نظَرتُ مِن حَولي في غرفة انتظار الطبيب، فوجدتُ السكرتيرة تبتسمُ لي بتركيز غير اعتياديّ. كانت تلك أوّل مرّة أقصدُ فيها هذه العيادة بالتحديد بسبب ألَم في معدتي، إلا أنّ أيّة موظّفة إستقبال لَم تُبدِ مِن قَبل أيّ اهتمام خاصّ بي. ردَدتُ لها الابتسامة، فأومَت لي برأسها لأقترِب منها. تركتُ مقعدي بينما حدّقَ بي المرضى الآخَرون، ورحتُ أقِف أمام مكتب المرأة التي قالَت: "إجلِس!". جلَستُ على الكرسيّ جنبها وكأنّني تلميذ يُنفّذ أمر مُدرِّسته. فالحقيقة أنّ السيّدة سميرة، السكرتيرة، كانت طويلة القامة وجسيمة البنية، فلا إمكانية للمُجادلة معها. ثمّ هي قرّبَت فمها مِن أذُني وهمسَت فيها:
ـ أنتَ محامٍ، أليس كذلك؟
ـ صحيح ذلك يا سيّدتي.
ـ حسنًا، حسنًا... إذًا أنتَ الرجُل المُناسِب للمُهّمة... كَم عمركَ؟
ـ هل ذلك مهمّ؟
ـ كَم عمركَ!
ـ عمري مكتوب في ملفّي عندك، فلقد ملأتُه لدى دخولي.
ـ كفى تضييع لوقتي، أجِب!
ـ أربعون سنة تقريبًا.
ـ حسنًا... إذًا لدَيكَ خبرة كفاية.
ـ ما الموضوع؟ فسيأتي دوري لرؤية الطبيب بين دقيقة وأخرى.
ـ هذا لا يهمّ... سأُدخِل مريض آخَر مكانكَ.
ـ لدَيّ عمَل يا سيّدتي.
ـ عملكَ هنا معي! إسمَع، لا أحَد ولا شيء يأتي قَبل مصلحة إبنتي! أفهِمتَ؟
ـ أجل... أعذريني... ما الموضوع؟
ـ لا يمكنُني التحدّث الآن... خُذ عنوان بيتي وتعال إليّ بعد أن أُنهي دوامي هنا.
ـ لِما لا تأتين إلى مكتبي؟
ـ لأنّني لا أُريدُ ذلك. أنا بانتظاركَ هذا المساء. وإيّاكَ أن تتأخّر! وإلا...
ـ وإلا ماذا؟!؟
ـ وإلا ستضطرّ لإيجاد طبيب آخَر.
للحقيقة، تفوّقَ فضولي على استيائي مِن تصرّفات السيّدة سميرة، لِذا لَم أغضَب منها كثيرًا. بعد دقائق، دخلتُ إلى غرفة المُعاينة، وأعطاني الطبيب الجديد وصفة بعد أن اطّلَعَ على نتائج فحوصاتي. ولدى خروجي، قالَت لي السكرتيرة: "أنا بانتظاركَ"، فأسرعتُ بنزول السلالم والركوب في سيّارتي.
قضيتُ اليوم في مكتبي، ثمّ رحتُ إلى العنوان المذكور على مهلي، فعلى كلّ الأحوال لَم يكن أحَد بانتظاري في بيتي، فكنتُ أعيشُ لوحدي بعد موت والدَيّ. لَم أتزوّج أبدًا، فلَم أكن أؤمِن بالزواج كما لَم أجِد التي بإمكانها تغيير رأيي.
أدخلَتني سميرة بسرعة، وأقفلَت الباب ورائي بعدما نظرَت يمينًا ويسارًا في ردهة السلالم، وخفتُ قليلاً مِن هذا الحرص المُفرَط.
في الصالون، كانت تجلسُ صبيّة حسناء وعلى وجهها علامات القلَق الشديد. ودخَلَت سميرة في صلب الموضوع مُباشرة، فقالَت:
ـ إبنتي حامِل.
ـ ألف مبروك.
ـ مِن رجُل مُتزوّج... الفاسِقة! لولا خوفي مِن عقاب الله لقتَلتُها بيَدَيّ! الأب هو الطبيب نفسه الذي قصَدتَه اليوم.
