أمي ممثلة بارعة!

بداية مسيرتي الزوجيّة كما أسمَيتُها، كانت مصبوغة بالندَم والخذلان. فقد نُصِبَ لي فخٌّ ثمّ تخلّى عنّي أقرَب الناس إليّ. وستفهمون ما أعني بعدما تقرأون قصّتي، وأرجو أن تتّعظوا منها.

كنتُ آنذاك شابًّا طموحًا ومُتفائلاً، فلَم أتردّد في قبول فرصة عمَل في أفريقيا. حزَمتُ حقائبي وودّعتُ أهلي، وطرتُ إلى بلَد لا أعرِف عنه شيئًا سوى أنّ راتبي كان كبيرًا والخبرة التي سأكتسبُها مُهمّة للغاية. هناك اندمجتُ على الفور مع سكّان ذلك البلَد الجميل، وصارَ لي أصدقاء وعلاقة جيّدة مع زملائي ومُديري. إلا أنّ والدتي خافَت أن أقَع في حبّ إحدى الفتيات هناك وأتزوّجها، لذلك دبّرَت لي صبيّة مِن بلَدنا بعدما أذاعَت الخبَر مِن حولها لإيجاد العروس المُناسِبة. للحقيقة، عروستي كانت مِن بلدة بعيدة عن أهلي، لكن الذين أشاروا إليها أكّدوا لأهلي أنّها فتاة مُمتازة وخلوقة، وأنّ أهلها أناس ذوو مقام كبير. لَم أعرِف ما كان يتدبّر لي إلى حين وصلَني خبَر سوء حالة أمّي الصحّيّة، فركِبتُ أوّل طائرة لأراها. لكنّها بقيَت تدّعي المرَض طوال مكوثي إلى جانبها. وهي قالَت لي:

 

ـ أتُحبُّني يا ولَدي؟

 

ـ بالطبع يا ماما! وأكثر مِن أيّ إنسان آخَر!

 

ـ قد أموتُ قريبًا... لدَيّ طلب واحد... وأرجو ألا ترفضه لي.

 

ـ أطلبي يا ماما وسأفعل ما تُريدينَه!

 

ـ أريدُ أن تتزوّج مِن صبيّة إسمها ندى... دعني أكمِل... إنّها صبيّة مُمتازة ومُناسبة لكَ.

 

ـ لكنّني لا أنوي الزواج الآن!

 

ـ آههه... قلبي! أشعرُ أنّ ساعتي دنَت! عِدني يا ابني... فحلمي أن أراكَ عريسًا قَبل أن أُغادِر هذه الدنيا... تعرَّف عليها على الأقل.

 

ـ حسنًا يا ماما، إرتاحي الآن.

 

لَم أكن مسرورًا على الإطلاق، لكن كيف لي أن أرفض طلَب أمّي العزيزة وهي بهذه الحالة؟ فالكلّ أكَّدَ لي أنّها مريضة للغاية وأنّ الأطبّاء لا يستطيعون إنقاذها. رأيتُ ندى وهي أعجبَتني، على الأقلّ في ما يخصّ الشكل والقوام. لكن لَم يتسنَّ لي التعرّف على شخصيّتها وطباعها، لأنّها كانت دائمًا بصحبة أحد أفراد عائلتها أو عائلتي حين نلتقي. بقيتُ في البلَد أسبوعَين، وتمّ عقد قراني على ندى قَبل يوم مِن عودتي إلى افريقيا. جئتُ البلد عازبًا وغادرتُه مُتزوّجًا ولَم أكن مُرتاحًا أبدًا للأمر!

حضّرتُ أوراق زوجتي وهي وافَتني إلى حيث أنا. للحقيقة، لَم أشعُر بأيّ شيء تجاهها، لكنّني ظننتُ أنّ الأمور ستتحسّن مع الوقت. ففي آخِر المطاف، كنتُ لوحدي معها في البيت نفسه ولا بدّ لنا أن نتوافق. أمّا بالنسبة لندى، فهي بدَت لي سعيدة ومُستعدّة للعب دور الزوجة.

