كنت في الـ16 من عمري، وحسبت فؤاد حبّ حياتي. كان والداي محافظين جدّاً للتأقلم مع الأمر، وخاصةً أنّ فؤاد ووالده كانا يعملان في مصنع العائلة: كنّا أغنياء، وهم فقراء... استأجر فؤاد غرفة للقاءاتنا. وفي أحد الأيام، وجدت نفسي حاملاً. عندما وعيت الأمر، كان الوقت قد تأخّر لإجراء عمليّة إجهاض. كادت أمّي تموت عند سماع الخبر! لن يعيش طفلٌ لقيط تحت سقفهم! وسط البكاء، أجبرتني على الاعتراف باسم الأب، ثم ذهبت لإخبار والدي... من غرفتي التي سجنت نفسي فيها، سمعته يشتمني. بعد بضعة أيّام، تلقّيت اتصالاً هاتفيّاً من فؤاد ليعلمني بأنّه سيهاجر إلى كندا. رجوته أن يصطحبني معه. لكن سرعان ما عاد الواقع ليوقظني: كان يهجرني، بكلّ بساطة. فسجنت نفسي في الصمت والاكتئاب. كرهت ذاك الطفل الذي ينمو في أحشائي، فهو ثمرة كذبة لم أعد أرغب فيها. بدت لي هذه الأشهر الطويلة لامتناهية.
لم أتلقَّ أيّ خبر من فؤاد، ولم يكن والدي يخاطبني: فأنا فاسقة لطّخت سمعة العائلة كلّها رغم التربية التي وفّرتها لي.
لم يقبل بي في المنزل إلاّ تجنّباً للفضيحة. عندما كبر بطني، أرسلت إلى منزل إحدى القريبات. الكلّ، بمن فيهم أنا، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن ألد "ثمرة خطيئتي". وأتى يوم الخلاص. لم أر طفلي. كان صبيّاً. كتلة لحم ودم تخرج من أحشائي، من دون اسمٍ، ولا وجهٍ، ولا هويّة. أرسلوه إلى الميتم.
بالعودة إلى المنزل، رحّب بي والدي ترحيباً حارّاً، فقد أصبحت طاهرة مجدّداً، وعدت ابنته الصغيرة المدلّلة! مضى عام. كنت قد عدت إلى حياة المراهقة، وتحرّرت من التفكير بفؤاد وبطفلي.
في أحد الأيّام، أتى رجل برفقة والدته ليزورنا. لم أكن أعرفه... وبعد فترة وجيزة، أعلنوا لي أنّه سيصبح زوجي. رفضت الأمر بشدّة: هو كبيرٌ جدّاً عليّ ـ فقد تخطّى الثلاثين من عمره ـ ولم يعجبني أبداً! أجابني والدي بأنّه في وضعي، لم أكن في موقع يسمح لي برفض أيّ شيء، وخاصةً عندما يوافق شخص على التزوّج من فتاة "مثلي". هذا ما أصبحت عليه! بضاعة فاسدة تنتظر مشترياً. لم أستطع إلاّ أن أقبل... فتزوّجته، رغم إرادتي ـ كنت أوّل عروس تبكي في عرسها!
اتّضح لي أنّ زوجي سمير رجلٌ طيّب، وبسيط. نظراً لفارق العمر بيننا، كان يعاملني كدمية مدلّلة، وحياتي معه كانت مريحة. لم أكن أرغب في الأولاد ـ أقلّه ليس الآن ـ فلم يعارض. لم نتحدّث أبداً عن حملي، كما لو أنّه لم يحصل... إلى حدّ أنني اقتنعت في نهاية المطاف بأنّ تلك الحادثة لم تكن سوى كابوس عابر. مرّت سنتان هادئتان حتى اليوم الذي سمعت فيه، وأنا أسير في موقف سيّارات "السوبرماركت"، خطوات تتعقّبني. كان فؤاد. لم أعرفه فوراً، فقد تغيّر كثيراً! نحيل وحزين. بعد صدمة المفاجأة، خاطبته مهدّدة:
- ماذا تريد؟ عدت من كندا والآن تتبعني؟ تأخّرت في السؤال عنّي "عزيزي".
فجأةً، شعرت بكلّ الآلام التي كنت قد دفنتها. خيبة الأمل، الحمل، الولادة، الانفصال عن طفلي... أوجعني كلّ ذلك، كثيراً. كنت حاقدة عليه، هو من أقسم لي بالوفاء والدعم للأبد، فرّ تاركاً وراءه فتاة ضعيفة في وجه مسؤولية كبيرة. رمقته بنظرة ملؤها الاشمئزاز، وكنت أستعدّ لركوب السيّارة حين أمسك بذراعي.