ـ يا إلهي... وكيف...
ـ هي كانت تعمَل لدَيه فوعدَها وغشَّها واقنعَها. الفاسقة!
ـ وماذا تُريدين منّي؟
ـ يا للسؤال الغبيّ... هل أنتَ مُتأكّد مِن أنّكَ مُحامٍ؟!؟ أريدُكَ أن ترفَع قضيّة ضدّه لأنّه لا يُريدُ تصليح غلطته أو حتى الاعتراف بولَده... يخافُ مِن زوجته، فهي تملكُ الكثير!
ـ حسنًا... يُمكننا الانتظار حتّى يولَد الجنين ونقوم بفحص الحمض النوويّ. كَم مضى على الحَمل؟
ـ شهر... أو أكثر بقليل... ونعم، تأكّدنا مِن الأمر. لقد منَعتُ ابنتي مِن العمَل لدى الطبيب حالما عرفتُ أنّها... أنّها عاشرَته! الفاسِقة! أخذتُ مكانها لأنّنا بحاجة إلى ذلك الراتب ومنعتُها مِن التحدّث معه! لكن بعد اسبوعَين، إعترفَت لي بأنّها قد تكون حامِل. أجرَينا الفحص في البيت وجاءَت النتيجة إيجابيّة. إتّصلَت به إبنتي، تلك...، وهو منعَها مِن الاقتراب منه بل أمرَها بأن تجري إجهاضًا، والاجهاض جريمة! لا يعلَم الطبيب أنّني أعرف ما فعلَه بابنتي. فأنا أتصرّف بطريقة طبيعيّة جدًّا، وهو يخال أنّ تلك الغبيّة لا تزال تُبقي علاقتها به سرّيّة عنّي.
ـ حسنًا... سأكلّمه، فقد أقنِعه بأن نحلّ المُشكلة بعيدًا عن المحاكم. دعي الأمر لي.
ـ لا نملكُ الكثير مِن المال.
ـ لا عليكِ.
في اليوم التالي، أعطَتني سميرة موعدًا مع الطبيب في ساعة مُبكرة جدًّا، أيّ قَبل أن يأتي المُرضى الآخَرون. دخلتُ غرفة المُعاينة وعرّفتُه عن نفسي رسميًّا، أي ليس كمريض بل كمُحامٍ، وطلبتُ منه الاعتراف بولَده والزواج مِن الأم، إن أستطاع. تغيّرَت ملامح الأخصّائي فبدأ يصرخُ ويُهدّد إلى حين قلتُ له: "أتُفضّل الفضيحة والمحاكم؟". عندها هدأ قليلاً ومِن ثمّ بدأ بالبكاء لشدّة خوفه مِن زوجته. للحقيقة، لَم آسَف مِن أجله، فهو أغوى صبيّة ووعدَها بالحبّ الأبديّ والزواج ليصل إلى مُبتغاه، أيّ أنّه بالنسبة لي أبشَع صنف مِن الرجال. طلَبَ منّي الطبيب مُهلة للتفكير ولدراسة وضعه وقبِلتُ معه. بعد ذلك، خرجتُ مُرتاحًا مِن الغرفة وهمَستُ لسميرة: "سيُفكّر بالأمر". خلال النهار، طرَدَ الطبيب سميرة، بعد أن فهِمَ أنّها على عِلَم بحَمل ابنتها وأنّها مَن استعانَ بخدماتي، وهي وعدَته بإحداث فضيحة كبيرة له.
صِرتُ أتردَّد إلى بيت سميرة لمُناقشة الموضوع، ووضع خطَط لصدّ أيّ مُحاولة تهرّب مِن جانب الأب. بقيَت الابنة صامتة وحزينة واستنتجتُ أنّها بالفعل غبيّة، على خلاف أمّها.
