"أهدَتني" أمي لِعمتي!

لحظة ماتَت عمّتي، شعرتُ حقًّا أنّني يتيم الأمّ لأنّها مَن ربَّتني منذ ولادتي. فالحقيقة أنّ أمّي "أهدَتني" لها لأنّني جئتُ إلى الدنيا "بالخطأ" وبعد ستّة أولاد. وبما أنّ عمّتي كانت عاقر، فلقد تمّ الوفاق على ما أسمَيتُه "الصفقة". في ذلك الوقت، كلّ ما كنتُ أُمثّله بالنسبة لأمّي كان فَمًا اضافيًّا للإطعام وتعَبًا كانت بِغنى عنه. وبالنسبة لعمّتي، كنتُ تحقيقًا لحلم تصوّرَته مُستحيلاً. وكَي لا أنفصِل كُليًّا عن عائلتي الاساسيّة، إنتقلَت أخت أبي مع زوجها للعَيش في الشقّة المُقابِلة لشقّة أهلي. مُبادرة حسنة لكن لا فائدة منها، لأنّني اعتدتُ بسرعة على غرفتي التي لَم أُشارِكها مع أحد وعلى الهدوء الذي يسودُ عند عمّتي.

وهكذا إبتعدتُ شيئًا فشيئًا عن عائلتي. وهم أيضًا لَم يكترثوا لي، خاصّة والدتي التي أكملَت حياتها بتربية أخوَتي وكأنّني لَم أخرُج مِن بطنها قط. وحصَلَ مرارًا أن التقَيتُ بها في المبنى أو أمام الشقّة وتبادَلنا التحيّة وكأنّنا مُجرّد جيران.

أعطَتني عمّتي الحنان الذي تملكُه كلّ امرأة حُرِمَت مِن الانجاب، ولن أكون مُمتنًّا لها كفاية حتى آخر حياتي. فهي أيضًا قامَت بتلقيني أسسًا قويّة ومعرفة عميقة، لأنّها كانت تهوى القراءة والثقافة. زوجها كان رجُلاً طيّبًا وكريمًا، ولَم يُشعرِني يومًا بأنّني لستُ ابنه الحقيقيّ. وهكذا عشتُ سنوات جميلة وهنيئة.

 

توفّيَ زوج عمّتي بسبب مرَض أخذَه بسرعة وبكيتُه كثيرًا، وأتذكّر أنّني قلتُ لنفسي إنّ كان يجدرُ بالله أن يأخذ أبي الفعليّ بدلاً منه. كنتُ صغيرًا آنذاك، فاعذروني على تلك الأفكار. تابعَت عمّتي تربيتي لوحدها، بالرغم مِن الضيقة الماليّة التي خلّفَها موت زوجها. هي حرَمَت نفسها مِن أشياء كثيرة مِن أجلي، ووعدتُها مرارًا أنّ يومًا سيأتي ويحينُ دوري للاعتناء بها مِن كلّ الجوانب.

دخلتُ الجامعة وتخصّصتُ ونِلتُ شهادتي، واحتفلتُ وعمّتي بالذهاب إلى المطعم، الأمر الذي لَم يعُد يحصل منذ زمَن بعيد بسبب ضيق المال. صحيح أنّني وجدتُ عمَلاً أثناء سنوات دراستي الجامعيّة، إلا أنّه كان بسيطًا وبالكاد يُغطّي مصاريف ملابسي وحاجاتي الخاصّة. لكنّه كان كافيًّا لإراحة عمّتي بعض الشيء، التي كانت تصرفُ عليّ مِن معاش زوجها الراحل.

تمكّنتُ بعد تخرّجي مِن إيجاد عمَل أفضل، وكلّ ما فكّرتُ فيه هو كيفيّة إسعاد عمّتي وتأمين لها كلّ سبُل الراحة، إذ أنّها صارَت تعِبة وتشكو مِن أوجاع عديدة. لكن بالرغم مِن انتباهي لها وأخذها إلى شتّى الأطبّاء وإجراء الفحوصات لها اللازمة، فقد توفّيَت المسكينة ذات ليلة أثناء نومها. هي كانت قد كتبَت الشقّة باسمي لكثرة حبّها لي.

