أنقذَت زوجة أبي حياتنا

يُروى دائماً أن زوجة الأب هي مخلوقة شريّرة هدفها الوحيد هو أبعاد أولاد زوجها أو تعذيبهم. وكنتُ أعتقد ذلك أنا أيضاً، فأرتعبتُ حين أخبرنا أبونا أنّه ينوي الزواج مجدّداً بعدما فارقَت أمّي الحياة.

كان قد مرّ أقل مِن سنة على وفاتها بعد مرض عضال وإستغربتُ كثيراً أنّه نسيَ شريكة حياته بهذه السرعة. وأتذكّر أنّني تكلّمتُ بالموضوع مع ناجي أخي الصغير الذي لم يرَ أيّ غرابة في الأمر ربمّا لأنّه لا يزال يافعاً. أمّا أنا فكنتُ قد بلغتُ الرابعة عشر وكنتُ بدأتُ أفهم بأمور الغرام خاصة بعدما أستقطبَ زميل لي كل إنتباهي وتفكيري. وسألتُ نفسي متى تسنّى لأبي الوقت لِيتعرّف على تلك السيّدة والوقوع بِحبّها والتفكير في الزواج منها. وأستنتجتُ طبعاً أن علاقتهما بدأَت قبل أن تموت والدتي فإنتابَني غضب كبير وقرّرتُ أنّني لن أسامح هؤلاء الإثنَين على التآمر وراء ظهر إمرأة مريضة.

وبدأَت ثورتي يوم جاءَت عايدة إلى بيتنا للتعرّف علينا فلم أتردّد على أفهامها بأنّها ليست ولن تكون سيّدة المنزل. وتصرّفي الفاظ لم يؤثّر بها بل بقِيَت هادئة وحتى وصَلَت وقاحتها إلى أن تبتسم لي بِكل محبّة. حينها أدركتُ أنّني أمام إنسانة ذات تصميم قويّ وأنّ عليّ إيجاد الطريقة المناسبة لإفشال مخطّطتها.

وأخذتُ أخي جانباً وقلتُ له أنّ عايدة ستقنع أبي بأن يرسلنا إلى مدرسة داخليّة وأنّ علينا استباق الأمر. ومِن كثرة كلامي عنها بدأ هو الآخر يكره عايدة مع أنّه أحبّها كثيراً حين رآها.

وتمّ الزفاف وجاءَت زوجة أبي لِتعيش معنا وكنتُ قد حضرّتُ لها بضعة مفاجآت. كنتُ قد وضعتُ حيّة بلاستيكيّة في سريرها والملح بدل السكر في قهوتها أي أموراً ولاديّة لم تترك أيّ أثر فيها. وتوقّعتُ طبعاً أن تشكيني لأبي ولكنّها لم تفعل ورددتُ الأمر إلى مكرها العميق ظانة أنّها تستعمل هذه الأمور في حين آخر.

 

ولكنّ عايدة كانت أمرأة ناضجة ومحبّة وفهمَت أرباكنا وخوفنا منها على مصيرنا وأبتعدَت عن أي مواجهة مِن شأنها أن تحدث تشنّجاً في العائلة.

مِن جانبه تابعَ أبي حياته وكأنّ لا شيء تغيّر وكأنّ زوجته الجديدة هي أمّي ونحن أولادها. ولِكثرة انزعاجي مِن زواج أبي تدَنّت علاماتي في المدرسة وطلبَت المديرة أن ترى أحد والِدَيّ. ولأنّ أبي كان دائم الانشغال ذهبَت عايدة لِتقابل مدرّساتي ما أثار جنوني. وعندما كنّا عائدتَين مِن المدرسة قلتُ لها في السيّارة:

 


ـ أتدركين أنّكِ لستِ أميّ؟

 

ـ أجل يا سهام... أعرف ذلك.

 

ـ حسناً... لأنّكِ لن تصبحي يوماً مثلها... كانت إمرأة عظيمة أمّا أنتِ...

 

ـ أنا إمرأة عاديّة... أعلم ذلك أيضاً... ولكنّكِ تدركين أنّني أكبر منكِ سنّاً أليس كذِلك؟

 

ـ أجل.

 

ـ إذاً عليكِ أحترامي... ليس بِمقدوري أن أجبركِ على حبّي ولكنّني لن أقبل بأن تقلّلي مِن أحترامي... أفهمتِ؟

 

ـ أجل... ولكن...

 

ـ أسمعي يا سهام... أحبّ أباكِ وأحبّكما أنتِ وناجي... لا أنتظر منكِ أن تحبّيني على الأقل ليس الآن... أريد فقط أن نعيش كلنّا في سلام... هل هذا ممكن؟

 

ـ أجل.

 

ورغم حديثنا هذا لم أقتنع بِحسن نيّتها بل شككتُ بِكلامها المعسول وقرّرتُ أن أراقبها عن كثب بإنتظار ظهور شخصيّتها الحقيقيّة.

وفي كل ليلة كنتُ أصليّ لأمّي وأشكو لها مِن وجود تلك الدخيلة وأطلب منها أن ترعانا مِن حيث هي. ولكنّني لم أكن أعرف حينها أنّ والدتي كانت ستحمينا بِواسطة التي أخَذَت مكانها. وأستطيع القول اليوم أنّني وأخي على قيد الحياة بِفضل عايدة وحدها.

فبعد حديثي مع عايدة بأسبوعَين أخبرنا أبي أنّه مسافر إلى ألمانيا لِحضور مؤتمراً هاماً يتعلّق بِعمله وأنّه سيمكث هناك بضعة أيّام.

