أنا لستُ للبيع...

- أبوكِ يُحتضر... إذا كنتِ تريدين رؤيته عليكِ القدوم بسرعة!

هكذا أخبرَتني أمّي عبر الهاتف، أنّ والدي سيفارق الحياة. لزمَني بضعة ثواني، لأستوعب من المتكلّم، فلم أسمع صوتها منذ فترة طويلة. أجبتُها باللهجة نفسها:

- سأرى.

وللحقيقة لم أكن أعلم بعد، إن كنتُ سأذهب إلى هناك أم لا. فبالنسبة لي، هما كانا بمثابة غرباء وكنتُ قد تعوّدتُ على العيش من دونهما. صحيح أنني ولدتُ منهما ولكن سرعان ما أدركتُ أنني لم أكن بالنسبة لهما سوى فم إضافي بين أفواه عديدة ومجيئي إلى الدنيا لم يفرّحهما، بل شكّلَ لهما مشكلة. كبرتُ شبه وحيدة، لأنّ الأولاد الذين سبقوني، كانوا أكبر مني بكثير وكانوا منشغلين بكيفيّة جني قوطهم. أبي لم يعتبر نفسه مسؤولاً عن أيّ منّا وأمّي قضَت وقتها تنجب وتشتكي من سوء حظّها في الحياة. لم ألعب كباقي الأطفال، لأنّ لا أحد إبتاع لي ألعاباً أو روى لي قصصاً قبل النوم. لم تحضّر لي أمّي يوماً زوّادتي قبل ذهابي إلى المدرسة المجانيّة ولم يدّرسني أبي. للحقيقة تُركتُ لوحدي على أمل أن يأتي يوم وأختفي فجأة ويخفّ العبء عن الجميع. ولكنني بقيتُ وسطهم رغم كل شيء وتعلّمتُ أن أتّكل على نفسي وأقضي حاجاتي لوحدي.
وهذا الإصرار كان يغضبهم، لأنّهم كلّهم كانوا قد إستسلموا لقدرهم البشع. حاولَ أبي إخراجي من المدرسة لكي أعمل وأجني له المال ولكنني رفضتُ بقوّة ومن بعدها أصبحتُ محط سخرية عائلتي، التي بدأت تناديني بال"مثقّفة". وعندما بلغتُ سن الخامسة عشر، قرّر والديّ أنّهما صرفا مالاً كافياً عليّ وأنّه حان الوقت لكي أردّه لهما من خلال تزويجي إلى رجل يكبرني بِ 25 سنة، له رصيد قوي في المصرف وأراضي وممتلكات. عندما رأيته إرتعبتُ منه لكثرة قباحته ونظراته الشاذة. ركضتُ ألتجئ عند خالتي التي كانت تعيش في أوّل الشارع. هناك بقيتُ أسبوعاً كاملاً مختبئة، حيناً في الغرفة وحيناً في الحمام. حاول أبي أن يرجعني إلى البيت ولكن خالتي وقفَت في وجهه ومنعَته من لمسي. وذهبَ العريس يفتّش عن فتاة أخرى أكثر خضوعاً وعدتُ إلى المنزل لأجد الجميع غاضباً لِما فعلتُه، بعد أن تأمّلوا بغد أفضل من تزويجي وها أنا أفسدُ خطّتهم. وبدأَت سياسة النقمة والإنتقام، فأعطوني كل الأعمال المنزليّة ومنعوني من إكمال دراستي. قبلتُ بهذا القصاص، بل رحبّتُ به لأنّه كان أرحم من العيش مع ذلك العجوز. ولكن ما لم أكن أعلمه، هو أنّ والديّ لم يتخلا عن فكرة الإستفادة منّي ولم ينويا يوماً تركي وشأني. ولكن كنتُ محظوظة، أنّهما رغم شرّهما، لم يكونا أذكياء وأخبرا خالتي بخطتهما الدنيئة: تزويجي بالقوّة. وفي ذات ليلة، جاءت شقيقة أمّي وطلبَت مني أن أرافقها عند صديقة لها ومساعدتها في حمل أغراض ثقيلة من عندها. قبِلتُ بسرور طبعاً وقَبل أن أخرج من بيتي همَسَت في أذني:

- إجلبي معكِ كل ما تعتبرينه ثميناً أو عزيزاً عليكِ... لا تسألينني عن السبب إفعلي فقط ما أقوله لكِ.

