حضَّرتُ نفسي جيّدًا لذلك الموعد، فأدهم كان رجُلًا وسيمًا وناجحًا وثريًّا، أيّ أنّه يمتلكُ مِن الصفات ما تتمنّاه كلّ صبيّة وامرأة. وعندما جهِزتُ، طلبتُ سيّارة أجرة للذهاب إلى ذلك المطعم الأنيق حيث ينتظرُني أدهم. وأثناء تواجدي في التاكسي، أخذتُ أتذكّر ظروف تعرّفي إليه والأيّام الأولى لعلاقتنا الهاتفيّة. فلقد وجَدنا بعضنا عَبر الانترنِت، وخِلتُ في البدء أنّ الصوَر الموجودة على صفحته لَم تكن له، فكيف لرجُل بهذه الصفات أن يكون عازبًا وعلى موقع للتعارف؟ لكن اتّضَحَ أنّ الصوَر حقًّا له، فازدادَ حماسي وصِرتُ أتبادَل معه الأحاديث هاتفيًّا وكذلك الرسائل. وذلك الموعد في المطعم كان أوّل لقاء لنا شخصيًّا، فرجَوتُ أن يُعجَب بي كما أُعجِبتُ به، فكنتُ أحسبُ نفسي غير جميلة بالنسبة لهكذا رجُل.
دخلتُ المطعم ورأيتُه جالسًا إلى إحدى الطاولات... بصحبة صبيّة! للوهلة الأولى، حسبتُ أنّ ذلك الشخص لَم يكن أدهم، لكنّه أومأ لي بِيَده لأنضمّ إليه، فمَشيتُ نحوَه وأنا أنظُر إلى رفيقته، فتاة في مثل سنّي وجميلة للغاية.
جلَستُ إلى الطاولة ولَم يُعرِّفني على الصبيّة، وتابَعَ معها حديثًا عن الطقس وأمور غير مُهمّة. إنتظرتُ أن يشرَحَ لي ما يجري، لكنّ النادل وصَلَ إلينا ليأخذ الطلبيّة، وأعطاه أدهم التعليمات بالنسبة لِما اختارَه ورفيقته. ولَم يسألَني أحَد ما أريدُ أن آكله، فتلبّكَ النادل وجاء إليّ بقائمة طعام خاصّة بي. إخترتُ طبَق سلطة، لأنّني خَشيتُ أن يُقال عنّي إنّني وقِحة. في تلك الأثناء، تابَعَ أدهم والصبيّة حديثهما وكأنّني لستُ معهما، وبدأَت الدموع تملأ عَينَيّ إلى حين انتبَه أدهم لي أخيرًا، وابتسَمَ كما قد يبتسِمُ لطفلة صغيرة، وأدارَ رأسه عنّي ليبتسمَ أيضًا لرفيقته.
أكلتُ طبَقي بالرغم عنّي فلَم أعُد جائعة، وصمَّمتُ على الرحيل فور انتهائي، رافضةً ضمنًا هذا الكمّ مِن قلّة الاحترام. إضافة إلى ذلك، لَم أفهَم لماذا دعاني أدهم إلى العشاء إن كان قد وجَدَ غيري! قمتُ مِن مكاني شاكِرة الذي دعاني، وهو نظَرَ إليّ باندهاش وكأنّه لَم يفهَم لماذا أنا راحلِة، فأجبرَني على البقاء مُمسِكًا بذراعي. نظرَت إليّ الصبيّة باشمئزاز، وأدارَت وجهها عنّي وابتسمَت لأدهم. بقيتُ جالِسة كالبلهاء إلى حين دفَعَ أدهم الفاتورة، وودّعَ الصبيّة وطلَبَ لي سيّارة أجرة. لَم أقُل له شيئًا لكثرة غضبي، لكن لدى وصولي إلى البيت، هو اتّصَلَ بي هاتفيًّا وقال لي وكأنّ شيئًا لَم يكن:
ـ فرِحتُ بقدومكِ. هل أنّ شعوركِ مُتبادَل؟
ـ ماذا؟!؟ بالطبع لا! ما هذه الدعوة ومَن تلك الصبيّة؟!؟ يا لَيتنَي لَم أذهَب قط! لا أريدُ سماع صوتكَ أو رؤيتكَ بعد الآن!