لن أجِدَ الكلمات المُناسبة لوصف حزني عليها وضياعي مِن دونها. فبالرغم مِن أنّني عشتُ معها طوال سنواتي ونادَيتُها "ماما"، كنتُ أعي أنّها ليست أمّي وأنّ مُعاملتها وحبّها لي نابعان مِن عاطفة لا مثيل لها. عاطفة لن أجِدها في مكان آخر... خاصّة عند أمّي الحقيقيّة!

فتلك المرأة، هكذا أُسمّيها وليس "ماما"، قد وجدَت بموت عمّتي فرصة لتستفيد منّي، بدون أن تكون قد مرَّت بعناء تربيَتي أو الاهتمام بي على الاطلاق، وذلك بحجة الأمومة! تصوّروا وقاحتها! فأوّل شيء فعلَته، هو أن تدقّ باب شقّتي لتطلُبَ منّي استقبال اثنَين مِن اخوَتي الأصغر سنًّا بين باقي أولادها، بحجّة أنّهما كبرا ولَم يعُد هناك ما يكفي مِن مساحة ليشعرا بالراحة، وأنّ شقّتي باتَت كبيرة لشخص واحد. وجدتُ صعوبة بالرفض، ففي آخر المطاف هذان الشابّان كانا مِن لحمي ودمي، فقبلتُ أن أُعطيهما إحدى غرَف النوم شرط ألا أشعُرَ كثيرًا بوجودهما، إذ أنّني أعودُ مِن عملي مُنهكًا وأحتاج إلى الراحة والهدوء. ولأّوّل مرّة منذ ولادتي، قبّلَتني هذه المرأة. لَم أشعرُ شيئًا على الاطلاق، فكان مِن الواضح أنّ هذه القُبلة ليست نابعة مِن عاطفة أمّ لولدها بل فقط كانت تعبيرًا عن الفرَح.

 

لَم يُزعجِني وجود أخوَيّ معي، لأنّهما تصرّفا بِلياقة وهدوء. وأعترفُ أنّ مودّة وُلِدَت بيننا عبر الأشهر ووصَلَ الأمر بي أن أفرَح لدى رؤيتهما في شقّتي عند رجوعي مِن العمَل. كانا أكبر منّي سنًّا بقليل، لِذا اتّفقنا حول مواضيع عدّة. أمّا في ما يخص باقي أخوَتي وأخواتي، فلَم أرَهم أو أسمع منهم حتى ذلك الحين، لأنّهم كانوا قد تزوّجوا جميعًا.

وتقرّبي مِن أخوَتي سمَحَ لهما بإخباري العديد مِن الأمور التي تتعلّق بأبوَيّ الحقيقيّيَن، خاصّة التي تُسمّي نفسها أمّي. فهي كانت قاسية للغاية مع جميع أولادها، وتتكلّم سوءًا عن عمّتي وعنّي، مُستعملة عبارة "تلك البشعة وذلك الأهبَل". أسِفتُ لدى سماعي ذلك لكن ليس كثيرًا أو كفاية لأغضب منها.

بعد فترة، دقَّت أمّي البيولوجيّة بابي باكيةً، لتُخبرَني أنّ مالِك شقّتهم طردَها وزوجها، فهما لَم يكونا يملكان العقار، وليس هناك مِن مكان جاهز للسكن. هي طلبَت منّي أن استقبلهما ريثما يجدون شقّة جديدة. لَم أكن لأقبَل لولا أخوَيَّ اللذَين انضمّا لتوسّلات أمّهما. لَم أشأ إزعالهما، فتذكّروا أنّني ربيتُ ولدًا وحيدًا وفكرة ايجاد أخَين، حتى لو بعد فترة طويلة، كانت تبعثُ الدفء في قلبي.

وهكذا جاءَت تلك المرأة وزوجها وأمتعتهما إلى شقّتي لفترة قيل لي إنّها قصيرة. لَم أتوقّع شيئًا مِن أمّي المزعومة أو ذلك الذي يحملُ لقَب أب، لكنّهما بالفعل عملا جهدهما لِعدَم إزعاجي بل خدمتي بأفضل طريقة: بالطهو والتنظيف وإصلاح الأعطال وجَلب الحاجيات إلى البيت. ولفترة قصيرة، خلتُ نفسي حقًّا أعيشُ وسط عائلتي. لكن كان يجدرُ بي معرفة هؤلاء الناس بطريقة أفضل، وعدَم إيهام نفسي بأنّ عاطفتهما الأبويّة صحَت فجأة في قلبَيهما. ففي آخر المطاف، كنتُ مُجرّد ابن الأخت أو ابن العمّة وليس ابنهما، حتى لو أنّ العِلم والبيولوجيا يقولان عكس ذلك.

