أمي الثرثارة

يا لَيتنا نختارُ أهلنا، لكنتُ اختَرتُ أُمًّا أخرى لي. فبالرغم مِن حبّي واحترامي لها، كنتُ أُدركُ أنّها إمرأة شرّيرة بامتياز. فقد كان لها حبّ كبير في خلق الخلافات بين الناس ومشاهدتهم وهم يتشاجرون ويتناكفون. وهي كانت تضحكُ حين يحصلُ ذلك وتقول: "أُنظري إليهم يا ابنتي، أليس المشهد مُمتعًا؟ هاهاها!". وذلك بالرغم مِن مُحاولاتي العديدة لإفهامها أنّ ما تفعله ليس صائبًا ويُسبّب للناس المشاكل، ناهيكَ عن فضح أسرار عليها أن تبقى طَيّ الكتمان. فوالدتي توحي، لأوّل وهلة، أنّها أهل للثقة، فيفتح لها الناس قلبهم، غير دارين أنّها ستستعملُ تلك المعلومات ضدّهم عندما يحين الوقت المُناسب، أو عندما تشعرُ بالملَل وتودّ أن تتسلّى قليلاً. فالحقيقة أنّ أمّي كانت تفعلُ ذلك مِن دون غاية، بل فقط "للتسلية" ولو كان لها دافع آخر، لكان هناك حلّ لتلك الميول المؤذية.

أبي لَم يُشاطرها حبّها للأذيّة، لكنّه لَم يردعها بل رأى أنّها بذلك تلتهي عنه... وعن علاقاته النسائيّة. وأنا أدركتُ أنّ لأبي حياة موازية، لأنّني بعد أن صرتُ صبيّة بتُّ أعرفُ أنّ صاحبة العطر الذي على ملابس والدي ليست أمّي، أو أحمر الشفاه الذي تركَ آثارًا على قميصه هو لامرأة أخرى. فأمسيتُ ضائعة بين أمّ شرّيرة وأب خائن وإخوة صغار لا يُبالون سوى لدرسهم أو لهوهم. كان على ما يجري أن يتوقّف، لكن كيف؟ فبعد عدّة محاولات باءَت بالفشَل، أدركتُ أنّ أهلي هم كما هم ولا أمل في تغييرهم.

 

إكتشفَت أمّي أخيرًا مُمارسات زوجها، وبعد شجار عنيف استمعتُ إليه مِن خلف الباب، وعدَها بأنّه سيقطع علاقاته مع تلك السيّدات. فأبي لَم يندَم على خيانتها، بل خافَ بعد أن هدّدَته بفضحه لدى مديره في العمَل، لأنّه كان قد أخبرَها أنّه يستفيد جانبيًّا مِن العملاء. كيف فتَح ذلك الرجُل قلبه لها؟ ألا يعرفُ ما بإمكانها فعله؟ وجدتُه غير ذكيّ على الاطلاق ولَم آسَف له، فهو في آخر المطاف قد نالَ جزاءه مهما كانت الوسيلة. وهكذا بقيَت أمّي تُمارس طغيانها عليه بعد أن اكتشفَت كَم مِن السهل كسره، وهو صارَ كالطفل المُطيع بين يدَيها. إضافة إلى ذلك، هو لجأ إليّ آملاً أن أكون حليفة له، فبتُّ أراه أكثر ونخرجُ سويًّا للتبضّع أو للترفيه. شكرتُ والدتي ضُمنًا، فهي مِن دون أن تدري، قرَّبَت بيني وبين أبي.

لكن سرعان ما سئمَت والدتي مِن التنكيل بزوجها، وفتّشَت عن ضحيّة "طازجة" لإشباع حبّها للأذيّة. وكانت تلك الضحيّة جارة جديدة جاءَت وعائلتها للعَيش في المبنى المُقابل. رأيتُهم ينقلون أمتعتهم إلى مسكنهم الجديد، ولاحظتُ طبعًا ذلك الشاب الوسيم والمفتول العضلات الذي ساعَدَ، بسهولة واضحة، أهله على حَمل الطرود. إحمرَّ وجهي حين نظَرَ إلى شرفتنا حيث كنتُ واقفة وابتسَمَ لي. وبلحظة، صارَ جواد محوَر تفكيري وأحلامي. لكنّني لَم أكن أعلَم حينها أنّ أمّي رأَت في هؤلاء الناس سلوى جديدة وفرصة لتطبيق مُخطّطاتها البشعة.

