أين إختفت أختي؟

وُلِدتَ حنان أختي قَبل انتهاء فترة حَمل أمّي، فوضعوها في حضّانة المشفى إلى حين اكتمَلَ نموّها. إلا أنّها بقيَت صغيرة الحجم مُقارنة بي، الأمر الذي حمَلَني على الاهتمام بها وحمايتها حتى عندما كبرنا. وصارَ بيننا رابط قويّ وتفاهم كلّيّ، وفي فترة مِن الفترات بتنا كالشخص الواحد بالرغم مِن السنتَين اللتَين تفصلان بيننا.

مرَّت السنوات بهدوء عشناها كأيّ أختَين، وحان موعِد دخولي الجامعة، الأمر الذي زعزَعَ توازن حنان، فهي كانت قد اعتادَت على وجودي معها في المدرسة نفسها خلال فترة النهار. عندها عادَ إليها القلَق الذي كانت تشعرُ به في سنواتها الأولى، وأمِلتُ أن تتحسّن حين تلحقُ بي إلى الكلّيّة. فكان مِن المؤكّد أنّها ستختارُ الاختصاص نفسه، أيّ المُحاماة، لتكون قريبة منّي. للحقيقة لَم أكن أُبالي، لكنّني كنتُ أفضِّلُ طبعًا أن تتمكّن أختي الصغرى مِن بلوغ حدّ مِن الاستقلاليّة والاتّكال على نفسها.

حصَلَ ما توقّعتُه وارتاحَت حنان وحصَدَت علامات جيّدة، فأمِلتُ أن يكون اصطلَحَ أمرها أخيرًا. وفي تلك الفترة، حصَلَ أن وجدتُ مكتبًا للمُحاماة للقيام بدورة تدريبيّة فيه، وأستطيعُ أن أكون جاهزة بعد تخرّجي. هنّأتني حنان وطلبَت منّي أن أًكلّم صاحب المكتب ليُؤمِّن لها أيضًا مكانًا تتدرّب فيه حين يأتي دورها. وعدتُها بأنّني سأفعلُ جهدي لكنّني وجدتُ أنّ الوقت مُبكرًا لذلك.

 

شاءَت الظروف أن يُطلَب منّي البقاء بصورة دائمة في ذلك المكتب، لأنّهم سُرّوا بأدائي واطمأنَّ بالي على مُستقبلي. لكنّ ذلك عنى أيضًا بالنسبة لحنان أنّني صِرتُ قادرة على توظيفها معي، الأمر الذي لَم يكن بِيَدي. ففي آخِر المطاف، وبالرغم مِن القرب الموجود بيننا، حنان لَم تكن أنا وأنا لستُ حنان. ويوم أخبرتُ أختي بأنّني لَم أنجَح في تأمين وظيفة لها في المكتب، كانت ردّة فعلها مُحزنة لِدرجة، فهي نظرَت إليّ وقالَت والدموع تنهالُ على خدَّيها: "أيعني ذلك أنّكِ تخلَّيتِ عنّي؟!؟". قبّلتُها بقوّة وحاولتُ أن أشرَحَ لها بأنّ الحقّ لا يقَع عليّ وأنّني فعلتُ جهدي.

بعد تخرّج حنان، سافرَت إلى إحدى عمّتَينا اللتَين تعيشان في الولايات المُتحّدة وخفَّ تواصلها معي بشكل ملحوظ. إلا أنّني بقيتُ أُزوّد أختي الصغرى بأخباري وأخبار أهلنا، وأسأل عنها كما في السابق. ورجَوتُ ضمنًا أن تُعطيها حياتها الجديدة في المهجر بعض الثقة بالنفس والاستقلاليّة.

جاءَت حنان لزيارتنا بعد سنتَين، ومكثَت في البيت لمدّة أسبوع تصرّفَت خلاله بشكل طبيعيّ، ثمّ انتقلَت إلى فندق بعيد لـِ "تقضي بعض الوقت وسط طبيعة بلدَنا الجميل" حسب قولها. عرضتُ عليها مُرافقتها لكنّها رفضَت بتهذيب.

وجدتُ الأمر غريبًا، فكيف لها أن تكون في البلَد نفسه لكن بعيدة عن أهلها؟ ألَم يكفيها بُعدها الكبير عنّا ولمدّة أيضًا كبيرة؟ لكنّني لاحظتُ تغيّرًا في شخصيّتها وصفتُه بالإيجابيّ، الأمر الذي فرَّحَ قلبي وطمأنَ بالي. عادَت أختي إلى الولايات المُتحّدة وإلى حياتها هناك، لكن ماذا كنتُ أعرفُ حقًّا عن أحوالها في المهجَر؟ فهي انتقلَت مِن العَيش عند عمّتنا سلوى إلى ستوديو صغير حيث استقرَّت. ما كان نوع عمَلها هناك؟ دور استشاريّ في مكتب مُحاماة، على ما اعتقِد. وما هو أغرَب أنّها تخلَّت مؤخّرًا عن رقم هاتفها ولَم يعُد لي طريقة للاستفسار عنها. لِذا اتّصلتُ بعمّتي سلوى التي تعرفُ الأكثر عن أختي، وهي أجابَتني:

 

ـ لا أعرفُ إن كان يجدرُ بي إخباركِ... فقد تجدين الأمر غريبًا لكن هنا في الولايات المُتحّدة العديد مِن...

