الحقّ في ما حصَلَ لي يقَعُ أوّلاً على مُجتمعنا الذي يُصنّفُ أعضاءه حسبَ معايير بالية. فكَوني رجلاً عاقرًا أرجعَني إلى أسفل السلّم ووسمَني وسمة عار لا دخل لي بها. فبعد زواجي الأوّل الذي انتهى بِتطليق زوجتي لي بِسبب عدَم قدرتي على الإنجاب، علِمَ الجميع بِمشكلتي وصرتُ الذي لا تُريدُه إمرأة. عندها فهمتُ كَم هو كبير الضغط التي يوضَع على أكتاف النساء اللواتي لا تُعطين وريثًا لرجالهنّ وكَم أنّ الأمر يسلبهنّ هويّتهنّ الإنسانيّة ليُلبسهنّ صفة "فقّاسة أولاد" صالحة أم لا.
نسيتُ أمر الزواج نهائيًّا وركّزتُ على عمَلي الذي بادلَني جهدي، أي أنّني صرتُ تاجرًا ثريًّا... ولكن وحيدًا. حاوَلَ ذويّ إيجاد رفيقة لي، إلا أنّهم فتّشوا طبعًا بين النساء الصبيّات منهنّ، أي اللواتي تُردنَ الإنجاب.
فعندما التقَيتُ سهام، تجاهلتُ تلقائيًّا الإشارات التي كانت تُرسلُها لي بِنظراتها، مُتفاديًا خَيبة أمل جديدة وتلميحات كنتُ بالغنى عنها. فإنسانة جميلة وشابّة مثلها تُريدُ حتمًا صبيًّا أم بنتًا وعائلة، شأنها شأن باقي معارفها. لِذا ابتعَدتُ عنها وعُدتُ إلى أعمالي وعُزلَتي.
لكنّني تفاجأتُ بإصرار سهام عليّ، فاضطرِرتُ إلى إخبارها سرّي الثقيل والدَمع يملأ عَينَيّ. فكنتُ قد عانَيتُ الكثير، ومُجرّد التفكير بعُقمي كان يُولّدُ لدَيّ حالة حزن عميق. إلا أنّها ابتسَمت لي بِحنان وقالَت لي:
ـ أفتّشُ عن زوج مُحبّ وصالح... الأولاد يأخذون كلّ ما لدَينا ولا يُعطونا إلا القليل.
ـ لكنّكِ ستمضين باقي حياتكِ وحدكِ معي، هل أنتِ مُستعدّة لذلك؟ ألَن تسأمي منّي؟ ماذا لو متُّ؟ لن يكون لدَيكِ أحد ليهتمّ بكِ عندما تشيخين.
ـ يا لكآبة حديثكَ! تتكلّم عن الموت في وقت يجدرُ بكَ التفكير بالحبّ والسعادة! لن يتركَني الله وسيهتمُّ بي، فهو خلَقَني وهو مسؤول عنّي ولن أجد أفضل منه قط. كلّ ما أريدُه منكَ هو أن تُحبَّني بكل جوارحكَ.
لكنّ سهام لَم تكن تعني ما قالَته لي في ذلك اليوم، وما كانت تُريدُه كان أكبر بِكثير مِن حبّي. وبالطبع لَم أكتشِف ذلك إلا بعد أن تزوّجنا، وتمنَّيتُ ألف مرّة لو بقيتُ وحيدًا.
ففور انتهائنا مِن شهر العسل الذي قضَيناه في أوروبا، ظهَرَ وجه زوجتي الحقيقيّ.
فهي صار مطالب كثيرة... وباهظة. صحيح أنّني كنتُ ثريًّا، لكنّ ذلك كان بِجُهدي وتعَبي، وكنتُ أنوي تَرك ما يكفي جانبًا تأمينًا لِشيخوختي ولِسهام. ولو لبّيتُ مطالبها كلّها، لكان مُستقبلنا مُهدّدًا. فهي أرادَت كلّ شيء، مِن المجوهرات والسيّارات إلى المنازل واليخوت، وكأنّها في عجلة مِن أمرها لِصرف في سنة واحدة كلّ ما جنَيتُه خلال عشرين سنة.
وقفتُ في وجهها طبعًا واضعًا حدًّا لِطمعها، بعد أن اشترَيتُ لها سيّارة فخمة ومجوهرات ثمينة وكلّ ما يجب أن تمتلكه سيّدة مُجتمع. عندها فتحَت سهام نيرانها عليّ صارخةً بي بأعلى صوتها:
ـ ستشتري لي ما أُريدُه أيّها العاقر!
ـ ما هذا الكلام؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ تُعيّريني بِعدَم قدرتي على الإنجاب؟ كنتِ على علم بِحالتي قبل الزواج ولَم يُجبركِ أحدٌ على القبول بي.
