أمي لَم تمُت!!!

حسبتُ لسنوات عديدة أنّ أمّي ماتَت، إلى حين علِمتُ بالصدفة، أنّها لا تزال على قَيد الحياة! تصوّروا صدمتي حين أدركتُ أنّ التي بكَيتُها وحلِمتُ بها ليلاً وتمنَّيتُ لو أنّها لَم تمُت، هي بالفعل في مكان ما تعيشُ حياتها مع أناس آخَرين. هل كانت لها عائلة جديدة وأولاد ينعمون بحنانها واهتمامها؟ لماذا هي لَم تسأل عنّي ولو مرّة؟ لماذا؟!؟ ماذا فعلتُ لها آنذاك، فقد كنتُ فتاة في الخامسة مِن عمري، والكلّ يشهد أنّني كنتُ هادئة ومُطيعة أقضي وقتي باللعب بصمت؟ وماذا عن أبي، فما الذي فعَلَ لها، وكيف يُطيعُها قلبها أن تتركني معه لو كان إنسانًا بغيضًا يجب تركه؟ لكنّ والدي كان رجُلاً طيّبًا ومُحبًّا، وليس لدَيه خصال سيّئة على الاطلاق.

تساؤلات كثيرة وحزن عميق سكنَت قلبي لِسنوات، لِدرجة أنّني صِرتُ صبيّة كئيبة أخافُ مِن الهجر، ولا أعي قيمتي الذاتيّة بل أخالُ أنّني لستُ جديرة بحبّ أحَد. أجل، هذا ما يحصلُ غالبًا للصغار حين تمتلكُ الأهل الأنانيّة، ويُفكرّون فقط في سعادتهم حتّى لو كان ذلك على حساب أولادهم الذين لَم يطلبوا حتّى أن يولَدوا.

حياتي العاطفيّة كانت معدومة، مع أنّني صرتُ فتاة جميلة وجذّابة ودخَلتُ الجامعة. لَم أجرؤ على الحبّ للأسباب التي ذكرتُها أعلاه، وركّزتُ على أبي الذي لَم يتزوّج مُجدّدًا بعد هجر زوجته له. وقد ساعدَته في تربيتي عمّتي التي لن أشكرها كفاية، إلا أنّ المسكينة أُصيبَت بشلل نصفيّ منعَها طبعًا مِن القيام بأمور كثيرة، وصرتُ أنا مَن يهتمّ بها، وكانت تلك فرصتي لأردّ لها جميلها.

لَم أسأل أحدًا يومًا عن أمّي وأين هي موجودة، بل مشيتُ بالكذبة التي قيلَت لي وادّعَيتُ أنّني صدّقتُهم، فلماذا أُسبّب لهم الأسى؟ على كلّ الأحوال، كان بإمكان أمّي إيجادي، فنحن لَم نُغيّر سكنَنا بل بقينا نعيشُ في البيت نفسه.

ثمّ حدثَت بلبلة واضحة في بيتنا، إذ أنّ عمّتي وأبي وباقي العائلة الكبيرة باتوا وكأنّ مُصيبة هبطَت على رأسهم. لِذا، إضطرِرتُ، كما حصَلَ عندما كنتُ صغيرة، إلى إستراق السمَع لمعرفة ما يجري، لأنّ شيئًا في داخلي قالَ لي إنّ للأمر دخلاً بأمّي. ولَم أكن مُخطئة، فعلِمتُ أنّها اتّخذَت مسكنًا ليس بعيدًا عنّا! عندها إتّفقَ الجميع أنّ عليّ معرفة أنّ والدتي لَم تمُت، الأمر الذي كنتُ أعرفُه منذ سنوات. فبعد أن تفاجأ أبي بمعرفتي بالأمر، سألتُه:

 

ـ لماذا تركَتنا هذه المرأة؟

 

ـ إنّها قصّة طويلة. المهمّ أنّكِ كبرتِ وسطنا ولَم ينقصكِ شيء.

 

ـ ... إلا الأمّ!

 

ـ عمّتكِ أخذَت مكانها، ولا تستطيعين إنكار جهودها معكِ.

 

ـ عمّتي هي ملاك بالفعل وأنا مُمتنّة لها لآخِر أيّامي، ولكلّ باقي العائلة طبعًا. لكن لِما الكذب عليّ طوال حياتي؟ ولماذا هي رحلَت؟

 

ـ لَم أكن مُتّفقًا معها على أمور عديدة.