وهكذا جمعَت أمّي "فرقتها"، أيّ عددًا مِن النساء اللواتي ارتأينَ أنّ مِن الأفضل التواجد في صفوف والدتي مِن أن يكُنَّ في الجانب الآخَر، أي جانب الضحايا. وهي أوصَتهنّ بِجمَع كلّ ما يوجد مِن أخبار حول جيراننا الجدد. لكن ليس أيّ أخبار، بل تلك التي لا يجب أن يعرفها أحد. ولحسن الصدَف، كنتُ ذلك اليوم في البيت، بعد أن أصابَتني الإنفلونزا، فلَم أقصد الجامعة بل جلستُ في سريري طوال الوقت... إلا حين رحتُ المطبخ لأجلبَ كوبًا مِن الماء، وسمعتُ أمّي تُعطي تعليماتها لِـ"فرقتها". شعرتُ بنار تجتاحُ جسدي مِن رأسي إلى أسفل قدمَي، فلَن أتركَ أمّي تؤذي جواد وعائلته! كفى شرًّا وتخطيطاً!

حين تحسّنَت حالتي قليلاً، رحتُ أدقّ باب جيراننا الجدد بحجّة استقبالهم في الحَي. أدخلَتني الأم وقدّمَت لي العصير والكيك وشكرَتني على لياقتي. لَم أرَ جواد، فهو كان في جامعته وأسفتُ لذلك. لكنّني ارتعبتُ حين قالَت لي المرأة:

 

ـ سأزورُ أمّكِ قريبًا وسأُثني على تربيتها الحسنة لكِ. آه... لو كانت لي ابنة لأردتُها مُهذّبة وجميلة مثلكِ.

 

ـ لا! لا تزوري أمّي، أرجوكِ سيّدتي!

 

ـ ولِما لا؟ ما الأمر يا حبيبتي، فلقد أصفرَّ وجهُكِ فجأة.

 

ـ إسمعي ما أقولُه لكِ أرجوكِ، فلا يجب أن تطأ قدماكِ بيتنا أبدًا... وإن استَطعتم، إرحلوا مِن هنا!

 

ـ حسبتُكِ صبية لائقة!

 

ـ إفهميني... أمّي... يا إلهي، كيف أقولُ تلك الأمور عن التي أعطَتني الحياة؟ أمّي مؤذية للغاية وتُحبّ خلق الخلافات بين الجيران.

 

ـ إنّها المرّة الأولى التي أسمعُ فيها إبنة تشوّهُ سُمعة أمّها! عودي إلى بيتكِ، فلقد انتهَت الزيارة. وأسحَبُ ما قلتُه عن أمنيتي بأن تكون لي ابنة مثلكِ!

 

طردَتني أمّ جواد لكنّني لَم أغضَب، فكنتُ قد نبّهتُها مِن الذي قد يحصل لها، أيّ أنّها باتَت مسؤولة عن مصيرها. لكن مِن جانب آخر، هي ستُخبرُ ابنها عنّي وسيكرهُني ويشمئزّ منّي. وإن يكن! فنحن لَم نتبادَل سوى نظرات وابتسامة!

عدتُ إلى البيت مُرتاحة الضمير ونسيتُ أمر هؤلاء الناس... إلى حين أوقفَني يومًا جواد وأنا عائدة مِن الدكّان. أمسكَني مِن ذراعي وسحبَني جانبًا قائلاً:

 

ـ هل صحيح أنّكِ جئتِ بيتنا وحذّرتِ أمّي مِن والدتكِ؟ هل فعلتِ ذلك؟ ولماذا؟

 

ـ أجل، كلّ ذلك صحيح ولَم أُبالِغ بتحذيري... لكنّ والدتكَ طردَتني مِن بيتكم... إسمَع يا جواد، سيأتي يوم وتندمون أنّكم لَم تستمعوا إليّ. أعرفُ ما تظنّون عنّي، أيّ أنّني ابنة عقوقة، لكنّني فعلتُ ذلك بسبب... إنسَ الموضوع.