ـ ظنَنتُكَ ستعوّض لي عن النقص الذي فيك، لكنّكَ ناقصٌ حتى في الكرَم!
ـ طلباتكِ غير معقولة، فالأمر كأنّكِ تُريدين سلبي كلّ ما أملكُ!
ـ كلّ مال الدنيا لن يُعوّضَ حرماني مِن الأولاد! أريدُ فيلا على البحر وبأسرع وقت!
ـ وإن رفضتُ؟
ـ سترى ما يُمكنُني فعله آنذاك!
لَم آخذ كلام سهام على محمل الجدّ، فهي كانت على ما يبدو غاضبة بِسبب عدَم حصولها على مُبتغاها، وكنتُ سأسكتُها ببعض الهدايا الجميلة. تأمّلتُ طبعًا أن تعودَ إلى صوابها وأن تفهَم أنّ كلّ ما أفعلُه هو لِصالحنا نحن الإثنَين. لكنّ زوجتي لَم تتزوّجني عن حبّ بل عن طمَع، وكانت تنوي أخذ ما يُمكنُها لِترحلَ عنّي بِسرعة وتبني بِمالي وممتلكاتي عائلة خاصّة بها... مع عشيقها. نعم، كان لها حبيب ينتظرُ بِصبر أن يسرقَ هو الآخَر جنى عمري.
وفي يوم مِن الأيّام، وأثناء إحدى مُشاجراتنا حول طلباتها، أخذَت سهام إناء زهور ورمَته عليّ مُحدثةً كدمة كبيرة في رأسي. ولِشدّة ألَمي، فقدتُ توازني ووقعتُ أرضًا. عندها، إغتنمَت زوجتي الفرصة وبدأَت تركُلني بِكامل قواها على بطني وظهري ورأسي حتى فقدتُ وعيي.
لَم أستفِق في المشفى بل في غرفتي... مُقيدًّا. وكان واقفًا بِجانبي شابّ لَم أرَه في حياتي. لَزِمَتني دقائق طويلة حتى تمكّنتُ مِن الكلام وسؤال ذلك الشخص إن كان طبيبًا أم شرطيًّا، فضحِكَ قائلاً:
ـ لا هذا ولا ذاك... أنا أسوأ كوابيسكَ.
وقبل أن أفهَم قصده، دخلَت سهام الغرفة وقالت للشاب:
ـ لقد تخلّصتُ مِن العاملة، نحن وحدنا في المنزل. هل جلَبتَ الأوراق التي طلبتُها منكَ؟
ـ أجل، لكن كان عليكِ إخباري بالذي تنوين فعله قبل فترة مِن الوقت. مِن حسن حظّنا أنّني وجدتُ بِسرعة مُحاميًا.
ـ حصَلَ الأمر بِصورة مُفاجئة. المهمّ أنّكَ هنا الآن يا حبيبي.
يا حبيبي؟!؟ لِزوجتي عشيق؟ هذا يُفسّرُ طمَعَها وعدَم حبّها لي، لا بل كرهها لي. حاولتُ التحرّك، لكنّني لَم أستطع بِسبب قيودي وألَمي. كنتُ قد أصبتُ بِكدمات وكسور عديدة، وكان مِن الواضح انّ سهام وحبيبها لَم يكونا يَنويان إرسالي إلى المشفى، بل أخذ كلّ ما أملكُ كما كنتُ سأكتشفُ بعد دقائق.
فكّ الشّاب قيود يدي اليُمنى، وناوَلَني قلمًا وأمرَني بأن أضَع توقيعي في أسفل تنازل عام لِصالح زوجتي. رفضتُ طبعًا فبدأ العشيق بِشَتمي وصَفعي بعد أن منعَته سهام مِن ضربي بِقوّة قائلة: "لا نُريدُه أن يُغمى عليه مُجدّدًا بل أن ننتهي مِن هذه المسألة بِسرعة". عندها قلتُ لها:
ـ سيعرفُ الجميع أنّكما مَن فعَلَ هذا بي. سأشهدُ ضدّكما ويُبطَل التوكيل.
ـ تشهدُ ضدّنا؟ ها ها ها! الأموات لا يشهدون يا... زوجي الحبيب. فستظنّ الشرطة أنّ سارقين دخلوا البيت أثناء ذهابي للتسوّق وأخذوا ما بإمكانهم أخذه ثمّ قتلوكَ عندما قاومتَهم.
ـ وأخذوا تنازلاً عامًّا منّي أيضًا؟ لن تنجح خطّتكِ... يا زوجتي الحبيبة!