لكن اتّضَحَ أنّ لدى زوجتي أطوارًا غريبة قبِلتُ بها في البدء لأنّها قد تكون جزءً مِن طباعها أو تربيتها، لكن مع الوقت أدركتُ أنّ شيئًا غير طبيعيّ يجري. فهي كانت مُهتّمة فوق العادة بالنظافة عامّة، وتَغسِلُ كلّ شيء مرّات عديدة بما فيه جسدها. إضافة إلى ذلك، لاحظتُ مرارًا أنّها تُكلّم نفسها بعد أن اعتقدتُ أنّها تُتمتِم أغنية ما. لكن في إحدى المرّات حين سألتُها مع مَن تتكلّم، إستدارَت نحوي وقالَت لي بغضب واضح: "ألا ترى أنّني وسط مُحادثة؟!؟ يا لقلّة الذوق!"، ثمّ أكملَت مُحادثتها الوهميّة. لَم أصدِّق أذنَي، لكنّني عدتُ وقلتُ لنفسي إنّها تُمازحُني! إلا أنّ نظرتها عندما صرخَت بي كانت بالفعل مليئة بالامتعاض، فقرّرتُ مُراقبتها. ويومًا بعد يوم، فهمتُ أنّ ندى تُعاني بالفعل مِن خطب ما، الأمر الذي أخافَني.

إتّصلتُ بوالدتي التي، بفعل سِحر ما، إستعادَت عافيتها بعد زواجي، وسألتُها إن كانت حقًّا قد سألَت عن ندى جيّدًا، لأنّ التي تزوّجتُها لا تبدو لي صحيحة العقل. أقسمَت لي أمّي أنّ ندى في أفضل حال عقليًّا، بل أنّ عقلها يزِنُ بلَدًا بأكمله! عندها أخبرتُها عمّا يجري، إلا أنّها وجدَت لكنّتها مئة عذر وتفسير.

وذات يوم، حين عدتُ مِن عمَلي إلى البيت، وجدتُ زوجتي وسط الصالون مُستلقية على الأرض وحولها عدَد لا يُحصى مِن الشموع المُضاءة. نادَيتُها مرّة ومرّتَين إلا أنّها بقيَت مكانها، فخفتُ عليها... ومنها! عندها صرختُ بها فوقفَت بسرعة مُعاتِبة وبدأَت تعتذر مِن أناس غير موجودين على تصرّفي الفظّ. طفَحَ كَيلي، فسحبتُها مِن ذراعها إلى المطبخ، وسألتُها عمّا كانت تفعله ومع مَن تتكلّم. وهي أجابَت:

 

ـ أنا حامِل يا حبيبي!

 

ـ ماذا؟!؟ منذ متى؟ على كلّ الأحوال، سنتكلّم بالموضوع لاحقًا. لكن أجيبي الآن على أسئلتي.

 

ـ كنتُ أشكرُهم على مسألة حَملي.

 

ـ تشكرين مَن؟

 

ـ الستَ سعيدًا بالخبَر؟ ستصبح أبًا!

 

ـ ما بكِ لا تتكلّمين! أجيبي!

 

ـ سأحضِّر لكَ العشاء يا حبيبي.

 

هل أنّ هرمونات زوجتي هي التي تؤثِّر على تصرّفاتها وعقلها؟ أو أنّ أم جنيني حقًّا مجنونة؟!؟

ولأعرِف الجواب، أخذتُ ندى إلى طبيب نفسيّ، بعدما قلتُ لها إنّه أخصّائي حَمل لدَيه طريقة علاج حديثة. ولأنّها صدّقَتني فقد رافقَتني. وفي العيادة، قامَ الطبيب بالتكلّم معها طوال ساعة بكاملها بينما انتظرتُ في الخارج.

قال الطبيب إنّ ندى تُعاني مِن انفصام الشخصيّة وإنّها على الأرجَح ليست بحامِل. صُعِقتُ بالخبَر إذ أنّني لَم أكن أعلَم كيف أتعامَل مع هذا الوضع. بعد ذلك، رحنا إلى طبيب نسائيّ الذي أكَّدَ عدَم وجود حَمل.

