أهداني زوجي ولداً

أحياناً علينا القبول بما خصّصه لنا القدر حتى لو يعني ذلك الحرمان مِن أشياء بديهيّة موجودة عند الآخرين. فإصرارنا قد يوصلنا إلى أماكن ومواقف أبشع بكثير مِن الذي كنّا فيه والرجوع إلى الوراء يكون مستحيلاً. ولقد تعلّمتُ الدرس ودفعنا جميع الثمن.

منذ ما كنتُ صغيرة وأنا أحلم بأن يكون لديّ عائلة خاصة بي وكنتُ ألعب كسائر الفتيات بالعروسة وأطعمها وألبسها وأغنّي لها لِتنام. وحبّي للأولاد كبِرَ فيّ لِدرجة أنّني أخترتُ لاحقاً أن أصبح مدرّسة في دار حضانة لأكون محاطة بالصغار. وإنتظرتُ بفارغ الصبر أن أجد الزوج الذي سأنجب منه أجمل صبّي أو فتاة في العالم. وعندما وجدتُ فارس أحلامي لم يعد لي سوى أن أنجب. ولكنّ الأمر بدا صعباً فبعد مرور السنة لم أستطع ورغم محاولاتنا العديدة أن أحمل. وبالطبع ذهبنا أنا وزوجي عند الطبيب وخضعنا لفحوصات عديدة ولم يجدوا فينا أي مشكلة فطُلِب منّي أن أصبر وألاّ أدَع الموضوع يؤثّر على حياتي. ولكنّني بقيتُ أفتّش عن تفسير منطقيّ في كل مكان: على الإنترنت وعند أصدقاء لنا وأفراد العائلتَين لأنّني كنتُ أريد أن أعلم لماذا لستُ قادرة على الإنجاب.

ومرّت السنة الثانية ومِن ثمّ الثالثة دون نتيجة وأصبحَت معنويّاتي متدنيّة جداً ناهيك عن أخلاقي التي صارَت ضيقّة لِدرجة أنّني كنتُ تارة أصرخ على الجميع وتارة أخرى أغرق في حالات يأس صامت. حاولَ زوجي أن يموّه عنّي بإصتحابي إلى أماكن جميلة وإقناعي بأنّه لا يبالي إن كان لدينا أولاداً أم لا ولكن ذلك لم يعطِ أي نتيجة. ويوم عيد زواجنا الخامس قال لي زوجي:

 

ـ لديّ هديّة لكِ... هذا إن كنتِ ستقبلينها طبعاً لأنّها خاصة وغير إعتياديّة...

 

ـ وما هي... هيّا تكلّم!

 


ـ تعرفين جميلة... خادمة عائلة أخي...

 

ـ أجل... ما بها؟

 

ـ لقد إقترفَت خطأً مع أحد العماّل الذين يبنون منزلاً قربهم وحمِلَت منه ولكنّ الوغد فرّ إلى بلده عندما علِمَ أنّه سيُجبَر على الزواج منها.

 

ـ وما دخل هدّيتي بالأمر؟

 

ـ ستعطينا جميلة جنينها.

 

ـ ماذا؟؟؟

 

ـ لا تجيبي الآن... فكرّي في الموضوع... قلتُ لكِ أنّني لا أبالي إن أنجبنا أم لا ولكنّني لم أعد أتحمّل رؤيتكِ هكذا... إن أخذنا الطفل بعد ولادته سيكون لنا إبناً أم بنتاً وسنجنِّب للمسكينة عاراً كبيراً... لا تقولي شيئاً أرجوكِ... فكرّي مليّاً.

 

والحقيقة أنّني لم أتصوّر يوماً أن يحدث هذا مع أنّني فكرّتُ في التبّني ولكنّ عبر مؤسّسة تُعنى بالأيتام ولكنّني عدلتُ عن ذلك بسبب تعقيد وطول المعاملات. والآن أتى لي زوجي بهذا الحلّ ولم أكن جاهزة بعد للتفكير به.