علمتُ فوراً أنّ شيئاً بشعاً على وشك أن يحصل، فإمتثلتُ لأوامرها. دخلتُ غرفتي ووضعتُ بضعة أشياء في حقيبة يدي وتحت ثيابي وخرجتُ معها وقلبي يخفق بقوّة. لم نذهب إلى بيتها، بل فعلاً عند صديقة لها، حيث أخبرَتني خالتي بما يلي: لقد تمّ إختيار عريس عجوز طبعاً ومكتفئ مالياً وتجنّباً لِما حصل في المرّة السابقة، كان والديّ قد نصحا الرجل بخطفي والزواج منّي بالقوّة ووعداه أنّ لا أحد سيتدخّل. لم أصدّق أذنيّ! كيف يمكنهما فعل هذا وكأنني قطعة لحم يبيعونها لمن يدفع أكثر؟ شكرتُ خالتي على ما فعلَته وسألتُها عمّا يجب عمله قبل أن تأتي عائلتي لإسترجاعي. قالَت لي بكل جديّة:

- حبيبتي... هناك حلّ واحد... فإن رجعتِ إلى البيت سيحاولون إعادة الكرّة... عليكِ أن تتزوّجي.

- ماذا؟ ومِن مَن؟ أنا لا أعرف أحداً.

- هذه السيدة لديها إبن... إسمه فضيل... دعيني أكمل... إنّه شاب لطيف ومهذّب ويعرف قصّتكِ... سيتزوّجكِ شكليّاً فقط وبعد فترة سيعطيكِ الطلاق... ثقي بي... ليس لديكِ حلاً آخراً.

وأتوا بالرجل وربّما لو لم أكن مستاءة لكنتُ أعجبتُ به ولكنني كرهته هو الآخر وقبلتُ أن أصبح زوجته على مضض. ذهبنا وعقدنا قيراننا وإنتقلنا فوراً إلى منزله وقادني فضيل إلى غرفتي وقال لي:

- أعلم أنّكِ غاضبة... أعدكِ أنني سأكون صديق لكِ وليس أكثر... كوني على ثقة أنني إنسان شريف وأفعل هذا إكراماً لوالدتي ولخالتكِ التي ساعدتني كثيراً عندما كنتُ صغيراً... كانت تأتي إلى منزلنا وتساعدني في إتمام واجباتي المدرسيّة، لإن والدتي أميّة ووالدي توفي بعد ولادتي بقليل... لولا خالتكِ، أعتقد أنني لم أستطع الدخول إلى الجامعة والحصول على مركز كهذا في الشركة، فأنا اليوم مدير قسم المحاسبة وأجني مالاً وفيراً...

- لا يهمّني ما تجنيه!

- أنا لا أغرّكِ بمالي... أقول لكِ أنني أوفي دَين عليّ... أراكِ بخير.

وفي هذه الأثناء، بحث أهلي عنّي في كل مكان وكأنّهم يبحثون عن بقرة سُلِبت منهم قبل أن يقودوها إلى الذبح. وعندما قالت لهم خالتي أنني تزوّجتُ، كادت أمّي أن يُغمى عليها وصرخ أبي:"كيف سأسدّد ديوني الآن؟". وبالطبع إتّهموا خالتي بالتآمر عليهم وقاطعوها ولكنّها لم تكترث لتهديداتهم، طالما أنا بخير بعيدة عنهم. وعشتُ في بيت فضيل وكأننا أصدقاء. كنتُ أقوم بترتيب البيت وتحضير الطعام، بينما هو يأتي بالمال. ومع الوقت بدأتُ أشعر بعاطفة قويّة تجاهه، شبيهة بما يسمّونه الحب. فأنا لم أختبر العشق يوماً، لأنني كنتُ مشغولة بتفادي محاولات إستغلالي من قِبَل أهلي. وعندما تأكدّتُ من مشاعري نحو زوجي، ترددّتُ على البوح بها له، فلم أكن أعلم إن كان يعتبرني أكثر من دين لخالتي يسدّده إكراماً لها. وفي ذات ليلة عندما رجِعَ من عمله وجدني أرتدي فستاناً جميلاً، بعد أن قضيتُ النهار أحضّر عشاءَ فاخراً وضعته على المائدة مع بعض الورود والشموع. إستغربَ عندما رأى كل هذا وسألني إن كان هناك مناسبة خاصة. أجبتُه أنني إشتقتُ له طوال النهار وهذا العشاء تعبيراً عن شوقي له. وحين سمع هذا ركض إليّ كالمجنون وعانقني بقوّة وهمَسَ:"وأخيراً!". وإعترفَ لي أنّه يحبّني منذ زمن طويل وكان يراقبني من بعد عندما كنتُ أذهب عند خالتي. وعندما عَلِمَ بمصيبتي، عرضَ فكرة الزواج متأمّلاً أن أقع في حبّه في يوم من الأيّام. أنا اليوم أعيش قصّة حب قويّة مع فضيل ولدينا فتاتين جميلتين. لم أذهب لأرى أبي في أيّامه الأخيرة لأنني لم أكن أريد إسترجاع الذكريات الأليمة التي عشتها لسنين طويلة ولم أكن أريد أن تظنّ أمّي أنّ كل شيء إصطلح بيننا وتحاول إستغلالي أو إستغلال زوجي فأنا أعرفها جيّداً: لن تفوّت فرصة للنيل من أي شيء يصل إليها. عائلتي الوحيدة تتألّف من زوجي وبناتي وخالتي.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button