بعد أسابيع، طلبَني الطبيب للتحدّث معي، وتفاجأتُ بوجود سميرة عند الاستقبال بعد أن تمّ طردها. لَم يتسنَّ لي سؤالها عن الموضوع، لأنّني دخلتُ على الفور غرفة المُعاينة. قال لي الأخصّائيّ إنّ لا خوف مِن أيّة دعوى بعد أن تمّ إجهاض تلك الصبيّة فلَم يعُد هناك جنين! غضبتُ منه كثيرًا وأجبتُه أنّ الدعوى بإمكانها أن تبقى قائمة إذ أنّه غشّ صبيّة وجعلَها حاملاً ثمّ أرغمَها على الاجهاض. وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين قال لي:
ـ أنتَ مُخطئ يا أستاذ... فأنا لَم أُجبِرها على الاجهاض، بل أنتَ فعلتَ.
ـ أنا؟!؟ هل فقَدتَ عقلكَ؟!؟
ـ إسأل أمّها الجالسة خارجًا وهي ستؤكّد لكَ كلامي. سميرة! سميرة! تعالي إليّ مِن فضلكِ.
دخلَت الأمّ مِن دون أن تنظُر إليّ، ثمّ سألَها الطبيب:
ـ يا سميرة... مَن أقنَعَ ابنتكَ على إسقاط جنينها؟
ـ هو فعَلَ... أجل... ذلك المُحامي المُحتال!
ـ ومَن كان والد الجنين؟
ـ هو أيضًا!
لَم أفهَم في البدء أنّها تعنيني بكلامها مع أنّها كانت تُشيرُ إليّ بإصبعها. ثمّ استوعَبتُ ما يجري فانتابَني غضب شبيه بالجنون وبدأتُ أصرخ بها:
ـ هل فقَدتِ عقلكِ؟!؟ ما هذا الكلام؟ لماذا بدّلتِ رأيكِ؟ هل مِن أجل الحفاظ على عملكَ أمّ أنّه أعطاكِ مالاً؟!؟
ـ لا أعرفُ عمّا تتكلّم يا أستاذ... لكن عليكَ أن تخجَل مِن نفسكَ! فإنّكَ سرقتَ براءة صغيرتي الحبيبة!
ـ هي نفسها التي كنتِ تُلقّبينَها بالساقِطة؟
ـ لا أسمَح لكَ! إبنتي هي ضحيتكَ! لقد حذّرَني منكَ جيراني الذين كانوا يرونكَ تأتي وتذهب إلى ومِن بيتنا. لقد وثقنا بكَ، لكنّكَ استمَلتَ صغيرتي وسلَبتَ منها عذريّتها وحمِلَت بجنينكَ... إلى حين أنتَ هدّدتَها وأرغمتَها على الاجهاض. مكانكَ في السجن!
ـ ومكانكِ في جهنّم! يا للمرأة القذِرة! تريدين تدمير سُمعتي لتنالي ما وعدَكِ به الطبيب؟ أليس لدَيكِ أيّ ضمير؟
ـ كلامُكَ لن يُغيّر رأيي بكَ يا أستاذ... عليكَ إصلاح غلطتكَ إمّا بالزواج مِن ابنتي أم بدفع تعويض لنا للضرَر الجسديّ والمعنويّ الذي أحدَثتَه لها! وأنتَ تعلَم أنّ المحكمة ستحكمُ لصالحنا.
طيلة حديث سميرة كان الطبيب يبتسمُ مِن كثرة امتنانه مِن سكرتيرته بعد أن ردَّدَت ما لقّنَها لتقوله، الأمر الذي أنقذَه مِن الفضيحة وربّما من الطلاق. لَم أصدِّق كيف أنّ أمًّا تُتاجِر هكذا بشرَف ابنتها وتنقلِب ضدّي بعد أن فعلتُ جهدي لمُساعدتها وحلّ مُشكلتها. خرجتُ بسرعة مِن العيادة وأنا على شفير البكاء.
شعرتُ وكأنّ السماء تهبطُ على رأسي، فكيف لذلك أن يحصل لي؟ فلطالما كنتُ شابًّا خلوقًا وطيّبًا وأعمَل على إرضاء الله؟!؟ هل كان هذا جزائي؟ رحتُ البيت أحبِسُ نفسي وأفكّر بالمُصيبة التي حلَّت بي. إتّصَلتُ بعد ساعات بأستاذي القديم الذي ساندَني وعلَّمَني القانون في الجامعة، ورويتُ له بالتفاصيل ما حلّ بي. هو أسِفَ لي كثيرًا ووبّخَني لأنّني سمحتُ لمشاعري وقلبي الطيّب بالحلول مكان مهنيّتي، ففي رأيه لَم يكن يجدرُ بي التعاطي مع سميرة وابنتها خارج مكتبي وبدون شهود أو محضَر يوثِّق تمامًا ما جرى. لكنّه وعدَني بمُساعدتي وأخذَ منّي المعلومات كلّها المُتعلّقة بسميرة، بإبنتها وبالطبيب. أكلَني الهمّ وبدأتُ أتصوّر نفسي مُتزوّجًا مِن صبيّة لا أُريدُها، ورهينة ابتزاز قد يدوم إلى الابد.