ومرَّت الأيّام والأشهر وبدأ بطن جميلة يكبر ولازمَت منزل أخ زوجي لكي لا يراها أحد وبات الموضوع ملحّ جداً وكان عليّ أخذ قراراً نهائيّاً. ولأنّني كنتُ مهووسة بفكرة الأولاد قبِلتُ أخيراً أن آخذ الطفل مِن تلك المسكينة وأربّيَه وكأنّه منّي. وحين أخبرتُ زوجي بذلك ركضَ ليزفّ الخبر لِجميلة. وإنتظرنا بفارغ الصبر يوم الولادة بعدما حضّرنا غرفة الطفل ولباسه وألعابه. وجاء حامد إلى الدنيا وسط فرحة كل مَن كان له علاقة بالموضوع. وحين حان الوقت أن يُسجَّل الطفل قال لي زوجي أنّه سيضعه بإسمه لكي لا يكون حامد مِن دون أب معروف ويؤثّر ذلك على حياته المستقبلّة وأنّ جميلة ستبقى أمّه لأنّ ذلك هو شرطها ولأنّ معاملات التبّني ستكون طويلة وشاقة. ولكي نتأكدّ مِن أنّ جميلة لن تتدخّل بتربية طفلها جعلناها توقّع على أوراق تسمح لنا فيها أن نمارس حقوق الأهل عليه وبالمقابل سيتسنّى لها طبعاً أن ترى إبنها حين تشاء. ولكنّ المرأة وبعد أن وضعَت إمضاءها على المستندات المذكورة فضّلَت الرحيل عند أقارب لها خارج الحدود.

وهكذا أصبحَ لنا ولداً وبالرغم أنّه لم يكنّ منّي أو مِن زوجي فإعتبرناه مِن لحمنا ودمنا وأعطيناه حبّنا اللامتفاني وأقصى إهتمامنا وحظيَ الولد بحياة جميلة محاطاً بأناس يحبّونه ويعطونه كل ما يتمنّاه. وعندما كبِرَ قلنا له أنّه ليس إبننا بل قمنا بتبّنيه لأنّ لا بدّ له أن يعلم ذلك يوماً. فعلنا ذلك بعد أن إستشرنا طبيباً نفسيّاً لكي لا يؤثّر ذلك على معنويّاته أو علاقته بنا. وجَرَت الأمور بسلاسة وتابعنا حياتنا بجوّ سليم للجميع. ولكنّ حامد بقيَ يفكّر بوالدَه الحقيقيَّين وإنتظرَ حتى أن أصبحَ في سنّ الرشد ليبحث عنهما فخلال كل تلك السنوات لم تسأل جميلة عنه ولو مرّة واحدة وكان يودّ التعرَف إليها.

 


فجاء إليّ وأخبرَني بنيّته وشعرتُ بالحزن لأنّ رغم كل شيء لم أكن أمّه بل التي ربتّه وكنتُ أعلم أنّ يوم سيأتي ويحصل ذلك. فأعطيتُه عنوان جميلة ولكنّني لم أكن أعلم مكان تواجد أبيه الذي غاب عن الأنظار فور معرفته بِحمل الذي عاشرها فترة قصيرة. وإتصل حامد بالرقم الذي حصل عليه ومِن ثمّ حضّرَ حقيبة صغيرة وقال لنا أنّه ذاهب ليقابل أمّه البيولوجيّة.

حاولَ زوجي تغيير رأيه لأنّه إعتبره يافعاً لهكذا سفر ومواجهة وعرضَ عليه أن يرافقه ولكنّ ولدنا بقيَ مصّراً على أن يفعل ذلك لوحده. ورحَلَ بعد أن أكّدَ لي أنّني سأبقى أمّه وأنّ لاشيء يمكنه أن يغيّر شعوره تجاهي. بكيتُ كثيراً ولكنّني تمنّيتُ له التوفيق. وإنتظرتُ عودته بفارغ الصبر وبخوف شديد. ورجعَ حامد بعد أسبوعَين أمضاهما مع أمّه وأقاربها وبالرغم أنّه بدا سعيداً لاحظتُ حزناً عميقاً في عينَيه. ولكن وبالرغم مِن أسئلتي العديدة بقيَ يصرّ أنّ كل شيء جرى مع أمّه كما يجب.