 

ـ لماذا هي لَم تأخذني معها كما قد تفعل أيّ أمّ لا تستطيع البقاء مع زوجها؟ لماذا لَم تُكافِح مِن أجلي؟

 

ـ لأنّها أمّ سيّئة وحسب، وهكذا أناس موجودون وعليكِ تقبّل ذلك، يا إبنتي.

 

لكنّني لَم أقتنِع بكلام أبي على الاطلاق، فتفسيراته كانت بسيطة أكثر مِن اللازم. لِما لا أسأل صاحبة الشأن بحدّ ذاتها؟ فهي باتَت قريبة منّا وقد علِمتُ مكان سكنها بالتحديد. لكن قَبل أن أقصدها، رحتُ إلى عمّتي لأعطيها فرصة أخيرة لتُخبرَني ما حصَلَ حقًّا. ومع أنّها كانت مفلوجة وكلامها ثقيلاً، فهي استطاعَت القول:

 

ـ إسألي أباكِ.

 

ـ أرجوكِ يا عمّتي... لو لَم أسأل أبي لَما جئتُ إليكِ. أنا أنوي الذهاب إلى التي اسمها أمّي بعد أيّام. أرجوكِ، لا ترغميني على رؤيتها والتكلّم معها، فهذا آخِر شيء أُريدُه. قولي لي ما أحتاج معرفته.

 

ـ أمّكِ مجنونة.

 

ـ كفى كلامًا فارغًا، قلتُ لكِ إنّني أريدُ الحقيقة.

 

ـ هذه الحقيقة، صدّقيني. فأمّكِ إنسانة غير مُتوازنة على الاطلاق، وكانت تأخذ أقراصًا لا تُحصى لتبقى شبه طبيعيّة. وقد كانت تُشكِّل خطرًا واضحًا عليكِ، فأرسلَها أبوكِ إلى مصحّة بعد أن عرضَها على عدَد مِن الأطبّاء.

 

ـ ماذا؟!؟ ولِما لَم تقولوا لي ذلك عندما كنتُ صغيرة؟ ما العار بأن تكون والدتي مريضة عقليًّا أو نفسيًّا؟ كيف حرمتموني منها طوال حياتي؟!؟

 

ـ لأنّ الأطبّاء نصحونا بإبعادكِ عنها. على كلّ الأحوال، هي لَم تعُد تتذكّر أحدًا بعد أن تفاقمَت حالتها. وأهلها وافقوا على قصّة موتها، بعدما تأكّدوا مِن أنّها لن تشفى أبدًا وأنّ لا لزوم لتعذيبكِ.

 

ـ وها هي تسكنُ بجانبنا، أيّ أنّها شفِيَت! كيف تتخلّون عنها هكذا؟!؟ المسكينة!

 

ـ بقيَ أبوكِ يزورُها لوقت طويل، ثمّ رأى أنّ لا جدوى مِن ذلك.

 

ـ بقيتم كلّكم تقولون لي إنّها تخلَّت عنّي بينما أنتم تخلّيتم عنها! أكرهُكم!!!

 

ـ لا تذهبي إليها، فهي حتمًا لا تزال مجنونة وقد تؤذيكِ! لا أدري كيف أنّهم سمحوا لها بالخروج مِن المصّحة، ربّما كانوا بحاجة إلى وضع مريض آخَر مكانها. حذاري يا صغيرتي.

 

كنتُ أغلي غضبًا لهذا الكمّ مِن الغشّ، فعائلتي شرّيرة بالفعل! وماذا عن الذي يدّعي أنّه رجُل طيّب وعادِل؟ فهو ترَكَ زوجته تتعفّن في مصّحة ونسيَها هناك!

لِذا قمتُ ببعض التحريّات، وجمعتُ قوّتي وشجاعتي وقرّرتُ أن أقصد أمّي لأرى إن كانت حقًّا مجنونة أم لا، ولأسمَع منها روايتها الخاصّة بها.