بعد حوالي الأسبوع، إتّصَلَ بي أستاذي وأعطاني موعدًا في مكتبه، طالبًا منّي عدَم التأخّر لكثرة أعماله. وصلتُ المكتب في الوقت المذكور، فوجدتُ هناك سَرب مِن المُحاميّين أيضًا. جلستُ وسطهم بصمت إلى حين وصلَت سميرة وابنتها. تفاجأت المرأتان بهذا الكمّ مِن الرجال بانتظارهما، وفهِمتا أنّ ذلك الموعد ليس لصالحهما بل للإيقاع بهما. كنتُ الوحيد الذي كان يجهل تمامًا ما يحدث أو ما سيحدث. عندها تكلَّمَ أستاذي السابق:
ـ سيّدة سميرة... ترَين أنّنا لسنا لوحدنا هنا، بل هناك شهود كثيرون... وسأطلبُ منكِ التوقيع على رفع مسؤوليّة موكّلي مِمّا تّتهمينه به. فكلّنا نعلَم أنّه ليس أب الجنين الذي لَم يعُد موجودًا، وأنّه لَم يطلب مِن ابنتكِ إجهاضه.
ـ بلى!
ـ إن بقيتِ مُصرّة على أقوالكِ، فسيُسِرّ هؤلاء المُحامون بتدميركِ وابنتكِ في المحكمة. لن نرحمكِ صدّقيني، فهذا الشاب هو بمثابة إبني ولن أدَع أحدًا يؤذيه. ما لا تعرفينه، هو أنّ لدَيه تسجيلاً صوتيًّا لكِ وأنتِ تروين له ما حدَثَ لابنتكِ عندما دعَوتِه في ذلك المساء إلى بيتكِ، وسنُقدّم ذلك التسجيل للقاضي. عندها، ستواجهين، إضافة إلى الفضيحة، تهمّة الادّعاء زورًا والايقاع بغرض الابتزاز، وقد تُسجَنين وابنتكِ. ما رأيكِ؟
خافَت سميرة كثيرًا وشتمَتني قائلة إنّني مُحتال حقير. بعد ذلك، وقّعَت على رفع المسؤولية عنّي وغادَرَت وهي تنعَت ابنتها ليس فقط بالفاسِقة بل بالغبيّة، لأنّها صدّقَت أنّ خطّة الطبيب ستنجَح وأقنعَتها بوجوب الإجهاض، فلو بقيَ الجنين في بطنها، لاستطاعتا نَيل المزيد مِن المال مِن الأب. ذُهِلتُ لهذا الكمّ مِن قلّة الأخلاق، وعدَم احترام لحياة ذلك الجنين المسكين الذي فقَدَ حياته مِن أجل حفنة مِن المال.
اليوم لدَيّ بدوري مُحامون أُدرّبُهم، وأقصُّ لهم ما جرى مِن دون الذكر بأنّني كنتُ مَن أوقِعَ به، وذلك ليحترسوا من موكّليهم لكن مِن دون أن يفقدوا إنسانيّتهم. فالمظاهر غشّاشة والمال هو بالفعل مُغرٍ، فلا يسعُنا الوثوق بكلّ موكِّل يأتي إلينا.
لكن ماذا حدَثَ لسميرة وابنتها؟ سمِعتُ أنّ الابنة وجدَت عريسًا وسافرَت معه بعيدًا، وأنا مُتأكّد مِن أنّ ذلك العريس وقَعَ ضحيّة مكيدة حاكَتها الأمّ. أرجو له أن تكون الابنة أفضل مِن سميرة، ليعيش سعيدًا مع زوجته ولو بعض الشيء.
حاورته بولا جهشان