أين إختفى بلاكي؟

حبّي للحيونات كان معروفاً عند كل أقاربي وأصدقائي وحتى جيراني.
كنتُ نباتيّة وأنتمي لمنظّمات تختصّ بحماية الحيوانات وتوّجتُ هذه المحبّة بتربية هرّاً إستحوذَ على كل إهتمامي. فبالنسبة لي كان من أعزّ المخلوقات على قلبي. وشاءَت الظروف أن يختفي "بلاكي" كما كنتُ قد أسميتُه نسبة للونه الأسود. بحثتُ عنه في كل مكان وإنتظرتُه على الطريق لساعات طويلة، أحمل بيدي بعض من طعامه المفضّل ولكنّه لم يعُد... لم يبقى لي سوى طريقة لصق صور له في الأماكن العامة، على أمل أن يكون قد رآه أحد. وأصابني حزن عميق، ورغم محاولات أهلي العديدة للترفيه عني، لم أعد آكل أو أنام وأنا أتصوّر هرّي ميّتاَ أم مجروحاً أم ضحيّة هرراً اخرى شرِسة. وكنتُ قد فقدتُ الأمل كليّاً، إلى أن دقّ بابنا جارنا وفي ذراعيه بلاكي. صرختُ من الفرح وقبّلتُ الهرّ وحاملته. شرحَ لي توفيق أنّه وجده في الحرش الملاصق لمبناه الذي لا يبعد سوى أمتاراً عن منزلنا مع أنني كنتُ قد ذهبتُ إلى هناك عدّة مرات للبحث عنه. شكرتُ ذلك الشاب بحرارة وأخذتُ هرّي إلى الطبيب البيطري ليفحصه، فلم يجدفيه أي خطب سوى نقص حاد في التغذية. هنّأني لأنني وجدتُه ووصف له بعض المقويّات. وعادت لي البسمة وإرتاح جميع من يعرفني وأكملتُ حياتي كالعادة بإستثناء شيء جديد: أصبحنا أنا وتوفيق أصدقاء من جرّاء ما حدث، فإعتبرتُه المنقذ الشهم الذي أعاد لي حبيبي الصغير!!!

وحين جاء لزيارتنا وإلإطمئنان على بلاكي، إستقبلتُه بكل سرور. وأصبح توفيق يأتي شبه يوميّاً بعدما ينتهي من دروسه في كليّة العلوم. كان يكبرني ببضع سنوات ولكنّه بدأ يعجبُني كثيراً. فكان يعرف أشياء عديدة عن مواضيع مختلفة وكنّا نجلس ونتكلّم لساعات. وعندما أبديتُ إستغرابي لأنني لم ألاحظه مِن قَبل قال لي توفيق:

- ربّما لأنّكِ كنتِ مشغولة بنيل شهادة البكالوريا وربّما حبّكِ للحيوانات أعماكِ عن الناس... أنا رأيتُكِ مراراً في الحيّ وفي ذات مرّة ألقيتُ التحيّة عليكِ عندما مررتِ من قربي ولكنكِ لم تجيبي...

- أنا جدّ آسفة... أحياناً أكون غارقة في أفكاري...

- أعلم أنّكِ فتاة جميلة وذكيّة وشاب مثلي لا يعني لكِ الكثير...

- لا تقل هذا! أنتَ وسيم وذكيّ!

- الآن تقولين هذا لأنني وجدتُ هرّكِ وأعدته لكِ...

ومع الأيّام، بدأتُ فعلاً أقدّر هذا الشخص ووجدتُ فيه خصالاً حميدة جعلَتني أقع في حبّه وعندما باح لي بمشاعره، أخبرتُه أنني أيضاً أكنّ له مشاعر قويّة. وعند سماع هذا، حملَني ودار بي وصرخ:

- سأنهي دراستي بعد سنة وسأطلبكِ للزواج! أتقبلين بي؟

- نعم...

وتكلّم مع أهلي وخطبَني وظننتُ أنّ حياتي ستكون جميلة مع توفيق. ولكن فرحتي كانت قصيرة، بعدما حدثَ ما غيّر رأيي به إلى الأبد. ففي إحدى الأيّام، عندما كنتُ مجتمعة مع أفراد إحدى الجمعيّات التي تختصّ في حماية الحيوانات، علِمتُ أنّ مجموعة من الأشخاص تقوم بخطف الهررة والكلاب من أصحابها. إستنكرتُ للأمر وسألتُ:

- بغرض بيعها؟

- يا ليت هذا وحسب... بل لإجراء الإختبارات عليها!

- هذا بغيض! علينا فعل شيء بهذا الخصوص! هل لدينا معلومات عن هؤلاء المجرمين؟

- لا نعرف الكثير سوى أنّهم تلامذة كليّة العلوم المجاورة.

عند سماع هذا، خطرَ على بالي أن أسأل خطيبي إن كان يعرف شيئاً عن تلك العصابة ولكن زميلتي أضافَت:

- ورئيسهم يُدعى توفيق... لكننا لا نعلم إسمه بالكامل.