وسكنَني الهم لأنّنا كنّا سنبقى لوحدنا مع زوجته وستتمكنّ مِن الإنفراد بنا وتفعل ما تشاء مِن دون أن يكون هناك مَن يردعها. لِذا حضّرتُ أخي للأمر ونبّهتُه بألاّ يبقى بِمفرده معها بل أن يحاول التواجد دائماً معي أو أن يظل في غرفته ويوصد باب الغرفة جيّداً. وأعطَيته المفتاح وأوصَيتُه بأن يبقيه معه. فعلتُ ذلك لأتمكّن مِن حمايته في حال قرّرَت عايدة إيذاءه.

ومرّ اليوم الأوّل مِن دون مشاكل فتحضّرتُ جيّداً لِما قد يحصل لاحقاً. وفي اليوم الثالث على رحيل أبي وبينما كنّا كلنّا في البيت مساءً جاء لِعايدة اتصال مِن أمّها تطلب منها المجيء إليها بسرعة لأنّها شعرَت بِدوخة قويّة. وأوصَتنا زوجة أبي بأن نبقى في البيت وأن ننتبه لِبعضنا بعدما وعَدَتنا بأنّها لن تتأخرّ في العودة. ورحَلَت مِن المنزل وفرحنا لِدرجة أنّ أخي قرّرَ أشعال مفرقعات في غرفته بالرغم أنّه كان يعلم أنّ ذلك ممنوع وخطر. ولكي لا أمنعه مِن اللعب أقفل باب غرفته بالمفتاح. وسمعتُ أصواتاً خلتُها رصاص مسدّس وركضتُ لأرى مِن أين صَدَر هذا الصوت القويّ. فخرجتُ مِن البيت أمشي في الشارع ولكنّني لم أرَ شيئاً أو أحداً.

 


وبعد حوالي العشر دقائق عدتُ إلى البيت. وأذا بي أرى دخاناً كثيفاً يخرج مِن تحت باب ناجي. ونادًيتُه ولكنّه لم يجب فحاولتُ فتح الباب وبالطبع لم أستطع لأنّه كان مقفلاً. وبدأتُ بالصراخ والضرب على الباب بِقوّة وحاولتُ حتى خلعه ولكنّني لم أقدر. وتعالَت الدخنة وملأت المنزل وأُغمي عليّ أيضاً. وحين فتحتُ عينيّ وجدتُ نفسي على سرير مستشفى وبِقربي عايدة تنظر إليّ بِحنان. ثمّ قالت:

 

ـ الحمد لله على سلامتكِ حبيبتي.

 

ـ ما حصل؟ أين أخي؟؟؟ هل مات؟

 

ـ لا... ولكنّه في العنايّة الفائقة... لدَيه حروق بالغة وصعوبة بالتنفّس... ولكنّهم قالوا أنّ حياته ليست بِخطر... وأنتِ... كيف تشعرين؟

 

ـ لستُ أدري تماماً... كيف وصلنا إلى هنا؟ هل ركَضَ الجيران وأسعَفونا؟

 

ـ لا... بل عدتُ مِن عند أمّي ورأيتُ ناراً ودخاناً يخرج مِن نافذة غرفة ناجي فصعدتُ إليها.

 

ـ كيف فتحتِ الباب؟

 

ـ عندما وصلتُ الطابق وجدتكِ فاقدة الوعي والباب مقفل... بدأتُ بِخلعه بِكتفي... الذي أنخلَعَ بِدوره...


وضحِكَت وعندما لاحظتُ الرباط على كتفها وذراعها وصرختُ:

 

ـ يا ألهي...

 

ـ لا عليكِ...

 

ـ أكملي...

 

ـ كانت النيران قد أكلَت البرادي والسجّاد ووصَلَت إلى أخيك الذي كان قد فقَد الوعي بِسبب الدخان... رجلَيه أحترَقَت ولكن كما قلتُ لكِ هو بِخير... حملتُه خارجاً ووضعتُه على الرصيف ومِن ثمّ عدتُ إلى المنزل لأحملكِ بِدوركِ.

 

ـ حملتينا؟

 

ـ أجل حبيبتي... ماذا تظنّين؟ أنّني سأترككما تحترقان وتموتان؟

 

ـ ربمّا كانت حياتكِ ستكون أفضل مِن دوننا...

 

ـ لو كان هذا شعوري حيالكما لما خاطرتُ بِنفسي مِن أجلكما... أليس كذلك؟

 

ـ صحيح... ولماذا فعلتِ ذلك؟ لستِ أمّنا.

 

ـ لست أمّكم ولكنّني أحبّكما... أتصدّقينَني الآن؟

 

ـ أجل... أنا متأكّدة أنّ أمّي ممنونة لكِ كثيراً... لقد أنقذتِ أولادها... أنا دائماً أصلّي لها وأتكلّم معها.

 

ـ إذاً قولي لها أنّ ولدَيها بأيدي أمينة.

 

وعادَ أبي بعد ساعات على دخولنا المستشفى بعد أن إتصلَت به زوجته وركضَ لِيعانقنا ويطلب منّا السماح لأنّه تركَنا.

وتعافى أخي بعد فترة وبالرغم مِن آثار الحروق على جسمه عاد إلى طبيعته بِسرعة. وعلى خلاف نهايه القصص الخرافيّة لم تمت زوجة الأب الشريّرة بل عاشت طويلاً وسعيدة محاطة بأولاد يحبّونها ويقدّرونها. ولم تنجب عايدة مِن أبي قصداً لأنّها وحسب قولها لدَيها أولاداً ولن تحظى بأجمل وأذكى وأغلى منهما.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button