أنقذتهما من مصير بائس...

إحترتُ لأمري، فماذا أفعَل بذلك الكلب الصغير الذي وجدتُه تائهًا في الطريق؟ فهو بدا لي أليفًا، إذ أنّه اقترَبَ منّي مِن تلقاء نفسه ملوّحًا بذنبه. حملتُه وداعبتُه، وحاولتُ إيجاد أصحابه لكن لَم يكن مِن أحَد مِن حولي. إرتعَبتُ لفكرة أخذه إلى البيت، لأنّ والدتي تكره الحيوانات بأسرها، وهي رفضَت مرارًا أن آتيَ بهرّة أو كلب إلى شقّتنا. ركضتُ بالكلب إلى أقرَب محلّ بيطريّ، إلا أنّهم رفضوه، ظانّين أنّه لي وأنّني أُريدُ التخلّص منه. عندها تذكّرتُ أنّ خالي يهوى الحيوانات، فأخذتُ الكلب الصغير إليه فأطعَمناه وأشرَبناه وحضَّرنا له مكانًا ليبيتَ فيه، ريثما نجِد أصحابه أو نؤمِّن له مَن يهتمّ به بصورة دائمة. وحالما رحتُ البيت، نشرتُ عبر الانترنت على الصفحات المُخصّصة لإنقاذ الحيوانات الصورة التي التقطُّها للكلب مع الأسطر التالية: "لمَن هذا الكلب اللطيف؟ نرجو مِن أصحابه الاتّصال على هذا الرقم". ثمّ بدأ الانتظار، وبقيتُ أزورُ خالي و"وايتي" كما أسمَيتُه، يوميًّا، وأعترِفُ أنّ فكرة عدَم رؤية ذلك الكلب الطريف كانت تُحزِنُني. إلا أنّني واسَيتُ نفسي بالدرّس، إذ أنّني كنتُ في آخِر سنة لي في الجامعة وعليّ التركيز على نَيل شهادتي. ثمّ جاءَني إتّصال ردًّا على الخبَر الذي نشَرتُه على مواقع التواصل، وإذ بامرأة تقول لي:

 

ـ إحذِفي الخبر مِن فضلكِ.

 

ـ ولماذا أفعَلُ ذلك؟ مَن تكوني؟

 

ـ أنا صاحبة الكلب الموجود في الخبَر، "سنوي".

 

ـ جيّد جدًّا! إنّه بخير ومُشتاق لكِ كثيرًا! أين نتقابَل لأُسلّمه لكِ؟

 

ـ أنا لا أُريدُه، أبقيه معكِ إن شئتِ أو إرميه!

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أنا مَن رمَيتُه في الشارع فلا أُريدُه! واحذِفي الخبَر على الفور!

 

ـ أيّ نوع مِن البشَر أنتِ؟!؟ مَن يُفلِتُ حيوانًا أليفًا في الشارع؟!؟ فقد تدهسه سيّارة أم يموت جوعًا!

 

ـ لا يهمّني، فهو لذلك الشيطان الصغير! آه... لو أستطيع التخلّص مِن هذا أيضًا!!!

 

ثمّ أقفلَت السيّدة الخطّ وكنتُ أغلي مِن الغضب! لَم أحذِف الخبَر جكارة بها، واتّصلتُ بخالي لأخبره بما جرى وأقول له إنّ "سنوي" قد يبقى عنده لفترة غير مُحدّدة. هو لَم يُبالِ لأنّ ذلك الكلب كان هادئًا ومُدرّبًّا جيّدًا ومُحِبًّا. وفي المساء، أضفتُ على الخبَر المنشور ما يلي: "صاحبة الكلب لا تُريدُه، بل هي تخلّصَت منه. ما العَمل؟!؟". نشرتُ رقم هاتفها كَي أفضحَ أمرها، الأمر الذي قد يُقنعها بالعدول عن قرارها. للحقيقة، لَم أكن أعلَم أبدًا ما ستكون نتيجة كلّ ذلك، فدافعي كان الانتقام وحسب. فما فهمتُه مِن تلك المرأة أنّها أيضًا مُنزعِجة مِن شخص آخَر وتودّ التخلّص منه.