ـ إهدئي، إهدئي... عليكِ أن تعرفي أنّني إنسان شفّاف وصادِق... دعَوتُكِ ونجاة، الصبيّة الأخرى، لأتمكّن مِن الاختيار بينكما، لأنّني تعرّفتُ إليكما في الوقت نفسه. كان بإمكاني الكذِب عليكِ ورؤية نجاة في وقت آخَر، هل كنتِ تُفضّلين ذلك؟
ـ لا، ولكن...
ـ ربّما أنتِ مُعتادة على الرجال الماكرين الذين يدّعون الصدق.
ـ ليست مسألة اعتياد، بل احترام. لا أظنّ أنّنا مُتفاهمان على هذه النقطة.
ـ ماذا لو أعَدنا عقارب الساعة إلى الوراء وبدأنا مِن جديد؟ آنستي، أنتِ مدعوّة لعشاء فاخِر في أفضل مطعم في البلَد! ولوحدكِ!
وضحِكَ أدهم بعدما قال جملته الأخيرة، الأمر الذي استفزَّني. لكنّني قرّرتُ القبول، كَي لن أندَم لاحقًا لعدَم اعطائه فرصة ثانية.
كان العشاء بالفعل فاخِرًا مِن حيث المكان والطعام. إضافة إلى ذلك، جلَبَ لي أدهم باقة ورود عملاقة، فقرّرتُ مُسامحته. ومِن الغريب كيف أنّ تلك الأمور توحي لنا الكثير مع أنّها صغيرة، ربّما لأنّنا إعتدنا على الرومانسيّة الموجودة في القصص والأفلام، بينما هي بالفعل رمال تُرمى في عيوننا لتحجُب عنّا الحقيقة.
بدأتُ وأدهم نتواعد بصورة مُنتظِمة، وأعترِف أنّه كان يُعاملني باحترام وحبّ، وخِلتُ حقًّا أنّه رجُل حياتي. لكنّني لَم أعرِف حينها أنّه كان أيضًا على علاقة مع نجاة ويُعاملها كما عاملَني. كيف عرِفتُ بالذي يجري؟ منها بالذات! فتلك الفتاة وجدَت رقم هاتفي واتصلَت بي:
ـ إبتعدي عن أدهم، فهو لي!
ـ عذرًا لكن مَن تكونين؟ ومِن أين جئتِ برقمي؟
ـ أنا نجاة، وكنتُ بصحبة أدهم في المطعم في تلك الليلة! أخذتُ رقمكِ مِن هاتِفه، وأريدُكِ بعيدة عنه! أسمِعتِ؟!؟
ـ نحن نتواعد منذ فترة ولن يطول الوقت حتّى نُعلِن خطوبتنا. فعليكِ أنتِ الكفّ عن التفكير به وتخيّل أنّه يُريدُكِ.
ـ هو يُريدُني بالفعل! لقد زارَ أهلي طالبًا منهم يدي، أيّتها الفاسِقة! هو قالَ لي إنّكِ تتّصلين به باستمرار وهو يصدُّكِ.
ـ لقد كذِبَ عليكِ وأستطيع أثبات ذلك لكِ. مهلًا، سأبعثُ لكِ أحاديثنا.
