد خيّبتِ ظنّي يا أمّي، وأتمنّى أن تستفيقي مِن الحالة التي أنتِ فيها وتعودي كما كنتِ سابقًا، أي أمًّا حنونة تُبقي أولادها في الطريق الصحيح ولا تدفعهم إلى ارتكاب الفحشاء.
نظَرَت إليّ والدتي بغضب وقصَدَت المطبخ حيث سمعتُ أطباقًا تنكسر. هل فعلَت ذلك لكثرة غضبها منّي أو لنَدَمها على ما كانت تنوي فعله بي؟
أُقيمَت المسابقة، وأسفتُ على الفائزة لأنّها دفعَت الثمن غاليًا. لم يعرف أحد مِن الذين يُحيطون بي السبب الحقيقيّ لتركي المسابقة، بل خالوا أنّني فعلاً أُصبتُ بوعكة صحيّة منعَتني مِن المتابعة. وحدها أمّي كانت تعلم حقيقة الأمر، ولم تتحسّن علاقتنا بعد ذلك، بل ساءَت إلى حدّ لم أتصوّره. فهي لم تعد تكلّمني إلا للضرورة، وأسرعَت بارسالي إلى جدّتي لمتابعة دراستي الجامعيّة. حزنتُ لهذا الوضع الشاذ، إلا أنّني فضّلتُ الإبتعاد عن تلك الأم التي أظهرَت جانبًا منها داكنًا جدًّا.
بعد سنوات، حين أنهَيتُ اختصاصي وبدأتُ العمل، صرتُ أبعث لأهلي بالمال وكذلك فعَلَ باقي الأولاد. لكنّني لم أسمع مِن والدتي أي كلمة شكر أو تشجيع. ويوم زفافي، تغيّبَت والدتي، ولم تأتِ لزيارتي حين أنجبتُ إبني الأوّل ثمّ الثاني بل اكتفَت بالاطمئنان عليّ عبر الهاتف. لماذا هذا الكره كلّه؟ هل لأنّني اكتشفتُ حقيقة قلبها الجاف، وحبّها للمّادة الذي فاقَ حبّها لابنتها ولمبادئ الشرَف؟
أتابع حياتي بهناء بفضل زوجي المحبّ وولدَيَّ الرائعَين. صحيح أنّ قلبي حزين على ما آلَت إليه علاقتي بأمّي، لكنّ السعادة التي أشعر بها بفضل الذي أنجزتُه بنفسي تفوق كلّ شيء.
حاورتها بولا جهشان