واتّضَحَ أنّ ما فعلتُه جاءَ بنتيجة جيّدة للغاية! فلقد اتّصَلَ بعض روّاد الصفحة بالرقم الذي نشَرتُه، وبدأوا يُوبّخون المرأة بشدّة ويُنادونها بأسماء بشِعة للغاية، إلى حين اتّصَلَ بي زوجها صارخًا بي:

 

ـ ماذا فعلتِ أيّتها اللعينة؟!؟ لماذا عمَّمتِ رقم هاتف زوجتي؟

 

ـ لأنّها رمَت "سنوي" في الشارع! وأنتَ على ما يبدو شريكها في هذه الجريمة! إن كنتما لا تُحبّان الحيوانات الأليفة فلماذا تبتاعانها؟ فلو لَم أجِد كلبكما المسكين لكان ماتَ حقًّا!

 

ـ "سنوي" هرَبَ مِن تلقاء نفسه، وبحثتُ عنه شخصيًّا في كلّ مكان!

 

ـ بل هي قالَت لي بنفسها إنّها لا تُريدُه على الاطلاق، وأضافَت أنّه يخصّ "الشيطان الصغير" الذي تودّ لو تتخلّص منه هو الآخَر! لكن مِن صوتكَ أستطيع القول إنّكَ لستَ صغيرًا، إذًا عمَّن هي تتكلّم؟

 

ـ يا إلهي... هل هي أسمَته "الشيطان الصغير" وتُريدُ أيضًا التخلّص منه؟!؟ فالكلب هو لابني الصغير ولقد حزِنَ للغاية لدى فرار "سنوي" وبكى لأيّام كثيرة... ظننتُها تُحبّ ولدَي!

 

ـ تُحبّ ابنكَ؟!؟ بل هي أبعَدَت عنه كلبه العزيز وتتمنّى لو تستطيع إبعاده هو الآخَر. أنا أقولُ الحقيقة وإلا كيف علِمتُ هذه التفاصيل؟

 

ـ أريدُ أن أستعيدَ الكلب مِن فضلك.

 

ـ لا... فهي قد تؤذيه أو حتّى تقتله في المرّة القادمة، ولن أسمَحَ لأحَد أن يفعل ذلك به!

 

ـ أنتِ على حقّ. ماذا عليّ فعله برأيكِ؟

 

ـ قُل لها إنّكَ اتّصلتَ بي غاضبًا، وأنا خفتُ مِن تهديداتكَ وقرّرتُ حذف الخبَر الذي يحملُ رقمها، وهذا ما أفعله. لكن راقِبها جيّدًا حين فهي تكون مع ابنكَ. كَم عمره؟

 

ـ أربع سنوات... توفّيَت والدته منذ سنتَين ولَم أُعاوِد الزواج، إلا حين وجدتُ امرأة توافِق على تربية صغيري بحبّ وحنان. وهي وعدَتني أنّها ستعتبره بمثابة ابنها. لكنّني لا أستطيع مُراقبتها وهي معه، لأنّني أكون المكتب حتّى المساء بينما هو يعود مِن الحضانة باكرًا.

 

ـ إذًا ضَع كاميرات مُراقبة خفيّة.

 

ـ فكرة جيّدة! إسمعي... تستطيعين الرفض طبعًا... هل تقبَلين أن أبقى على تواصل معك لأُطلِعكِ على المُستجدّات؟ أعدُكِ بألا أُضايقُكِ كثيرًا.

 

وبالطبع قبِلتُ! فقد شعرتُ وكأنّني في مُسلسل أجنبيّ بوليسيّ وألعبُ دور التحرّيّة! إضافة إلى ذلك، كنتُ أكنُّ لهذه لزوجة كُرهًا كبيرًا لِما فعلَته بالكلب وتنوي فعله بصبيّ صغير يتيم الأمّ!