- اسمعيني... لم أسافر يوماً إلى كندا. هدّدني والدك بطردي، أنا ووالدي. كان سيرمينا في الشارع، وقد أقسم إنّه لن يسمح لأحد بإعادة توظيفنا. لم أرغب في أن أسبّب ذلك لوالدي. اشترى لي والدك تذكرة سفر، فادّعيت أنني هاجرت... لكنني بقيت من أجلك، وسهرت عليك، من بعيد. الآن، تُوفي والدي، ولم يعد لديّ شيء أفقده. ما زلت أحبّك ولا أريد العيش من دونك.
- فات الأوان: أنا متزوّجة وابننا في إحدى دور الأيتام!
ومضيت.
كنت أعرف أنّ والدي قادر على كلّ شيء، لكنني لم أتخيّل يوماً أنّه قد يبلغ هذا الحدّ.
لم أقل شيئاً لزوجي. لم يستحقّ كلّ ذلك، هو الذي وضعني في كنفه وعاملني كأميرة، أنا الدنيئة... ولكن منذ ذلك الحين، تغيّرت تصرّفاتي. أصبحت لا أطاق، أنفعل لأبسط الأسباب وأنزوي على نفسي. كنت أمضي نهاراتي ولياليّ أتخيّل حياتي لو تزوّجت فؤاد، واحتفظت بطفلي. كنت أشعر به مجدّداً ينمو في أحشائي... عشت حملي مجدّداً. كنت مشتاقة إلى طفلي كثيراً... لم أعطه حتّى اسماً، ولم أكن أعرف شكله. لعلّه بلغ عامه الثالث. ثم تملّكني القلق: كيف هي صحّته؟ هل ما زال في الميتم الذي أرسلناه إليه؟ هل تبنّته عائلة؟ ربّما تبنّته غريبة أصبح يناديها أمّي... أمّا أنا فلن أسمع أبداً هذه الكلمة من شفتيه الصغيرتين، أبداً.
سألني سمير عن سبب تبدّلي. أصرّ عليّ كثيراً فأخبرته القصّة. أصغى إليّ حتى النهاية ثم قال:
- كنت أعرف أنّ كلّ شيء سيظهر مجدّداً يوماً ما. لهذا السبب، وافقت على قرارك بعدم الإنجاب. لا أعرف ماذا تنوين فعله، لكن اعرفي أنني أحبك، وأريدك أن تكوني سعيدة، حتى لو كان ذلك على حسابي. أعرف أنّك لا تحبّينني. لا، لا تقولي شيئاً رجاءً! لا تشفقي عليّ. لم آمل يوماً أن تحبّيني، لكنني أردت منك الاحترام، وقد حصلت عليه. أنا جاهز لتربية طفلك، ولمعاملته كما لو كان ابني، إذا قرّرت البقاء. وإذا قرّرت ملاقاة الشاب الذي أحببته، الآن وقد عرفت الحقيقة، فلن أعترض على ذلك. فكّري جيّداً وأطلعيني على قرارك.
مصير أشخاصٍ كثر كان على المحكّ، ولم يكن من المسموح أن أقترف خطأ جديداً عندما تعطيني الحياة فرصة ثانية.
ذهبت للبحث عن طفلي. لم تكن مهمّة إيجاده سهلة، ولكن ما من شيءٍ ولا من أحد كان قادراً على إبعادي عنه.
في مكتب مدير دار الأيتام، كنت أصلّي كي لا يكرهني طفلي، ويتمكّن يوماً ما من فهم موقفي. ودخل... كان صغيراً، وجميلاً. قالوا له إنّني كنت مسافرة، وأتيت آخذه ليعيش معي إلى الأبد. اقترب منّي، بخطواتٍ صغيرة، محتارٌ وخجول. أردت أن أركض نحوه، أضمّه، وأغطّيه بالقبل، لكنهم نصحوني بألاّ أسبّب له صدمة، وبأن أعطيه الوقت للتفهّم. فالحياة أمامنا...
يداً بيد، عدنا إلى المنزل حيث كان زوجي سمير ينتظرنا لحياة جديدة، معاً.
أمّا فؤاد، فلم أره مجدّداً. اختفى كالمرّة السابقة. أظنّ أنّه لم يكن مستعدّاً للعب دور الأب. لكن هذه المرّة، كنت بين أيادٍ أمينة. لم أعد خائفة من الغد. كنت أمّاً وامرأة راضية.
حاورتها بولا جهشان