أوقعَت أمّي بي

كَم مِن مرّة يقع الأولاد ضحيّة خلافات عائليّة أو يتغيّر مصيرهم بلحظة ولأسباب لا دخل لهم فيها. وهذا بالظبط ما حصَلَ لي وإن كنتُ اليوم تعيسة في حياتي الزوجيّة فهذا عائد إلى أمّي التي لم تتردّد على تشويه سمعتي وخراب حياتي. أي أمّ تفعل ذلك بإبنتها؟ ربمّا إنسانة أنانيّة لا تريد سوى فرض إرادتها.

في البدء لم يكن هناك مِن أيّ مشكلة في أن أحبّ إبن أحد قريبات والدتي وقبِلَ الجميع الأمر بسرور وامتنان. وأتذكرّ جيّداً أمّي وهي تقول: "لا بدّ لابن سميرة أن يكون مثلها أي كريم وطيبّ ومحبّ." وكان مازن بالفعل هكذا ومنذ ما كان صغيراً ويأتي لزيارتنا مع أهله. وبعد أن عاد مِن المهجر بشهادة جامعيّة عالية ركضَ ليرى إن كنتُ لا أزال الفتاة الجميلة والرقيقة التي عرفَها مِن سنين طويلة. وحين رأيتُه علِمتُ أنّه الرجل الذي أريده وهو تأكّدَ أنّني حبيبة عمره. وتواعدنا سرّاً كي نكون على يقين مِن مشاعرنا تجاه بعضنا خوفاً مِن أن ننهي علاقتنا ونثير جلبة لا لزوم لها. وهذا لأنّنا كنّا نعرف أنّ والدتي ليست إنسانة سهلة المزاج بل تعلّق أهميّة كبيرة للتفاصيل والتقاليد وكل ما له علاقة بكرامتها.

وبعد سنة على لقائنا أخبرتُ أهلي عن مازن وهو أيضاً فعل الشيء ذاته مع أهله. وحصلنا على مباركة ذوينا وأجتمعَت العائلتان للتكلّم بتفاصيل الفرح الذي كان سيقام بعد أقل مِن سنة ريثما نجد الشقّة التي ستشهد ولادة عائلتنا الجديدة.

وعندها بدأ الخلاف. في البدء كان حول أمور بسيطة كالتاريخ والمكان. ومِن بعدها دارَ نقاش حول عدد المدعويّن وهويتّهم. حاولنا أنا ومازن ضبط الأمور بعض الشيء ولكنّ الشرخ بدأ يظهر. هدأَت الأمور بعض الشيء حين وصلنا جميعاً إلى صيغة ترضي الطرفَين وإستطعتُ التفرّغ إلى تحضير أموري الخاصة والتهيّئ إلى خوض حياتي الزوجيّة مع حبيبي. ولكنّ الشرّ كان قد سكَنَ قلب أمّي ولم تكن مستعدّة للتنازل عن شيء لسميرة التي كانت لا تدرك أن قريبتها تنوي السيطرة على سير الزفاف وكل ما سيأتي مِن بعده. وإعتبرَت والدتي نفسها مسؤولة عن القرارت كلّها بعد أن أحسَّت أنّ الطرف الآخر إنكسَرَ لها. وتمادَت كثيراً حين أبدَت رغبتها في اختيار مكان سكني أنا وزوجي وأنّ أولادنا سيأتون في المستقبل حصريّاً إلى بيتها حين نذهب إلى العمل. وأعربَ مازن عن دهشته ومِن ثمّ استيائه للأمر ولكنّني طمأنتُه بأنّني لن أدع أحداً يقرّر عنّا.

 


وكي تضغط أمّي عليّ دخّلَت أبي بالموضوع وأقنعَته بلزوم ما تفعله. ولأنّ أبي كان رجلاً مسيّراً مشى معها. وذهبَ مازن يقول لأهله أن عائلتي تتدخّل بأمور خاصة لا دخل لها بها فقرّرَت سميرة أن تكلّم أمّي وتطلب منها أن تدع العروسيَن يقرّرَين مصيرهما بنفسهما. وكانت تلك الفكرة غير صائبة لأنّها كانت بمثابة إهانة لوالدتي التي كانت تعتبر أنّ لا أحد يمكنه أن يملي عليها أي شيء.