بدأتُ أعطي ندى علاجها على شكل أقراص عليها أخذها بانتظام، بعد أن أقنعَتُها بأنّها للحَمل، فلَم أقُل لها إنّها لا تحمِلُ جنينًا في بطنها. لاحظتُ تحسّنًا لدَيها فتأمّلتُ بالخير. للحقيقة، كنتُ مشغولاً جدًّا في تلك الفترة، بعد أن قرّرتُ فتح شركتي الخاصّة، وآخِر شيء كنتُ بحاجة إليه هو زوجة مريضة نفسيًّا. مرّة أخرى خابَرتُ والدتي، وسألتُها مُجدّدًا عن ماضي ندى بعد أن أخبرتُها عن حالتها. وكلّ ما قلَته لي كان:

 

- قالوا لي إنّها فتاة مُمتازة... حين تأخذ دواءها.

 

ماذا؟!؟ كانت والدتي على عِلم بمرض ندى النفسيّ وأخفَت عنّي الأمر، بل أقنعَتني بالزواج منها تحت ذريعة أنّها على شفير الموت؟!؟ مهلاً... ألَم تشفَ أمّي بصورة مُفاجئة ودائمة؟!؟ ولمّا أدركتُ فظاعة اللعبة التي كنتُ ضحيّتها، شعرتُ بالوحدة والضياع، وقرّرتُ إرسال زوجتي إلى أهلها.

أقنَعتُ ندى أنّ عليها زيارة بلَدنا وذويها لأنّهم حتمًا إشتاقوا كثيرًا إليها، وهي ركضَت تُحضِّرُ حقائبها. إنتظرتُ حتّى وصلَت زوجتي إلى بيت أهلها لأُخابرهم وأُطلعهم على نيّتي بتطليق إبنتهم، لأنّهم غشّوني بمُساعدة والدتي، وأنّ مرَض إبنتهم النفسيّ قد يُشكِّل خطرًا عليّ وعلى أيّ ولَد حقيقيّ قد نُنجِبه.

بدأَت الاتّصالات تصلُني مِن كلّ جهة، خاصّة مِن جانب أمّي بعد أن علِمَت ما فعلتُه، إلا أنّني لَم أُجِب. قطعتُ إتّصالي أيضًا بأفراد عائلتي الذين اشتركوا حتمًا بكذبة مرَض أمّي فهم أكّدوا لي آنذاك أنّها تُحتضَر. لماذا فعلوا بي ذلك؟ كَي لا أتزوّج مِن صبيّة أفريقيّة؟ وهل الزواج مِن فتاة مُضطرِبة نفسيًّا أفضَل؟!؟

ثمّ وصلَني خبَر انتكاس صحّة أمّي مِن جديد، لكنّني لَم أقَع في الفخ هذه المرّة لأنّني تعلّمتُ الدرس. كنتُ قد طلّقتُ ندى وصبَبتُ انتباهي وجهودي على شركتي الجديدة، فاتّضَحَ لي أنّ عليّ الاتّكال كلّيًّا على نفسي بعدما ثَبُثَ لي أنّني وحيد، لا عائلة لي أستطيع الاتّكال عليها ولا أحد غيرها.

ثمّ أخذَت حياتي مُنعطفًا جديدًا حين تعرّفتُ إلى "آشا"، وهي فتاة أفريقيّة جميلة رأيتُها عندما قصَدتُ شركة أبيها لإبرام اتّفاقيّة تعاون معه. لَم يسَعني تجاهل تلك الصبيّة، فبريق عَينَيها كان آخّاذًا وكذلك بسمتها الصريحة والمُريحة. جرى الاجتماع بصورة جيّدة، وهنّأني الأب على شجاعتي لتأسيس شركة في سنّي، ووعدَني بأنّه سيُساعدني وبعتبرُني بمثابة ابنه. وهذا التعامل الدائم بيننا أتاحَ لي التعرّف أكثر على آشا وعلى خصالها الحميدة. إضافة إلى ذلك، كانت آشا إنسانة ذكيّة للغاية، وتعرفُ الكثير مِن الأمور خاصّة في مجال الأعمال. تقرَّبنا مِن بعضنا وانتهى بي المطاف أن طلَبتُ يدَها مِن أبيها. لكنّني كنتُ مُدركًا أنّ ذلك الزواج سيجلِبُ لي امتعاض كلّ معارفي وأهلي في البلَد. لكن ما دخل لون البشرة في العلاقات الإنسانيّة؟ ولو تزوّجتُ مِن أوروبيّة أو أمريكيّة هل كنتُ سألقى الامتعاض نفسه؟

