منذ صغري، راحت والدتي ترسّخ في ذهني مبادئ نضال الجنس الضعيف للاستمرار في الحياة، فهي قد وُلدت في حقبة تمنح السلطة المطلقة للرجل وراحت تنتظر اللّحظة المناسبة للانتقام.
لطالما تحمّلها والدي بصبر وصمت، حتّى إنّني أظنّ أنّها كانت تخيفه. حين تُوفّي لم تشعر بالأسى بالرغم من أنّه لم يُظهر يوماً أيّاً من تصرّفات الرجل المروّع التي كانت تصوّرها لي والدتي.
كبرت على هذا النحو وشاهدتها تلوّح براية حقوق النساء صارخةً بأعلى صوتها ولمن يريد أن يسمع – وخاصة لمن لا يرغب في السماع – أنّه سيأتي يوم نحكم فيه.
تعلّمت في أعرق المدارس على الرغم من هشاشة أحوالنا الاقتصادية. أرادت أمي أن أتلقّى أفضل تعليم ممكن لأتمكّن من الوصول إلى أرفع المراكز. كانت تحلم بأن أصبح وزيرة، ولمَا لا رئيسةً للجمهورية!
من جهتي، لم أكن أطمح إلى هذا الأمر. كانت علاماتي جيّدة لكن ليس أكثر من ذلك. أمّا أحلام والدتي فكانت مرتبطة بي لكنّها لا تعنيني. أنا أردت أن أكون كالآخرين وألعب مع رفاقي وأعيش طفولة عادية.
كنت أشعر بأنّها ليست فخورة بي لكنّها لم تستسلم بل استمرّت في تشجيعي وهي تقول: "ستصلين يوماً ما، سترين." لكنّ المشكلة أنّ الأمر لم يتحقّق أبداً. وشهادة الحقوق التي حصلت عليها لم تساعدني إلاّ في العمل في مكتب كاتب عدل صغير وهذا ما كان يناسبني تماماً.
لقد خيّبت أملها، بشدّة! فلم أكن أبداً تلك الفتاة التي ستغيّر العالم وتُخضع الرجال، بل مجرّد سيّدة عادية...
حين قابلت رينيه وهو شاب طيّب وغير مدّعٍ وطموحه مثل طموحي، عرفت أنّ والدتي لن تقبل به بل ستجده نسخة طبق الأصل عن والدي. وبالرغم من أنّني كنت أكنّ لها الكثير من الاحترام، لم تعجبني رؤيتها للأمور، وتساءلت كم هي قادرة على أن تكون متّسمة بالمكر والنفاق. ولم أتأخّر في التأكّد!
بلا شكّ لم تعجبها عائلة زوجي فهي ليست من مستوانا. خلال حفل الزفاف، لم تتحدّث إلى أحد وبدا عليها أنّها في مأتم، فبالنسبة لها كنت على وشك الموت! لم تخفِ خيبتها على أحد وقد اشتكت للجميع من أنّ الجهود التي بذلتها لم تنفع وقد أقسمت أنّها ستستقبلني بكلّ رحابة صدر حين أُدرك أنّ هذا الزوج هو عائق أمام مستقبلي.
بعدئذٍ، لم أعرف عنها شيئاً وابتعدت لأتلذّذ بطعم السعادة أخيراً مع رجل يحبّني من كلّ قلبه. لم أفهم يوماً فلسفة والدتي فهناك بلا شكّ رجال مروّعون لكن لا يجوز التعميم. كان والدي رجلاً رائعاً وعيبه الوحيد أنّه كان ينكسر لها. فلو كان على عكس ذلك لكانت حياتنا أفضل.
بعد فترة علمت أنّ والدتي مريضة وقد تألّمت لمعرفة أنّها وحيدة فكان عليّ الذهاب لرؤيتها يومياً ورحت أحياناً أمضي الليالي عندها. لقد رفضَت الذهاب إلى المستشفى وفضّلت الراحة في منزلها.