وبعد أن كلّمَتها سميرة بكل لطف وتهذيب قرّرَت أمّي بقرارة نفسها أنّ زيجتي مِن مازن لن تحصل وأنّها ستفعل المستحيل لتفرّق بيننا. وبدأَت والدتي بإثارة النعرات وبإخبار أبي أنّ قريبتها ليست إمرأة صالحة وأنّها حين كانت مراهقة كانت تواعد شبّان كثر ما يدل على قلّة أخلاقها. وحين رأَت أنّ الموضوع لم يعطِ النتيجة المرتقبة قرّرَت تصعيد الأمور معي. ففي ذات يوم قالت لي:

 

ـ لا أريد أن تتزوّجي مِن مازن.

 

ـ ماذا؟؟؟ فرحنا بعد أقل مِن ستّة أشهر! كنتِ موافقة عليه فما الذي تغيّرَ؟

 

ـ أمّه... هذه الأفعى!

 

ـ أمّه لطيفة وتحبّني كثيراً! وما دخل أمّه بنا؟

 

ـ كيف تقولين ذلك؟ أم خطيبكِ تكرهني!

 

ـ لبل تحبّكِ كثيراً! تقول دائماً أشياء جميلة عنكِ.

 

ـ هذا كذب... تكرهني وتخطّط للسيطرة عليّ... أعرفها جيّداً.... لن أدعها تنفّذ ما برأسها!

 

ـ إسمعيني يا أمّي... لا دخل لي بأموركم العائليّة... وبالرغم أنّني لا أرى سبباً لكل هذه الأقاويل لن أغيّر رأيي وسأتزوّج مِن مازن مهما حاولتِ.

 

ـ ستفعلين ما أقوله لكِ!

 

ـ لستُ قاصراً وأستطيع الزواج مِن دون إذنكِ! أفضّل طبعاً أن يحصل ذلك بمباركتكِ ولكن إن لزِمَ الأمر سأذهب مع خطيبي ونتزوّج لوحدنا.

 

ـ سنرى ذلك.

 


وقد يظنّ البعض أنّ ما قلتُه لها أودى إلى ما حصَلَ لاحقاً ولكنّ أمّي كانت ستفصل بيني وبين مازن في كل حال. ربمّا لم تكن لتختار الطريقة الصعبة ولكنّها كانت ستصل إلى مرادها كما تعوّدَت أن تفعل. ولكي تنجح خطّطها تظاهرَت بأنّها رضخَت للأمر الواقع وبدأَت تساعدني على تحضيرات الزفاف كأي أمّ أخرى. وفرحتُ كثيراً وهنّأتُ نفسي لأنّني أوضحتُ لها بأنّ لا جدوى مِن منعي مِن الإرتباط بحبيبي. وذهبنا سويّاً إلى الأسواق لشراء حاجاتي ومِن ثمّ إلى الخيّاطة لفستان العرس. وهناك أخذَت المرأة مقاسي بعدما اخترتُ القماش والتصميم. وبعد أسابيع حان موعد القياس الثاني ولكنّ أمّي لم تكن قادرة على الذهاب معي بسبب وعكة صحيّة:

 

- إذهبي مِن دوني... أظنّ أنّني مصابة بالإنفلونزا... يا ليتني أستطيع رؤية ابنتي الوحيدة في فستانها الأبيض... لِما لا نطلب مِن الخيّاطة المجيء إلى هنا؟ تستطيع العمل في غرفتكِ... وسيكون أبوكِ أيضاً في المنزل وسيعطينا رأيه أيضاً...ماذا تقولين؟

 

- وكيف لي أن أرفض هكذا طلب؟

 