وكما توقّعتُ، صُعِقَ الجميع بخبَر خطوبتي لفتاة أفريقيّة، وتعالَت الأصوات عبر الهاتف، ووعدَتني أمّي بأنّها ستعتبرُني ميّتًا لو أقدَمتُ على الزواج مِن آشا. وهي أضافَت:

 

ـ والأولاد الذين سيولَدون مِن زواجكم؟!؟ سيولودن داكني اللون! يا إلهي ما هذه الفضيحة؟!؟

 

ـ أيّة فضيحة يا ماما تتكلّمين عنها؟ تزويجكِ لي بفتاة مريضة نفسيًّا تُكلّم أناسًا وهميّين وتعتقِد أنّها حامِل... أو إيقاعكِ بي وتمثيل دور الأمّ المُحتضِرة؟؟؟

 

ـ يا لَيتني لَم أوافِق على سفركَ إلى تلك القارّة اللعينة!

 

ـ أنتِ نسيتي على ما يبدو أنّكِ شجّعتِني على السفَر، بعدما علِمتِ بالمبلَغ الذي سأتقاضاه، وكيف سأتمكّن مِن إرسال المال الوفير لكِ ولإخوَتي. أسألُ نفسي أحيانًا إن كنتِ تعتبريني وسيلة راحة لكم جميعًا وحسب، وكيف تُعطي لنفسكِ الحقّ بالتلاعب بمصيري. أحبُّ آشا وأُريدُها زوجة لي ولن يقِف أحد بوجهي. هي صحيحة العقل والبُنية وتتمتّع بذكاء خارِق. وإضافة إلى كلّ ذلك، هي تُحبُّني كثيرًا ونحن مُتّفقَان على كلّ الأصعدة. وأظنّ أنّ تلك المواصفات هي التي تُنجِح الزواج.

 

ـ سأموتُ بسببكَ!

 

ـ بل ستعيشين وتلاعبين أولادي.

 

ـ لن يحصل ذلك أبدًا! أنتَ لَم تعُد ابني منذ هذه اللحظة!

 

تزوّجتُ آشا وعشنا سعيدَين مع ولدَينا الجميلَين. وازدهَرَت أعمالي لتطال أنحاء البلاد كلها، وشكرتُ ربّي على مُساندته لي. بقيتُ أرسلُ المال وأخباري لأمّي وصوَر ولدَيّ إلا أنّها لَم تتفاعَل معي... إلى حين أرسلَت لي ذات يوم: "ألا تُريدُ رؤية أمّكَ المريضة؟ فأنا قد أموتُ في أيّ وقت... إجلِب معكَ عائلتكَ". إبتسَمتُ لدى قراءتي الرسالة، وكيف أنّ أمّي لا تزال تستعملُ مسألة مرَضها المزعوم وموتها القريب للتأثير عليّ، فسافرتُ وزوجتي وولدَيّ إلى البلَد.

إستقبال والدتي لعائلتي كان فاتِرًا في البدء، لكنّ آشا بحكمتها عرفَت كيف تستميل أمّي، خاصّة أنّها كانت قد تعلّمَت لغتنا بعد زواجها بي. فسرعان ما بدأَت والدتي تُلاعِب ولدَيّ وتُقبّلهما ، فامتلأت عينايَ بالدموع. وأخيرًا إصطلحَت الأمور بيننا، واستوعَبت أمّي أنّ ما يهمّ هو الوفاق وليس الجنسيّة أو العِرق.

زارَتني أمّي مرارًا في افريقيا وأحبَّت البلَد كثيرًا، وخاصّة أفراد عائلة آشا الذين استقبلوها بأذرع مفتوحة وعرّفوها على حضارتهم. هي لا تزال في صحّة جيّدة ولا تنفكّ تحثُّني على إنجاب ولد ثالِث!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button