لم تكن فكرة أن أمضي اللّيالي عند والدتي تعجب رينيه إذ راح يسهر معظم الأوقات بمفرده لكنّه تفهّم الوضع وتعامل مع المسألة بصبر بالغ آملاً ألّا يدوم ذلك لفترة طويلة. لقد وعدني بأن يتّصل بوالدتي ليطمئنّ عليها وهذا ما فعله بعد مرور بضعة أيام. كان ذلك عند المساء حين كنت قد غادرت منزلها للتوجّه إلى بيتي. لقد انذهلت بالاتّصال:
- لكنّني في حال ممتازة! لا أفهم سبب سؤالك يا صهري العزيز!
- قالت لي أديل إنّك مريضة ولا تفارقين السرير.
- على الإطلاق! عدت الآن من المسرح. يبدو أنّك لم تفهم الأمر جيّداً!
- لقد مرّ أسبوع وابنتك تجلس تحت قدميك نهاراً وليلاً...
- أبداً! لم أرها منذ فترة طويلة. لقد كلّمتني عبر الهاتف أمس لتعرف ما إذا كنت قد اتّصلت بي.
أقفل زوجي السمّاعة حائراً وبعد لحظات وصلت إلى المنزل. سألني عن حال والدتي فقلت له إنّ وضعها مستقرّ. لاحظت حزناً في عينيه وظننت أنّه متعب. تمنّى لي ليلة سعيدة وخلد إلى النوم.
لم يغمض لرينيه جفن تلك اللّيلة فقرّر توضيح المسألة وطلب موعداً من الطبيب المعالج لوالدتي.
- إنّ السيّدة سلوى على أفضل ما يرام سيّدي.
- أليست مريضة؟
- أنا أتابعها منذ سنوات وأؤكّد لك أنّها لم تكن يوماً في حال أفضل ممّا هي عليه اليوم.
خاب ظنّ زوجي وبدا له واضحاً أنّني كذبت عليه بغية إخفاء خيانة ما. وكيف ألومه؟ فلو كنت مكانه لفكّرت مثله.
من حسن الحظ أنّه قرّر أن يلحق بي ليعرف أين أمضي لياليّ. فشاهدني أدخل في مبنى والدتي وراح ينتظر خروجي. وبعد مرور ساعة فقد صبره وقرع على باب منزل أمي؟ فتحت له متفاجئةً وسعيدة:
- عزيزي، لطف منك أن تأتي. ادخل!
دخل مسرعاً إلى غرفة والدتي فتبعته قلقة. رآها مستلقيةً على سريرها وبالقرب منها طاولة مليئة بالأدوية.
- إذاً يا حماتي العزيزة أنتِ تعانين؟ بالرغم من أنّك أكّدتِ لي أنّك في حالة ممتازة وهذا ما أكّده لي طبيبك أيضاً... كذلك، أصررت على أنّك لم تري زوجتي منذ فترة طويلة...
- نعم، لقد ابتكرت كلّ تلك القصّة وما المشكلة؟ لا أحتمل هذا الرجل! فهو ليس مناسباً لك. فليرحل ويدعنا بسلام!
- كلا، أنتِ من سيرحل من حياتنا ويتركنا بسلام، قال رينيه. لا أريد أن أسمع باسمك بعد الآن ولن أدعك تلحقين الأذى بزوجتي! هيا حبيبتي لنعد إلى منزلنا.
- ستعودين إليّ يا أديل، سترين. إنّه رجل كباقي الرجال.
لن أعود ولن أرغب في سماع تلك الكلمات المؤذية. أريد أمراً وحيداً وهو الابتعاد عن هذه السيدة. لشدّة كرهها للرجال، صار قلب والدتي قاسياً كالحجر ولم تعد قادرة على حبّ أحد ولا حتى ابنتها.
حاورتها بولا جهشان