فخابَرتُ الخيّاطة وطلبتُ منها المجيء في اليوم التالي في تمام الساعة العاشرة صباحاً. ولكنّ أمّي كانت قد دبّرَت كل شيء لتنفيذ خطّتها الدنيئة. فاتصلَت بمازن وطلَبَت منه أن يأتي أيضاً ولكنّ قبل الخيّاطة بقليل:" تعالى لرؤية الفستان... أعلم أنّ ذلك ليس مطابقاً للتقاليد ولكنّ إبنتي محتارة جدّاً بشأن التصميم... هي لا تعلم أنّكَ آتٍ فسيكون ذلك بمثابة مفاجأة لها... سأدخلكَ إلى البيت مِن باب المطبخ وستذهب فوراً إلى غرفتها." وقَبِلَ مازن لأنّه لم يرَ مانعاً لذلك طالما كانت أمّ حبيبته تطلب منه ذلك.

وفي اليوم المذكور طلبَت منّي أمّي أن أتحضّر في غرفتي لمجيء الخيّاطة وأن أخلع ثيابي وأبقى في ملابسي الداخليّة فقط وأنّها ستدخل المرأة بنفسها. وجاء مازن وقرَعَ بلطف على باب المدخل ففتحتُ له أمّي وإصطحَبته إلى غرفتي وأقفلَت الباب وراءها وركضَت تنادي أبي صارخة: "أسرع وأنظر إلى الفضيحة التي تحصل في بيتكَ!" أمّا أنا فتفاجأتُ برؤية مازن في الغرفة وهو تلبّكَ حين رآني في ملابسي الداخليّة ولكن لم يتسنّى لنا أن نفهم ما يجري لأنّ أبي دخلَ فجأة وبدأ يشتم مازن ويهدّده وأمّي تردّد: "كيف دخَلَ إلى الغرفة؟ وهل يحصل ذلك لأوّل مرّة أم أنّه يأتي دائماً؟؟؟".

وطردَ والدي مازن وهدّده بالقتل إن عادَ مرّة أخرى. وبالرغم مِن محاولة حبيبي لشرح ظروف قدومه فلم يسمع أحد ما كان يقول بسبب صراخ والدَيّ. وبعد أن خرجَ مازن أقنعَت أمّي أبي بوجوب إلغاء كل شيء لأنّ مازن هو إنسان وقح لا يحترم أحداً تماماً ثل أمّه. وأخبَرَ مازن والدَيه بالذي حصل له فرأى الجميع أنّه لا يجب أن يرتبط إبنهما بهكذا عائلة مختلّة. حاولتُ التفاهم مع حبيبي ولكنّه قال لي قبل أن يطلب منّي عدم إزعاجه بعد ذلك:

 

ـ لا أريد هكذا حماة... لقد خدعَتني وسَبَّبَت لي الشتائم والعار... هنيئاً لكِ بها.

 

وعندما علِمتُ بما فعَلَته أمّي أصبتُ بالذهول فكيف يقدم أحد على ذلك؟ أليس لديها أي إعتبار لشعور الآخرين؟ ولأنّ مازن قرّرَ العودة إلى المهجر لم أعد أهتمّ لشيء فحين قرّرَت أمّي تزويجي لشاب آخر لم أمانع. وكيف لي أن أبدي رأيي بعدما علِمتُ إلى أيّ مدى قد تصل أمّي لتنفيذ رغباتها؟ وتزوّجتُ على مضد مع رجل لا أحبّه ولا يحبّني وحياتي اليوم مصبوغة بالتعاسة والحزن. أحاول جهدي ألاّ أحمل منه متأملّة أن أستطيع تركه أو إقناعه على تركي لأنّني أعلم أنّه أيضاً غير سعيد معي.

والشيء الوحيد الذي إستطعتُ فعله بعد وقوع مصيبتي هو قطع علاقتي مع والدتي والإبتعاد عنها قدر المستطاع. وسمَحتُ فقط لأبي أن يتواصل معي وكلمّا تكلّمنا سويّاً يعتذر عمّا فعلَه بي شارحاً أنّه لم يكن يعلم مدى شرّ أمّي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button