وفي هذه اللحظة فهمتُ كل شيء. إستأذنتُ من باقي أفراد الجمعيّة وعدتُ إلى المنزل لكيّ أستوعب مليّاً ما علمتُه. وربطتُ الأحداث ببعضها وباتَ كل شيء واضحاً. ثم أخذتُ الهاتف وطلبتُ من حبيبي أن يأتي لنتكلّم سويّاً. لم أعطيه تفاصيلاً لأنني لم أكن أريده أن يحضّر أجوبته. أردتُ أن أفاجأه وأرى وجهه عندما أفضحه. وجلسنا سويّاً في الصالون وأخبرتُه أن الجمعيّة تبحث عن أولئك الذين يخطفون الحيوانات ويعذّبونها بتجاربهم. فقال لي:

- هذه إشاعات... سمعتُها أيضاً ولكن لا صحّة لها.

- أنا أكرههم... بأيّ حق يحرمون أصحاب تلك الحيوانات منها ويسببون الحزن والألم لمجرّد التسلية؟

- لا للتسلية بل بإسم العلم!

- ها أنتَ تدافع عنهم! ظننتُ أنّها مجرد إشاعات!

- أجل... أقولُ هذا في حال لم تكن إشاعات... كل الأدوية التي يتناولها الناس والإجراءات الطبيّة والجراحات مرّت بتجارب على الحيوانات.

- أجل ولكن هذا فظيع جدّاً، خاصة إن كانت حيوانات أليفة وتُخطف من منازلها. ومَن يفعل هذا عادة، أطباء مختصّين ومختبرات معروفة وليس أفراداً قرّروا أن يطبّقوا ما تعلّموه في الجامعة! أجبني على سؤالي: هل لكَ ضلع بهذه الأشياء؟

- بالطبع لا يا حبيبتي... وهل أنا متوحّش لهذه الدرجة؟ ألا تعرفينني جيّداً؟ أنا إنسان رقيق ومحبّ وأعدتُ لكِ هرّتكِ... لو كنتُ أعذّب الحيوانات لما أعطيتكِ بلاكي بل أبقيتُه معي وفعلتُ به أشياء بشعة.

وأقنعني بحججه ونسيتُ الموضوع تقريباً وزالَت شكوكي به. ولكن بعد فترة قصيرة سمعنا في منتصف الليل ضجّة كبيرة وأصوات أناس يتشاجرون. ركضنا إلى الشرفة ورأينا جارنا في أسفل مبناه يمسك برجل ويصرخ عليه. نزلنا جميعاً لنرى ماذا يجري وفوجئنا برؤية توفيق بين أيدي جارنا. صرختُ له:

- ماذا تفعل هنا ولماذا يمسك بكَ العم جابر ؟

لم يجب بل جاوبني العجوز:

- هذا السافل كان يتسلّق حائط حديقتي ويحاول خطف كلبتي... لم تكن هذه أوّل محاولة له، ففي الأسبوع الفائت لاحظتُ حركة في الحديقة وعندما خرجتُ رأيتُ أحداً يهرب بعيداً. لذا قررتُ أن أترقّبه في حال عاد مرّة أخرى. ولكن لم أتصوّر أن يكون إبن جاري وصديقي! ماذا كنتَ تنوي فعله بكلبتي؟ بيعها؟

عندها أجبتُه:

- بل تعذيبها بإسم العلم! لينادي أحدكم الشرطة! لا يهمّني إن كان هذا الرجل خطيبي فهو مجرم ولا أريده.

ثم نظرتُ إلى توفيق وسألته:

- وبلاكي؟ ما الذي حصل؟ أريد الحقيقة!

- كنّا قد أخذنا هرّكِ عندما كان يتمشّى على حافة الشرفة. أغريناه ببعض الأكل فجاء إلينا. ولكن عندما رأيتُ كم أنّكِ حزينة قررتُ إعادته لكِ.

- أنتَ كاذب! أعدتَه لي لا لأنني حزنتُ عليه، بل لكيّ أكون ممنونة لكَ وأحبّكَ، فأنتَ تعلم مدى تعلقّي بهرّي وبكافة الحيوانات. ظننتكَ رجلا شريفاً وكدتُ أربط حياتي بحياتك وها أنتَ مخطّط بارع وسارق لا قلب له. لو كنتُ مكانكَ، لرحلتُ من هذا الشارع لأنّ الجميع باتَ يكرهكَ.

وجاءَت الشرطة وأمسكَته بتهمة محاولة السرقة وأوقفَت باقي المجموعة. وبعد فترة عادَ توفيق وحزمَ أمتعَته وغادرَ الشارع. لم أأسَف ولو للحظة عليه، فكان يمثّلُ كل ما أبغضه: الكذب والسرقة والتخطيط والإستهتار بالكائنات الحيّة وهكذا شخص لا يمكنه أن يحبّ. أنا اليوم طبيبة بيطريّة، أعتني بأصدقائي الحيوانات وأحميهم من أمثال توفيق.

حاورتها بولا جهشان  

المزيد
back to top button