وإليكم ما حصَلَ بحذافيره: راحَ الزوج، واسمه سعيد، ليشتري الكاميرات الصغيرة، ثمّ وضعَها في أماكن عدّة في البيت ووصلَها على هاتفه المحمول. بعد ذلك، هو راقَبَ ما تفعله زوجته طوال اليوم لوحدها أو مع ابنه الصغير.

حماسي كان في ذروته، وأعترفُ أنّني أهمَلتُ بعض الشيء دراستي لكنّ الأمر كان أقوى منّي. فشعرتُ أنّني جزء مِن عقدة كبيرة كانت ستُحَلّ قريبًا، وتنقِذ ولَدًا صغيرًا كان سيلقى مصيرًا بائسًا. ولَم أكن مُخطئة، فبعد تبادل رسائل عديدة مع سعيد، عرفتُ منه أنّه رأى في تصرّفات زوجته حيال ابنه علامات عدائيّة واضحِة. إلا أنّه لَم يكن يملكُ بعد ما يكفي مِن دلائل، وخشِيَ أن تكون زوجته قد لاحظَت شيئًا. خفنا كثيرًا أن تفشَل الخطّة خاصّة أنّ المرأة كانت تنوي، ولو ضمنيًّا، أن تُبعِد ذلك الولَد البريء.

ثمّ أتّصَلَ بي سعيد ذات مساء في ساعة مُتأخِّرة جدًّا مِن الليل، واستغربتُ الأمر. إلا أنّه قالَ لي إنّه لا يستطيع النوم، بعد أن لاحظَ على ذراع ابنه كدمات. للحقيقة، هو لَم يرَ زوجته تُعنِّفُ الولَد عبر الكاميرات، وقد يكون أحَد رفاقه في الحضانة قد أمسكَه بقوّة أثناء اللعب. وتلك الكدمات شغلَت باله كثيرًا، فلو اتّضَحَ أنّها فعل زوجته، فذلك يعني أنّها انتقلَت مِن الترهيب الشفهيّ والمعنويّ إلى الجسديّ. والمشكلة كانت أنّ ابنه لا يُجيبُه عندما يسأله عن مُعاملة زوجته له، أو عن مُسبِّب تلك الكدمات. طمأنتُ الرجُل قليلاW، لكنّني لَم أكن أبدًا مُرتاحة لهذا التطوّر في الأحداث، إذ أنّني كنتُ مُتأكِّدة مِن أنّ الزوجة هي التي تُعنِّفُ الولَد.

مرَّ حوالي الأسبوعَين حين اتّصَلَ بي سعيد. كنتُ قلِقة حياله، فلَم أسمَع منه منذ تلك المُكالمة المسائيّة. هو اعتذَرَ منّي لذلك الصمت الطويل وقال:

 

ـ للحقيقة لَم أرِد أن أشغل بالكِ، فلدَيكِ امتحاناتكِ، لكن اعلَمي أنّني وابني بخير والحمد لله!

 

ـ ماذا حصَلَ؟ تكلّم!!!

 

ـ في اليوم الذي تلا إتّصالي بكِ الأخير، واجهتُ زوجتي في ما يخصّ الكدمات فأنكرَت طبعًا وبشدّة. لكنّني رأيتُ كيف هي نظرَت إلى ابني مُعاتِبة، فهي ظنَّت أنّه أخبرَني ما فعلَته به. ولاستدراك الأمر، إقترَحتُ أن مِن الأفضل لو يبقى صغيري في البيت بدلاً مِن الذهاب إلى الحضانة، فلا بدّ أنّ رفاقه يتنمّرون عليه، وادّعيتُ الذهاب إلى العمَل. لكنّني ركَنتُ سيّارتي في الحَي الموازي للبيت، وأخذتُ أُراقِبُ عبر هاتفي ما تصوّره الكاميرات. وبعد أقلّ مِن نصف ساعة، رأيتُ مشهدًا كادَ أن يُفقدَني عقلي! كانت زوجتي مُمسكة بابني وتهزّه بقوّة بينما تصرخ عليه كالمجنونة. وبعد لحظة واحدة، هي سحبَته إلى خزانة موجودة على شرفة المطبخ وأسَرَته فيها!