إستوعبَت نجاة أنّ ذلك الرجُل يتلاعَب بنا نحن الاثنتَين، وتبادَلنا المعلومات عن علاقتنا به ثمّ أقفلَت الخط. إتّصلتُ على الفور بأدهم طالبةً منه عدَم التواصل معي بعد ذلك لأنّني عرِفتُ الحقيقة. لكنّه قدَّمَ لي الأعذار والحجَج:
ـ كنتُ لا أزال غير مُتأكّد مِن علاقتنا... أعذريني... ربّما أنا أفتقِد للثقة بالنفس، وأخافُ مِن الوحدة لِذا أحاوِل إبقاء امرأة إلى جانبي... لكن في الأواني الأخيرة صِرتُ أعلَم أنّكِ المُناسبة لي. صدّقيني! سأقطَع علاقتي نهائيًّا مع نجاة وأخطبُكِ في الغد!
إحتَرتُ لأمري، فهو بدا لي صادقًا... ومُقنِعًا، لِذا سامحتُه وقبلتُ بالخطوبة. أرَدتُ الاتّصال بالصبيّة لأعرفَ منها إن هو قطَعَ علاقته بها فعليًّا، لكنّها كانت قد حظرَتني فنسيتُ الموضوع، خاصّة بعدما أغرقَني أدهم بالهدايا والحُلى والكلام الجميل، فلماذا يفعلُ ذلك إن لَم يكن يُحبّني بالفعل؟
تزوّجَ أدهم مِن نجاة بالسرّ طبعًا، بينما كنتُ أتحضَّر مِن جانبي لأصبَح زوجته. لَم أشكّ بشيء على الاطلاق، لأنّه لَم يُغيّر بعاداته تجاهي بل بقيَ يراني كالسابق. وكيف لي أن أعلَم أين يكون ليلًا، حين اعتقدتُه يعيش لوحده؟ ومِن الجانب الآخَر، كانت تظنُّ نجاة أنّ زوجها يذهب مساءً إلى عشوات عمَل ويعودُ إليها كأيّ زوج آخَر. لكن ماذا كان سيفعل بعد أن يتزوّجني؟ كيف كان سيُبرِّر لي ولها غيابه في الليل؟ أظنّ أنّه لَم يحسب جيّدًا ذلك الحساب، إذ أنّه واجَهَ حتمًا معضلة حقيقيّة بهذا الشأن. وحلّه الوحيد كان... إرجاء زواجنا إلى حين يجِدُ حلًّا، أو يُقرّر إلغاءه.
وفي أحَد الأيّام، قالَ لي أدهم إنّه يُفضّل لو نُرجئ زواجنا قليلًا، لأنّ لدَيه سلسلة سفرات إلى الخارج تُلزِمه البقاء حيث هو لأسابيع وأشهر، ولا يجوزُ أن يتركَ عروسه لوحدها. عندها قلتُ له بمُنتهى الصراحة:
ـ لا عليكَ... سأُرافقُكَ أينما ذهبتَ يا حبيبي، فمكان الزوجة هو مع زوجها. إضافة إلى ذلك، أنا أحبّ السفر وأنا مُتأكّدة مِن أنّني سأجدُ مئة شيء أفعله أثناء قيامكَ بعملكَ.
نظَرَ إليّ بشيء مِن الاندهاش والقلَق، ثمّ ابتسَمَ ليّ قائلًا: "أنتِ رائعة بالفعل، ماذا أفعل مِن دونكِ؟". لكنّه كان داخليًّا غاضبًا مِن جوابي فاتّخَذَ قرار تركي نهائيًّا. واليوم أعتبرُ ذلك خدمة قدّمَها لي، فتصوّروا حياتي لو بقينا سويًّا! إنسان غشّاش وكاذِب وماكِر!