 

إعتقدتُ أنّ المسألة انتهَت عند ذلك الحدّ، إلا أنّ أمّ جواد، وبالرغم مِن تحذيراتي لها، قصدَت والدتي واشتكَت لها عنّي مُخبرةً إيّاها كلّ ما قلتُه لها. تصوّروا ردّة فعل أمّي! إبنتها تنقلبُ ضدّها؟!؟ ولأنّها إمرأة ذكيّة، إستنتجَت أنّ دافعي كان إعجابي بابن جيراننا. لذلك صبَّت كلّ غضبها عليّ، على "الخائنة الصغيرة" كما أسمَتني، وبدأَت حملة لا يتصوّرها عقل: تشويه سُمعتي! فهي بثّت أخبارًا عنّي عبر "فرقتها" مفادها أنّني صبيّة غير متوازنة عقليًّا، وأنّني أتعالج منذ فترة طويلة عند أخصائيّين كبار وقد أوضَع في مصحّة إن لَم أتحسّن. كانت بذلك تنتقمُ منّي وتحمي نفسها مِن الذي أعرفُه عنها. فمَن سيُصدّق فتاة مجنونة؟

ردّة فعل مُحيطنا لَم يطُل، فصارَ الجميع يتفاداني ويتهامس حولي، ورأيتُ في عيون البعض الشفقة والحزن. جواد هو الآخر أسِفَ مِن أجلي فقال لي في أحد الأيّام:

 

ـ أنا آسف لأنّني قسوتُ عليكِ فأنتِ لَم تقصدي الأذيّة.

 

ـ لستُ مجنونة! أمّي هي التي اختلقَت تلك القصّة لمُعاقبتي على تحذيركم منها! صدّقني يا جواد.

 

كان مِن الواضح أنّه لَم يُصدّقني. بدأتُ البكاء أمامه، فاحتارَ بأمره ووضَع ذراعه حول كتفي لمواساتي. ثمّ عدتُ إلى البيت. في اليوم التالي، رأيتُ جواد مرّة أخرى، لكنّه كان مُستاءً كثيرًا، فأمّي خابرَت أمّه طالبةً منها لَجم ابنها عن ابنتها المريضة، زاعمةً أنّها رأته يُقبّلُني بشغف مِن على شرفتها. عندها قلتُ له:

 

ـ أرأيتَ؟ هكذا هي، تكذبُ وترمي الخلاف وتتفرّج على نتيجة أفعالها.

 

ـ قد تكونين على حقّ... فلقد وضعتُ ذراعي حول كتفكِ فقط.

 

ـ أقولُ لكَ إنّها ماكرة. إبتعدوا عنها. شيء آخر: لستُ مجنونة، أقسمُ لكَ!

 

لكنّه مرّة أخرى لَم يُصدّقني، وبقيَت أمّه على تواصل مع أمّي، خاصّة بعدما فهمَت أنّ تحذيري لها كان سببه خلَلي العقليّ وأنّني صبيّة مسكينة. في هذه الأثناء، كانت "فرقة" أمّي قد بحثَت في ماضي تلك العائلة فردًا فردًا، ووجدوا ما بإمكانهم استعماله. أعلَم أنّه مِن الصعب تصديق وجود هكذا أناس، وقد يخالُ القارئ أنّني أُبالغُ، لكنّ الشرّ بالفعل موجود ولا يكون دائمًا بعيدًا عنّا، بل بإمكانه أن يتواجد حولنا ولدى أقرب الناس إلينا. أليس لدى أكبَر المُجرمين أولاد؟

وعلمَت أمّي مِن مُخبِراتها أنّ أمّ جواد هي ابنة رجُل حُكِمَ عليه بالسجن لأنّه سرَقَ أمورًا عديدة مِن بينها منزل بكامله. رأيتُ على وجه أمّي علامات الاكتفاء والفرَح... والشرّ. بعد ذلك، هي دعَت أمّ جواد لقضاء فترة بعد الظهر عندنا، وقضَت المرأتان وقتًا مُمتعًا سويًّا. في اليوم التالي، وقفَت والدتي على الشرفة وبدأَت تصرخُ بأعلى صوتها: "أعيدي لي قلادتي أيّتها السارقة! لا عجَب في أنّكِ سارقة، فأنتِ ابنة أبيكِ!". إختبأتُ في الداخل لكثرة خجَلي وكي لا أسمَع أمّ جواد وهي تُدافع عن نفسها، وسط نظرات باقي السكّان الذين تجمّعوا إمّا في الشارع أو على شرفاتهم. ركضتُ إلى غرفة أمّي حيث تضَع تلك القلادة ووجدتُها مكانها، في علبة مُخمليّة جميلة. فتلك القطعة الذهبيّة هي ذكرى عزيزة جدًّا على قلبها لأنّها كانت لجدّتي رحمها الله، الإنسانة الوحيدة التي أحبَّتها حقًّا أمّي. وبالرغم مِن ثمَن تلك القطعة، رفضَت أمّي بَيعها مرارًا حين مرَرنا بأوضاع ماليّة صعبة. أخذتُ القلادة مِن علبتها وخبّاتُها معي.