 

ـ يا إلهي! ماذا تقول؟!؟

 

ـ أجلَ! ترجّلتُ مِن السيّارة بسرعة فائقة، وصعدتُ سلالم المبنى في غضون لحظات ودخلتُ البيت كالمجنون. سألتُ زوجتي أين ابني فارتبكَت وقالَت إنّه عند جيراننا يلعبُ مع أولادهم. أبعدتُها بقوّة ورحتُ إلى الشرفة حيث الخزانة، وحرّرتُ صغيري فوجدتُه شاحِب اللون ويرتجِف مِن الخوف. لكنّ زوجتي كانت قد تسلّحَت بسكّين كبير، وبدأَت تلوِّح به في وجه ابني، فأسندتُها لكمة قويّة ألقَتها أرضًا. قرعتُ باب الجيران وأعطَيتُهم صغيري وطلبتُ الشرطة بسرعة. دخَلَ جاري بيتي ووجَدَ زوجتي على أرض المطبخ تستفيقُ ببطء والسكين لا يزال في يدها وهي تُتمتِمُ "سأقتلُ ذلك الشيطان الصغير!". وأدلى الجار بشهادته للشرطيّين حين جاؤوا البيت. موعد المحكمة ليس بعيدًا، لكنّ زوجتي فرَّت إلى ما وراء الحدود بعد أن دفَعَ أخوها كفالتها. إلا أنّ مُذكّرة توقيف صدرَت بحقّها بتهمة الإساءة إلى طفل وحجزه ومحاولة قتله.

 

ـ قصّة رهيبة! كيف حال ابنك؟!؟

 

ـ سيتعافى بإذن الله، فهو سيخضَع قريبًا لعلاج نفسيّ عند أخصّائيّ للاطفال.

 

ـ وأنتَ؟

 

ـ أشعرُ بالذنب حيال ابني... فأنا الذي اختارَ تلك المرأة، وأعترفُ أنّني لَم أتعرّف إليها كفاية، بل أسرعتُ بالزواج منها مِن أجل صغيري كَي لا يربى مِن دون حنان أمّ.

 

ـ أظنّ أنّ هناك أيضًا مُعالِجًا بارعًا لَم تُفكِّر به.

 

ـ مَن تقصدين؟

 

ـ "سنوي" بالطبع! وافِني إلى هذا العنوان لتستلِم كلب ولدكَ!

 

إبتسَمتُ لسعيد حين رأيتُه لأوّل مرّة شخصيًّا، وهو صافحَني بقوّة شاكرًا. فلولا تدخّلي، الله وحده يعلَم ما كان سيحلّ بابنه. حمَلَ سعيد "سنوي" وركضَ به إلى صغيره، ووقفتُ وخالي ننظرُ إليهما وهما يبتعدان في السيّارة والدمع في عيوننا.

بقيتُ على تواصل مع سعيد لفترة طويلة، وتتّبَعتُ أخباره وأخبار ابنه و"سنوي"، وكانوا جميعًا بخير بعدما قرّرَ الرجُل عدَم الزواج مُجدّدًا إلا حينما يكبر ابنه، فكيف له أن يُخاطِر مرّة ثانية؟

في تلك الأثناء، تعرّفتُ إلى شاب أحبَبتُه وقرّرنا الارتباط جدّيًّا. تزوّجنا وسكَنّا في شقّة لطيفة... واستقبَلنا "سنوي" عندنا بصورة دائمة، بعدما قرَّرَ سعيد السفَر مع ابنه إلى الخارج لنسيان تمامًا ما حصَلَ لهما. سُعِدَ زوجي بالكلب، فهو كان يعرفُ عن ظهر قلب قصّته بعدما سمِعَها منّي مئة مرّة!

أمّا بالنسبة للزوجة الشرّيرة، فلَم يعرِف أحد عنها شيئًا، فكأنّها تبخّرت تمامًا! مع ألف سلامة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button