بدأ أدهم يبتعدُ عنّي تدريجيًّا ولَم أعرِف السبب آنذاك، فقرّرتُ أن أقصده في مقرّ عمَله للتحدّث معه وجهًا لوجه. لكن لحظة وصلتُ إلى أمام الشركة، رأيتُه خارجًا منها بسيّارته فلحِقتُ به... إلى بيته الزوجيّ! فلقد خرجَت نجاة مِن باب البيت لتُرحّب به... وبطنها كبير! ثمّ هما تعانَقا ودخَلا البيت. شعرتُ وكأنّ السيّارة تنغلِقُ عليّ مِن كثرة اندهاشي وغضَبي وحيرَتي، ثمّ بدأتُ بالبكاء. أدَرتُ المُحرّك وقصدتُ بيت قريبة لي طالبة منها الإذن باستعمال هاتفها. وبعثتُ لزوجة أدهم كلّ الرسائل والصوَر التي تبادَلتُها مع أدهم والتي مُفادها أنّنا كنّا نتواعد ومخطوبَين ومُتحابَّين، ثمّ حظرتُها على الفور مُجدّدًا كَي لا تُزعِج قريبتي وتشتُمها، بعد أن تعلَم أيّ رجُل هو زوجها. أمّا بالنسبة لأدهم، فهو لَم يعرِف بشيء، على الأقل قَبل أن تُقرّر زوجته ما ستفعله به، فتابَعَ كلام الحبّ معي عن بُعد، مِن دون أن يُعطيني أيّ موعِد. لكنّني طلبتُ منه أن يتركني وشأني لأنّني وجدتُ حبًّا آخَر، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا طبعًا، إلّا أنّني كنتُ أريدُ أن أكون مَن سيُنهي العلاقة وليس هو.
في تلك الأثناء، أقنعَته الزوجة، حين رأى مولوها النور، بتسجيل البيت باسمها كعربون حبّ وامتنان للولَد الجميل الذي أعطَته له. بعد ذلك، هي طلبَت الطلاق وواجهَته بالذي تعرفه عن علاقته بي خلال زواجهما وحَملها، وهدّدَته بفضحه بين الناس وموظّفي الشركة والعملاء. جمَعَ أدهم أمتعته بسرعة وترَكَ البيت... واتّصَلَ بي. هو عاتبَني لأنّني دمَّرتُ زواجه، إلّا أنّه تابَعَ قائلًا إنّه لَم يُحِبّ سوايَ، وأنّني بالفعل المرأة التي لطالما أرادَها. لكنّني لَم أكترِث له، بل أكَّدتُ له أنّني سعيدة جدًّا مع حبيبي الجديد، الوهميّ.
مرَّت الأيّام والأسابيع والأشهر، وإذ بي ألتقي بأدهم صدفةً في أحَد المطاعم... وكانت برفقته صبيّتان، تمامًا كما جرى لي ولزوجته السابقة في ما مضى. يا لسخرية القدَر! وبكلّ ثقة، توجّهتُ إلى الطاولة حيث هم، وجلَستُ معهم قائلة للصبيّتَين:
ـ إنّه يتلاعب بكما كما فعَلَ معي... وسيُتابِع علاقته معكما في الآن معًا، ويوهمُكما بأنّه اختارَ واحِدة منكما... إن كنتما لا تُصدّقاني، فهذا رقمي وباستطاعتي أن أرسل لكما كلّ أحاديثي مع ذلك الماكر وزوجته. القرار قراركما.
نظَرَ أدهم إليّ باندهاش فاتحًا فمَه لكثرة ارتباكه، فابتسَمتُ له قائلة: "إذهب وتعالَج، فأنتَ حتمًا مريض". إتّصلَت بي الصبيّتان ووفَيتُ بوعدي لهما. لكنّني على يقين أنّ أدهم وجَدَ ضحايا أخرى، لأنّه بالفعل يُعاني مِن مُشكلة نفسيّة.
أمّا بالنسبة لي، فلقد تعرّفتُ إلى شاب أعرفُ أصله وفصله وكلّ ما يجب معرفته لأتأكّد مِن سلوكه، وابتعَدتُ نهائيًّا عن مواقع التواصل حيث يختبئ المُفترسون المرضى.
حاورتها بولا جهشان