 

بدأتُ أواعد صبيّة جميلة كانت زميلتي في العمَل وقرّرنا بسرعة الزواج، فكنّا نعرفُ بعضنا جيّدًا بعدما قضَينا بضع سنوات سويًّا في الشركة. لِذا اضطرِرتُ لإخبار سكّان شقّتي أنّ عليهم الرحيل، كي يتسنّى لعروستي المُستقبليّة تزيين المكان على ذوقها ولاحقًا العَيش معي فيها. قبِلَ القوم معي بسرعة فكلّهم تفهّموا الوضع برحابة صدر ودعوا لي بالتوفيق.

وبحماس ندِمتُ عليه لاحقًا، جلبتُ حبيبتي إلى الشقّة ليتعرّف عليها الجميع وقضَينا وقتًا مُمتعًا. هي كانت تعرفُ قصّتي بحذافيرها، وفرِحَت لدى رؤية التناغم بيني وبين عائلتي الحقيقيّة. إضافة إلى ذلك، هي استطاعَت إيجاد شقّة أخرى لهم بواسطة عمّها الذي يعمَل في مجال العقارات. أيّ بكلمة، كلّ شيء كان يجري على أفضل حال...

... إلى أن تركَتني فجأة خطيبتي مِن دون تفسير! حاولتُ معرفة سبَب قرارها المُفاجئ، لكنّها بقيَت تُردّد: "لا تحرِجني أرجوك، فأنتَ تعرفُ السبب". وبعد أيّام معدودة، هي تركَت الشركة ولَم تعُد تردّ على اتّصالاتي. أنا مُتأكّد مِن أنّ القارئ فهِمَ أنّ لهؤلاء القوم دخلاً بالذي حصَلَ، إلا أنّني لَم أتصوّر أنّ بإمكان أحَد فعل ذلك على الاطلاق. قد أكون ساذجًا بعض الشيء وعطَشي للحياة العائليّة أعمى بصيرتي.

واسَتني التي تُسمّى أمّي، مؤكِّدة لي أنّ خطيبتي صبيّة ذات مزاج مُتقلِّب وأنّني بأفضَل حال مِن دونها. وأنا صدّقتُها، فلَم يكن هناك مِن تفسير آخَر. شكرتُ ربّي أنّني لا أعيشُ في تلك الفترة لوحدي، فتصوّروا حالتي لو أنّ لَم يكن هناك مِن أحد إلى جانبي آنذاك.

ومع الوقت، صدّقتُ أنّ حياتي عادَت إلى مسارها الطبيعيّ، أيّ أنّ القدَر أعادَ لي العائلة التي كان مِن المُقرّر منذ البدء أن أكون فردًا منها، ولَم أعُد أفكّر بخطيبتي أو بالارتباط على الإطلاق. حتى ذكرى عمّتي باتَ بعيدًا عنّي، مع أنّني لَم أنسَ يومًا فضلها عليّ، لكنّني اقتنعتُ أخيرًا أنّها كانت فقط أخت أبي.

 

وذات يوم، وحين عدتُ مساء مِن عملي، وجدتُ البيت... فارغًا! ليس فقط مِن سكّانه الأربعة، بل مِن كلّ شيء! وأعني بالفعل كلّ شيء! فلَم يتبقَّ هناك سوى الجدران والسقف والأرض. إختفى الأثاث والملابس وما هو أهمّ، كل مُدخّراتي وأغراضي الثمينة. أمسكتُ هاتفي لطلَب الشرطة ظنًّا منّي أنّ لصوصًا أتوا وسرقوا الشقّة، إلا أنّني استوعَبتُ أنّ عائلتي هي مَن سرقَني. جلستُ أرضًا مذعورًا أمام فظاعة الحدَث وأخذتُ أُفكّر بالذي عليّ فعله.

إتّصلتُ بأخوَيّ لكنّهما لَم يُجيبا، لِذا خابرتُ الشرطة التي أتَت لتفحّص المكان. وقدّمتُ بلاغًا بعائلتي بعد أن شرحتُ للمُحقّق نوعيّة علاقتي بهؤلاء الناس، وهو نظَرَ إليّ بتعجّب قبل أن يقول لي:

 

- أعذرني سيّدي... لكن... كيف لكَ أن تُصدّق هكذا أشخاصًا وتُسكِنُهم شقّتكَ بعد كلّ الذي فعلوه بكَ؟ على كلّ الأحوال، القضيّة واضحة تمامًا.