قرَعتُ باب شقّة أمّي في وقت علِمتُ أنّها ستكون موجودة. ففتحَت لي امرأة في العقد الرابع مِن عمرها. علِمتُ أنّها هي مِن الصوَر القليلة التي كانت موجودة لها عندنا. وقفَت والدتي قبالتي مُستغرِبة، لأنّها بالطبع لَم تعرِف أنّني ابنتها الصغيرة التي حُرِمَت مِن رؤيتها لسنوات. في البدء قلتُ لها إنّني أجري استفتاءً لجامعتي فأدخلَتني، وحين جلَسنا سويًّا في صالونها الصغير، أطلعتُها على هويّتي الحقيقيّة بطريقة هادئة وسلِسة. إلا أنّ والدتي نظرَت إليّ بتعجّب وقالَت مُبتسِمة: "يا لَيتني أمّ لصبيّة جميلة ومُهذّبة مثلكِ... لكنّني لستُ مُتزوّجة! يا للطافتكِ!". نظرتُ إلى عَينَيها ووجهها، ووجَدتُ أنّ تلك المرأة كانت بالفعل مُقتنِعة بالذي تقوله! كانت عمّتي على حقّ، فلقد نسيَت والدتي جزءًا كبيرًا مِن حياتها بسبب مرَضها النفسيّ والعلاجات. عندها قلتُ لها إنّني أمزَح معها، وإنّ الموضوع هو قصّة أكتبُها وأرَدتُ معرفة وطأتها على مَن يسمعها. ثمّ طلبتُ الإذن بزيارتها مُجدّدًا، وهي وافقَت بسرور ولَم تنسَ أن تُقدِّم لي قطعة مِن الحلوى. خرجتُ حزينة لكن فرِحة في آنٍ واحِد، فما كان يهمّني الأكثر، هو أنّ أمّي لَم تتركني لأنّها لَم تُحبُّني أو لتهرب مع رجُل ما، بل لأنّها مريضة. رحتُ إلى عمّتي وأخبرتُها ما جرى وهي بدأَت بالصراخ:

 

ـ كيف تذهبين إليها؟!؟ فهي خطيرة جدًّا!

 

ـ كفاكم كذبًا عليّ، فكلّكم كذبتم طوال سنوات ولن أُصدّقكم بعد الآن. المرأة بدَت لي طبيعيّة جدًّا، باستثناء نسيانها مرحلة زواجها وولادتي. على كلّ الأحوال، هي خرجَت مِن المصّحة واستأجرَت شقّة صغيرة، وعلِمتُ منها أنّها تعمَل في سوبر ماركت ليس بعيدًا منّا. أيّ أنّها صارَت مُتعافية! أنا لَم أُخبركِ كي توبّخيني، بل لتعلَمي وغيركِ كَم أنّكم ظلمتموها وظلمتموني! ما بكم؟ إنّها أمّي!!!

 

بدأتُ أزورُ والدتي بانتظام، وأعترفُ أنّني أحبَبتُ تلك الجلسات الجميلة التي كنّا نتكلّم خلالها عن أشياء مُختلِفة. وما أحبَبتُه الأكثر، هو خيالها الواسِع، إذ كنّا نؤلِّف القصص ونضحك عاليًا بعد ذلك. يا لَيتها عادَت قَبل سنوات، فكَم كنتُ بحاجة إليها!

أخبرَت عمّتي أبي عمّا كنتُ أفعلُه، فقال لي يومًا:

 

ـ يا صغيرتي... لا يجب أن ترَي أمّكِ... أنتِ عشتِ حياتكِ مِن دونها، فما النفع الآن؟

 

ـ وهل تظنّ أنّني صبيّة مُتوازِنة نفسيًّا، بعدما اعتقدتُ منذ صغري أنّ أمّي تركَتني؟ على كلّ الأحوال، قد أكون ورثتُ جنونها.

 

ـ لا تقولي ذلك أرجوكِ، فسبب سكوتنا عن مرَضها كان ألا ينشغِل بالكِ على نفسكِ. أنتِ صبيّة مُتوازِنة جدًّا ورائعة. عِديني ألا تزوريها بعد اليوم، إفعلي ذلك مِن أجلي يا صغيرتي.

 

كذبتُ على والدي وأوهمتُه أنّني سأطيعُه، لكنّني كنتُ مُصمِّمة على زيارة والدتي بالرغم منه ومِن أخته. فهما أحدثا ضررًا كافيًا!

وذات يوم، قالَت لي أمّي خلال إحدى زياراتي لها:

 

ـ قلتِ لي في البدء إنّكِ ابنتي.

 

ـ كنتُ أمزَح بالطبع.