في المساء، دخلتُ غرفة والدتي وقلتُ لها:

 

ـ القلادة معي... في مكان آمن. لن أُعيدها لكِ إلا إذا وقفتِ غدًا على الشرفة وقلتِ بأعلى صوتكِ إنّكِ وجدتِها واعتذرتِ مِن أمّ جواد. أقسمُ لكِ إنّني سأبيعُها إن لَم تفعلي، وسأُعطي ثمنها لجارتنا كتعويض لها. مِن أيّ صنف مِن الناس أنتِ؟ أتعرفين شيئًا؟ أنا أخجلُ بكِ، أجل، وأتمنّى لو كانت لي أمّ أخرى، أمّ حنونة تُحبُّ عائلتها والناس. وإن بقيتِ هكذا، فلَن أبكِكِ يوم مماتكِ. للحقيقة، لن يبكيكِ أحد. هؤلاء النساء اللواتِي حولكِ، لا تحبّكِ بل تخافنَ منكِ وستنقضّ عليكِ عند أوّل هفوة منك. كُفِّي عن الأذيّة وخافي ربّكِ الذي هو حتمًّا غاضب منكِ لأقصى درجة، فتلطيخ سُمعة الناس هي خطيئة كبيرة.

 

في اليوم التالي، فعلَت أمّي كما طلبتُ منها، أيّ برّأَت أمّ جواد، لكنّ جيراننا الجُدد فضّلوا ترك الحَيّ والعَيش بعيدًا عن دارنا... كما نصحتُهم أن يفعلوا. لكن بعد ماذا؟ لَم يودّعني جواد، لكنّني أعلَم أنّه فهِمَ أنّني لستُ مجنونة بل كنتُ بالفعل أريدُ تجنيبهم المشاكل.

أصيبَت أمّي بداء خبيث، وخلال علاجها الصعب لَم تجِد أحدًا بالقرب منها سوايَ وإخوَتي، وهي فهمَت أنّ لا أحد يُحبّها بالفعل. حتى أبي لَم يدعمها، وأظنُّ أنّه تمنّى موتها ضمنًا ليتخلّص مِن طغيانها وأذيّتها. لكنّ المرَض غيّرَ والدتي، إلا أنّني لَم أعرِف إن هي أدركَت مدى خطئها أم خافَت مِن الوحدة. كلّ ما أعرفُه هو أنّها لَم تواصل تخطيطها للأذى بعد شفائها بل لَم تعُد تستقبل أحدًا. رأيتُها مرّة أو اثنتَين تُصلّي، لكن بعد ذلك توقّفَت عن مُناجاة ربّها. تأثّرتُ كثيرًا بإشاعة جنوني التي لحِقَت بي لفترة طويلة، وتسبّبَت بفسخ خطوبتي مِن شاب أحبَبتُه. فهو سأَلَ عنّي وقيلَ له إنّني غير متوازنة عقليًّا ففضّلَ تركي. بكيتُ كثيرًا ولمتُ أمّي... وأبي... والناس! لِذا رحتُ أعيشُ عند أقارب لنا في العاصمة لأبدأ حياة جديدة.

أنا اليوم مُتزوّجة وأمّ، ولا أزال أُبقي مسافة بيني وبين أمّي، فأخافُ أن تختلِق المشاكل لي ولِعائلتي، خاصّة أنّها بقيَت تنمّ على الناس مِن وقت لآخر بعد أن ألّفَت "فرقة" جديدة مع منبوذات الحَيّ. فمِن الصعب جدًّا أن يتغيّر الإنسان خاصّة إن هو لَم يكن راغبًا بالتغيير. ليُسامحها الله، لأنّها آذَت عددًا لا يُحصى مِن الناس ومِن بينهم ابنتها، وعليها دفع ثمَن ذلك عاجلاً أم آجلاً.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button