ـ بلى، لأنّ التنازل العام مؤرّخ بِتاريخ يعودُ إلى أيّام قليلة بعد زواجنا. سأكون الأرملة المفجوعة التي تبكي زوجها بِحرارة، وتأسفُ على ذهابها للتسوّق بدلاً مِن البقاء في البيت والموت مع فقيدها.
ـ وإبعادكِ للعاملة؟ ألَن يبدو الأمر مشبوهًا؟
ـ أبدًا، فهي تطالبُني بإجازة منذ فترة، خاصّة أنّ أمّها عجوز ووحيدة. وهكذا لن يكون عمَلي مشبوهًا بل جاء في وقت غير مُلائم فقط.
ـ لن أوقّع على شيء حتى لو دفعتُ الثمن بِروحي!
ـ سنرى ذلك.
بقيَ العشيق يُعنّفُني طوال الليل، وبالكاد نمتُ ساعة أو إثنتَين إلى أن أعادَ الكرّة. كنتُ قد نويتُ تحمّل ما بإمكاني مِن ضرب، لأنّني كنتُ أعلمُ أنّ غيابي عن أعمالي سيُثيرُ التساؤلات. فقد كانت منال سكرتيرتي إمرأة ذكيّة ومُلتزمة وتعرفُني جيّدًا، بعد أن عمِلَت معي لأكثر مِن عشر سنوات. وهي كانت تعلمُ تمام العلم أنّني لا أفوّتُ يوم عملٍ، خاصّة إن كنتُ سألتقي خلاله بأكبر التجّار وأبرمُ معه صفقة كبيرة للغاية. فعندما لَم أذهب إلى العمل لأحضر الاجتماع، بدأَت منال تتّصل بِهاتفي الجوّال حتى انتابَها القلق. عندها اتّصلَت بِهاتف المنزل ولَم يُجِبها أحد. إستغربَت الأمر إذ كانت العاملة تردُّ دائمًا على هذا الرقم. أخيرًا، خابرَتْ زوجتي التي قالَت لها إنّني متوعّكٌ صحّيًّا ولا أستطيع التكلّم. فسألَتها منال:
ـ أليس لدى السيّد تعليمات لي بِخصوص العمل؟
ـ سأسألُه... لا، ليس لدَيه تعليمات خاصّة، بل قال إنّ عليكِ اعتبار اليوم يومًا عاديًّا.
وعلِمَت سكرتيرتي بأنّ أمرًا غريبًا يحصلُ فاتصلَت بِمحاميّ الذي خابَرَ بِدوره الشرطة.
وسرعان ما داهمَ رجال الشرطة المنزل ووجدونا على حالنا. ومِن حسن حظّي أنّ العشيق لَم يكن مُسلّحًا ويعتمدُ على عضلاته لِترهيبي ولاحقًا قتلي، وإلا لحصَلَ تبادل نيران أو أخذَني رهينة.
نُقِلتُ إلى المشفى بِسرعة، والسافلان إقتيدا إلى التحقيق ومِن ثمّ إلى السجن حيث هما حتى اليوم.
أمضيتُ حوالي الشهر في المشفى لِبلاغة حالتي وبقيَت منال معي. في البدء ظنَنتُ أنّها تزورُني فقط لإطلاعي على سَير أعمالي وأخذ توقيعي على قرارات مهمّة، إلا أنّني فهمتُ أخيرًا أنّها تُحبُّني. لَم يخطر بِبالي قط أن تكون لدَيها مشاعر تجاهي، لأنّني لَم أرَ فيها يومًا سوى صورة موظّفة نشيطة يُمكن الإعتماد عليها. وها هي تُنقِذُ حياتي وتزورُني يوميًّا وتبقى معي لِساعات طويلة. وتساءلتُ هل يُعقَل أنّ تكون منال هي المرأة المناسبة لي؟
أجل، وبعد أن تبادَلنا بضع أحاديث شخصيّة وتقرَّبنا مِن بعضنا، وجدَنا أنّنا لسنا فقط مُتجانسَين، بل وُلدِنا لِنكون سويًّا. كانت منال في سنّ يُقاربُ سنّي، أي أنّها لَم تعُد تفكّر بالإنجاب ولا تُريدُ سوى أن تُسعدَني وتكون سعيدة معي.
وبعد أن طلّقتُ سهام وتزوّجتُ مِن منال، نعيش سويًّا قصّة حبّ لَم أعرفها مِن قبل. وأدعو الله أن يطيلَ بِعمرَينا لِنستمتع بأكبر قدر ممكن مِن هذا الحبّ القويّ والتفاهم الكامل. فالإنسان يبحثُ أحيانًا عن نصفه الآخر في أماكن عديدة وبعيدة، في حين يكون الحبّ في قلب أقرب شخص إليه.
حاورته بولا جهشان