 

جلبَت الشرطة كلّ أفراد عائلتي بعد بَحث لَم يدُم طويلاً، وتمَّت المواجهة بيني وبينهم. أنّبتُ كثيرًا أخوَيّ ورأيتُ كيف أنّهما خجِلا كثيرًا، وفهمتُ أنّ أمّهما هي التي حثّتهما على الاشتراك بالسرقة. أمّا بالنسبة لها، فهذا ما قالَته للمُحقّق عندما سألَها كيف لها أن تنهب ابنها:

 

ـ هذا؟ هو ليس ابني. صحيح أنّني والدتُه لكنّني لَم أرِده منذ ما تكوّنَ في بطني. أحشائي رفضَته وجسدي بصقَه خارجًا واستدارَت عَينايَ عنه ساعة وُلِدَ. وما هو أفظَع، أنّه كبُرَ ليتمتّع بالأفضل ويعيشُ حياة مُريحة على عكس أولادي! ثمّ ورِثَ شقّة مِن دون تعَب ولدَيه عمَل جيّدًا. تصوّر سيّدي أنّ ذلك المخلوق ينعَم بكلّ ذلك لوحده! ألسنا نحن أحقّ منه بما لدَيه!

 

لَم يعرِف المُحقّق إن كانت تلك المرأة ماكرة وحقودة إلى حدّ لا يوصَف أم أنّها مجنونة، إلا أنّه اشمأزّ منها إلى أقصى درجة. زوجها بقيَ صامتًا وحزينًا وكذلك ولداها، ما دلّ على أنّها هي التي تُحرّض وتأمر وتنهي. أعادوا لي كلّ مُمتلكاتي التي كانت موضوعة في مُستودع، وتنازلتُ عن بلاغي ضدّ الزوج والولدَين لكن ليس ضدّ المرأة، لأنّها قالَت لي في مكتب المُحقّق حين سألتُها إن كان لها دخل في ترك حبيبتي لي:

 

ـ تلك الفتاة هي بالفعل بسذاجتكَ! قلتُ لها بضع كلمات وهي صدّقَتها في الحال! كنّا في المطبخ نُحضّر القهوة يوم جلبتَها لتتعرّف إلينا، فطلَبتُ منها رقم هاتفها. بعد أيّام، أخبرتُها بأنّني أعطيتُكَ لعمّتكَ بعد أن اكتشفتُ أنّ لدَيكَ عَيبًا خلُقيًّا في أعضائكَ التناسليّة، أيّ أنّكَ لست تمامًا ولدًا ولست بنتًا أيضًا. وأكّدتُ لها أنّكَ لَم تستطِع حتى الآن إصلاح ذلك الخطأ، الذي يمنعُكَ مِن الانجاب، ناهيك عن القيام بواجباتكَ الزوجيّة. هي استمعَت لي وصدّقَتني، بعد أن أكّدتُ لها أنّني أفشي سرّكَ لأنّني اعتبَرتُها مثل ابنتي ولا أُريدُ غشّها.

 

تصوّروا دهشتي واشمئزازي لدى سماعي ذلك! دخلَت تلك المرأة السجن لفترة قصيرة، ثمّ اختفَت وعائلتها ولَم أسمَع مِن أيّ منهم بعد ذلك. لَم أحاوِل استعادة خطيبتي لأنّها صدّقَت بسرعة وسهولة قصّة التشويه الخُلقي، وقضَت بلحظة على حبّنا وآمالنا مِن دون أن تستفسِر منّي. إلا أنّني أخبرتُها، بواسطة صديق مُشترَك، ما فعلَت عائلتي بي وبشقّتي. قيل لي إنّها تُريدُ التكلّم معي لكنّني رفضتُ ذلك.

 

لزِمَني وقت طويل لاستيعاب كلّ تلك الأحداث وتقبّل أمر مُهمّ: عمّتي هي بالفعل أمّي، ولَم يكن لي يومًا أمٌّ سواها ولن يكون لي أمٌّ سواها. رحمكِ الله يا ملاكي وشكرًا على حبّكِ وحنانكِ وتفانيكِ لي غير المشروط. أنا مُدينٌ لكِ حتى آخر يوم في حياتي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button