 

ـ أجل، أجل... لكنّ الفكرة أعجبَتني... تعالي ندّعي أنّكِ بالفعل ابنتي، فقط عندما تكونين هنا.

 

ـ وأُناديكِ "ماما"؟

 

ـ أجل! ناديني ماما!

 

إمتلأت عَينايَ بالدّمع، فكنتُ أخيرًا سأُكلّمها كأيّ ابنة تُكلِّم أمّها. وبعد ذلك، شعرتُ في كلّ مرّة وكأنّ كلّ الذي مرَرتُ به مِن وحدة وضياع قد اختفى فجأة.

وفي أحَد الأيّام، عرضَت عليّ أمّي أن أبيتَ عندها، لتقرأ لي قصّة قَبل النوم. أحبَبتُ الفكرة، لكنّني رفضتُ بتهذيب عالِمة تمام العِلم أنّ أبي وعمّتي لن يقبلا أبدًا. وفجأةً نظرَت والدتي إليّ بغضب ووقفَت قبالتي تصرخُ وتُهدِّد، فأخذتُ أُهدّئها قدر المُستطاع. جلَسَت والدتي مِن جديد وابتسمَت لي مُعيدةً اقتراحها بأن أبيتَ عندها. رفضتُ ثانيةً واعدة إيّاها بالقدوم في اليوم التالي باكرًا، لكنها أخذَت مِن على طاولة الصالون وعاء زهور ورمَته في وجهي! إستطعتُ تفادي الوعاء، وبدأتُ أتراجَع نحو الباب بينما هي أمسكَت كلّ ما طالَته يداها وصارَت ترميه في اتجاهي. رأيتُ بوضوح الجنون في عَينَيها، فأسرعتُ بفتح الباب، إلا أنّها أمسكَتني بشعري وبدأَت تشدّ به لأبقى داخل البيت وتصرخ:" لن ترحلي، بل أنتِ باقية هنا إلى الأبد!". إستدَرتُ نحوها وعضَّيتُها في يدها حتّى أفلَتَت شعري. بدأتُ أركض نحو البيت مِن دون أن أنظُر ورائي، ورحتُ أبكي في غرفتي مِن كثرة خوفي وخذلاني.

إلا أنّ عمّتي كانت قد رأَت بأيّة حال دخلتُ البيت، فقالَت لي مساءً:

 

ـ أعلَم أنّ الأمر صعب عليكِ يا حبيبتي... لكن عليكِ تقبّل الواقع. أمّكِ ليست على ما يُرام وهي أمّكِ فقط بيولوجيًّا.

 

ـ أنتِ على حقّ، كالعادة. لكن كان عليّ أن أمرّ بهذه التجربة لأقتنِع بالحقيقة، وإلا بقيَ لدَي شكّ. أتعلمين شيئًا يا عمّتي؟ عندما رأيتُ نظرة أمّي لي المليئة بالأذى والجنون، أدرَكتُ أنّها لَم تكن أمّي يومًا. وأدركتُ أنّكِ أنتِ كنتِ أمّي بالفعل. فمهما فعلتُ وأنا صغيرة مِن أشياء أغضبَتكِ، لَم تنظُري يومًا لي هكذا، بل بقيتُ أرى في عَينَيكِ الحبّ.

 

ـ وأنا إعتبَرتُكِ ابنتي حقًّا.

 

بعد ذلك، إرتحتُ نفسيًّا كثيرًا وتغيّرَت نظرتي للحياة والناس. لَم أعُد الفتاة المنبوذة والخائفة مِن المجهول، بل أصبَحتُ صبيّة قوّية وواثقة مِن نفسها.

وبعد فترة ليست بطويلة، علِمنا أنّ أمّي البيولوجيّة أُدخِلَت ثانية إلى المصّحة، بعدما تهجّمَت على زبائن في السوبر ماركت وأذَتهم جسديًّا. المسكينة... إنّها لا تدري ما تفعله.

قصدتُ أخصّائيًّا وسألتُه إن كان ما تُعاني منه أمّي وراثيًّا، وهو أكَّدَ لي العكس. فاستطعتُ قبول عرض زواج مِن شاب مُمتاز، وتقبَّلتُ فكرة الانجاب يومًا مِن دون أن أخاف أن أترك أولادي لاحقًا وأقضي حياتي في مؤسّسة خاصّة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button