وفي ذاك يوم دخلتُ غرفته وجلستُ على سريره وسألتُه عمّا يسبّب له كل ذلك الحزن وقلتُ له أنّني قادرة على سماع أيّ شيء منه وأنّني ربيّته على الصدق والشفافيّة التامة. عندها إنهالَت الدموع على خدَّيه وقال :

 

ـ لا أريد أن أؤذيكِ يا أمّي...

 

ـ لن تؤذيني إلاّ إذا بقيتَ صامتاً... ما الأمر يا حبيبي؟ ما الذي قالَته لكَ جميلة؟ أعرفكَ أكثر مّما تعرف نفسكَ... هيّا... تكلّم!

 

ـ حسناً... علِمتُ أنّ أبي الحقيقي هو أبي الحالي...

 

ـ هذا لأنّه وضعَ إسمه على أوراق الولادة لكي لا تبقى بلا أب وتلقّب باللقيط...

 

ـ كلا يا أمّي... هو فعلاً والدي!

 

ـ ماذا؟ لم أفهم قصدكَ...

 

ـ ماما جميلة أخبرَتني بالذي حصلَ لها فعلاً... لم تحمل بي مِن عامل بل مِن زوجكِ...

 

ـ ولماذا يحصل ذلك؟ وكيف؟ ومتى؟

 

ـ قصَدَ أبي جميلة وعرَضَ عليها أن تحمل منه مقابل مبلغاً كبيراً مِن المال وإختلقا قصّة العشيق الذي هرَبَ إلى جهّة مجهولة... فعَلَ ذلك مِن أجلكِ لأنّكِ كنتِ في حالة يأس عميق... وحين ولِدتُ أجبرَها أبي على توقيع على تنازل تام عنّي وعلى وعد بالكتمان وأعطاها المال وبعثَها بعيداً وعاشَت المسكينة مِن دون أن تجرؤ على رؤيتي خوفاً مِن العقوبات... ولكن عندما ذهبتُ إليها لم تعد قادرة على السكوت فرَوَت لي ما جرى.

 

ـ قد تكون تكذِب...

 

ـ لا... على كل حال يمكنكِ التأكّد مِن صحّة الخبر عند صاحب الشأن... أبي.

 

لم أكن بحاجة لأن أسأله لأنّني علمتُ بقرارة نفسي وبِمجرّد ربط الأحداث بِبعضها أنّها الحقيقة وطلبتُ مِن حامد ألا يخبِر أباه أنّ الأمور إنكشفَت لأنّني كنتُ أعلَم أنّ ذلك سيغيّر أشياء كثيرة بيننا جميعاً وأنّنا لن نذق طعم السعادة بعد ذلك. ولكن وبالرغم أنّ ما فعلَه زوجي كان لإسعادي لم أتقبّل أنّه عاشرَ امرأة أخرى وجعلَها تتنازل عن ولدها وأبعدَها عنه وأخفى كل ذلك عنّا طوال سنين. لذا قرّرتُ أن أصلحَ البعض مِن أضرار تلك الكذبة الكبيرة فطلَبتُ مِن زوجي أن نأتي بِجميلة للعيش قربنا ليتمكّن إبننا مِن رؤية أمّه قدر ما يشاء. وبالطبع رفضَ في البدء ولكنّني بقيتُ أصرّ حتى أن لانَ أخيراً.

وقبل أن تأتي جميلة ببضعة أيّام طلبَ منّي زوجي أن نتكلّم لأنّه لديه أشياء مهمّة يريد إخباري بها ولكنّني أجبتُه: "أعرف كل ما ستقوله... ولا أريد أن نتكلّم به... كل ما يهمّني هو سعادة إبني... نعم هو إبني ولن يغيّر شيء ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button