 

ـ مِن؟

 

ـ حسنًا... حين وصلَت حنان البلَد، كانت في حالة نفسيّة صعبة، فتعلّقها بكِ كان واضحًا وكذلك خذلانها منكِ.

 

ـ أنا لَم أخذلِها!

 

ـ أجل، أجل، لكن هي ظنَّت ذلك... فنصحتُها وعائلتي أن تقصد مُعالجًا نفسيًّا لترتاح قليلاً وتستطيع القيام بعملها، فالحياة هنا مُتطلّبة وصعبة لِمَن لا يُنتِج.

 

ـ هي إذًا راحَت لِمُعالج... جيّد جدًّا ولكن...

 

ـ دعيني أُكمِل... هناك التقَت بأشخاص لدَيهم أيضًا مشاكل نفسيّة، خلال حلقات تُقامُ أسبوعيًّا يتكلَّم كلّ واحد خلالها أمام الآخرين عن حالته ومشاكله وربّما تقدّمه في العلاج.

 

ـ عظيم!

 

ـ في إحدى المرّات، إنضمَّ إليها شخص اسمه جوني ووُلِدَ بينه وبين حنان إعجابٌ ومِن ثمّ حبّ.

 

ـ يا للخبَر السار!

 

ـ لكنّ جوني رجُل مُضطرِب للغاية ولدَيه نزعات عنيفة، إستنتجتُ ذلك مِن كلام حنان عنه قَبل أن تترك بيتنا، وقَبل أن يستحوِذ ذلك القذِر على عقلها وقلبها.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ هو أقنعَها بأنّه الوحيد الذي يفهمُها، لأنّ كلَيهما لدَيهما مشاكل نفسيّة، وبأنّ عائلتها بأسرها لا تُحبُّها وخلاصها معه هو.

 

ـ يا إلهي! حنان صدّقَت هذا الكلام؟!؟ لكنّها إنسانة ناضجة وواعية!

 

ـ وهو يعرفُ كيف يستميل اللواتي بضعف أختكِ النفسيّ.

 

ـ لكّنها تعيشُ لوحدها في ذلك الستوديو وليس مع جوني، فكيف يكونان سويًّا؟

 

ـ لا حاجة له أن يعيش معها، فهو يحصلُ عليها حين يشاء وسلطته عليها قويّة حتى عن بُعد. بعد فترة، تركَت حنان عملَها عند المُحاميّ لأنّ جوني أقنعَها بأنّ بإمكانها جني مالٍ أكثر مِن مصادر مُختلفة.

 

ـ مثل ماذا؟

 

ـ لستُ أكيدة، فهذه المعلومات جاءَتني مِن جهات مُختلفة، لكن ما أنا مُتأكّدة منه هو أنّ حصولها وجوني على المال هو بطريقة غير قانونيّة.

 

ـ هذا غير مُمكِن! أختي نزيهة! أنتِ حتمًا مُخطئة يا عمّتي!

 

ـ زيارتها للبلد ولكم كانت بمثابة توديع، فهي راحلة مع حبيبها إلى جميع أنحاء الولايات المُتحّدة في مقطورة اشترياها سويًّا... أو بالأحرى إشترَتها حنان بالمال الذي تحصلُ عليه بطريقة مشبوهة. فالجدير بالذكر أنّ جوني يتجنّب توريط نفسه، فهو خريّج سجون وسجلّه حافل. إسمعي، أنصحُكِ بنسيان أمرها، فهي صارَت حتمًا مطلوبة مِن العدالة. وعلى كلّ حال أنتِ قلتِ لي إنّها غيَّرت رقم هاتفها، فكيف سوف تتّصلين بها؟

 

ـ أنسى أمر أختي الوحيدة؟!؟ أنتِ حقًّا لا تعرفيني يا عمّتي!

 

وبعد أن أقفلتُ الخطّ مع عمّتي سلوى، أخذتُ أُفكّر بكلّ الذي قالَته لي، فحنان التي وصفَتها هي بعيدة كُل البُعد عن التي عرفتُها منذ ولادتها. صحيح أنّها كانت هشّة الشخصيّة وتحتاجُ لِمَن يأخذ بِيَدها، إلا أنّ مرافقتها لإنسان كالمدعوّ جوني لا تمتُّ بصلة بطبعها أو مبادئها. فكان مِن غير المعقول أن تقوم حنان بأمور مُنافية للقانون!

لَم أُطلِع أبوَيَّ على الذي علِمتُه، وبقيتُ أدّعي أنّني على اتّصال دائم بحنان. لكنّني لَم أعُد قادرة على التركيز على شيء لشدّة انشغال بالي عليها ولشعوري بالذنب حيال أختي الصغيرة. هل كان بإمكاني فعل المزيد مِن أجلها؟ هل دفعتُها للهجرة ولو غير إراديًّا؟ يا إلهي... يا لَيت الولايات المتحّدة أقرَب، لطِرتُ إليها سريعًا! لكن كيف كنتُ سأجدُها في حين هي قرّرَت وجوني أن تجولَ الولايات الواحدة تلوَ الأخرى؟

وبعد حوالي الأسبوع، رأيتُ حلمًا مُزعجًا ليلاً عن حنان، فاستيقظتُ مرعوبة واعدة نفسي بأن أتصرّف. ومِن حسن حظّي، خطَرَ ببالي أن أتّصل بعمّتي الأخرى التي تعيشُ في ولاية بعيدة عن أختها سلوى، فهي قد تعرفُ تفاصيل إضافيّة عن حنان. وهي قالَت لي:

 

ـ حنان أختكِ؟ هي بخير... لِما هذا السؤال؟!؟

 

ـ ردّة فعلكِ غريبة يا عمّتي...

 

ـ بل سؤالكِ غريب ونبرة صوتكِ مليئة بالهمّ! حنان، تعالي وتكلّمي مع أختكِ!

 

ـ حنان عندكِ؟!؟ وهي بخير حقًّا؟ ما الذي يجري؟

 

تكلَّمَت معي حنان وهي شرحَت لي أنّها كانت بصدد إعطائي رقم هاتفها الجديد إلا أنّها إنشغلَت كثيرًا خاصّة بعدما انتقلَت إلى شقّة وعمَل جديدَين. أخذتُ الرقم واتّفقتُ معها أن نتكلّم مساءً. في تلك الأثناء، تساءَلت عن الأخبار التي ملأَت عمّتي سلوى رأسي بها، وما هو دافعها الحقيقيّ؟

جاءَ المساء في توقيتنا، واتّصلتُ بحنان. كان قلبي يدقّ بسرعة بسبب تساؤلاتي العديدة. أخبرتُ أختي عمّا سردَته لي سلوى وهذا كان ردّها:

 

ـ عندما زرتُكم في البلَد كنتُ مُضطربة. كان عليّ إّخاذ قرار نهائيّ وكنتُ بحاجة إلى هدوء، لِذا رحتُ الفندق. فمنذ ما وصلتُ الولايات المُتحّدة، شعرتُ أنّ عمّتي سلوى وعائلتها يقومون بأمور غامضة. فكان هناك تهامُس دائم وأناس مشبوهون يأتون ويرحلون مُحمَّلين بطرود عديدة. لَم أسأل عن الأمر، ففي آخِر المطاف كنتُ ضيفة لدَيهم. وفي الوقت نفسه لَم أكن قادرة على الرحيل، فلَم أجِد عمَلاً إلا بعد فترة، لأتمكّن مِن الانتقال إلى مسكن خاصّ بي. أنا لَم أقصِد مُعالِجًا نفسيًّا على الاطلاق لأنّ وجودي مِن دونكِ في أمريكا فرَضَ عليّ الاتّكال على نفسي، الأمر الذي أعطاني ثقة أكبَر، فأدركتُ أنّني قادرة على القيام بأمور عديدة وبإتقان. وذلك المدعو جوني هو حقًّا موجود، وبالمواصفات نفسها، إلا أنّه عشيق عمّتي سلوى. أجل، هي تُعاشره بالرغم مِن وجود زوجها، وبالرغم مِن أنّه يصغرُها بأكثر مِن خمسة وعشرين سنة. فنحن لا نعرفُ تلك العمّة جيّدًا أو بالأحرى على الإطلاق، فهي سافرَت وزوجها إلى الولايات المُتحّدة قبل ولادتنا ولَم نرَها إلا مرّة أو اثنتَين خلال زياراتها للبلَد.

 

ـ وماذا حدَثَ لاحقًا؟!؟

 

ـ واجهتُ عمّتي بشكوكي حيالها، فهدّدَتني وجوني الذي كان ضيفًا دائمًا في البيت، فخفتُ كثيرًا على نفسي. لَم أطلِع أحدًا عن الأمر كَي لا أُحزِنَ والدنا، لكن كان عليّ الرحيل مِن ذلك البيت البشِع. إلا أنّ حتى بعد انتقالي، بقيَ جوني يتّصلُ بي أو ينتظرُني أمام مسكني الجديد لِيُعاودَ تهديده لي. لِذا إتّصلتُ بعمّتي الثانية طالبة منها إستقبالي عندها، مِن دون أن أقولَ لها شيئًا سوى أنّني وجدتُ عمَلاً أفضل في ولايتها. لَم أكن أكذب بشأن العمَل، فلقد بحثتُ عنه ووجدتُه حالما أدركتُ أنّ حياتي قد تكون بخطر.

 

ـ يا إلهي... أنتِ حقًّا شجاعة! أختي الصغيرة بطلة! شعرتُ بالذنب حيالكِ يا حبيبتي لأنّني لَم أتمكّن مِن إبقائكِ معي في عمَلي وفي البلَد.

 

ـ بل ذلك كان أفضل شيء حصَلَ لي!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button