لَم نكتشِف مُشكلة والدتي إلا بعد سنوات، بعد أن عانَينا كثيرًا وكادَ الأمر أن يخربَ حياتنا. فالمسكينة كانت مُصابة بوَهم المرَض، وهو داء نفسيّ يحملُ صاحبه على الإعتقاد بأنّه مُصاب بأمراض عديدة وخطيرة. قد يعتقدُ البعض أنّ هذه المُشكلة هي بسيطة ويُمكن التعايش معها بسهولة، إلا أنّ تفاقمها يُدمِّرُ المُصاب به وكلّ مَن حوله.
أتذكّر أنّ والدتي كانت تعنُّ وتئنُّ وتستلقي لأيّام في فراشها. وكان أبي يجلسُ على حافّة سريرها والهمّ في عَينَيه، ويزورُنا الأطبّاء الواحد تلو الآخر حاملين حقيبتهم معهم. للحقيقة، لصغر سنّي، ظننتُ لفترة أنّ هؤلاء هم أصدقاء العائلة لكثرة تردّدهم إلى منزلنا.
وفي أحد الأيّام، سمعتُ أحد الأطبّاء يقولُ لأبي على حِدة:
ـ ما عساني أفعل؟ الوضع كما ترى لا يتطلَّبُ علاجًا تقليديًّا.
ـ أرجوكَ يا دكتور، وجودكَ مهمّ للغاية فأنا عاجز أمام هذه الأوضاع.
ـ كيف أقولُ لكَ ذلك... إنّكَ تصرفُ مالكَ سدىً على زوجتكَ، وضميري لَم يعُد يسمحُ لي بأخذ أتعابي منكَ. الوداع.
إنتابَني خوفٌ شديد فقد كان ذلك يعني أنّ أمّي مُصابة بداء لا علاج له وأنّها قد تموت! ركضتُ أبكي عند والدي مُردّدةً: "لا أُريدُ أن تموتُ الماما!". طمأنَني أبي بأنّ والدتي لن تموت ووعدَني بجَلب طبيب آخر. رأيتُ في عَينَيه اليأس العميق، وسمعتُه يُطلقُ تنهيدة عميقة فهمتُ معناها لاحقًا.
كنتُ أنتظرُ بترقّب الأيّام التي كانت أمّي فيها مُتعافية، لأنّ أجواء البيت كانت مُشرِقة وكذلك وجه أبي المسكين، لكن سرعان ما كانت والدتي تمسكُ بجزء مِن جسدها وتصرخُ مِن الوجع قبل أن تُسرع إلى فراشها لتغيب لأيّام.
في إحدى المرّات هي نادَتني وأجلَستني بالقرب منها طالبةً منّي التحلّي بالصبر بعد رحيلها "إلى عالم حيث لا ألَم ولا مرَض"، ولتوصيني بالإهتمام بأبي. بدأتُ بالبكاء والصراخ حتى دخَلَ والدي وأخرجَني مِن الغرفة صارخًا في زوجته: "أتركي إبنتنا وشأنها! ألا يكفيكِ ما أمرُّ به؟!؟ إيّاك أن تتلاعبي بشعور فتاة صغيرة!"
لَم أفهَم سبب هكذا قساوة وكرهتُ أبي لفترة، فكيف له أن يُعامل إمرأة مريضة وعلى شفير الموت هكذا؟
بالطبع لَم تمُت أمّي بل جاء لها أبي بطبيب آخر، حتمًا ليُسكتها. هل قرَّرَ والدي في تلك الفترة بالذات أنّ حياته ذاهبة إلى الدمار، وأنّ عليه إيجاد مُتنفّس له؟ لستُ أدري لكنّه وجَدَ يومًا إمرأة أخرى، وصارَ يذهبُ إليها ليشعر بأنّ لدَيه حياة. هل ألومه على خيانة أمّي؟ اليوم أستطيع أن أقول لا، فهو لَم يشأ تركنا وخاصّة أنا، فبقيَ معنا... قدر المستطاع.
وصلَت لأمّي أصداء علاقته مع غيرها يوم كنتُ في العاشرة مِن عمري، وتعالَت الأصوات في غرفة والدَيّ. ركضتُ لأرى ما يحصل وسمعتُ بوضوح ما قيل:
ـ كيف تخونني وأنا مريضة؟!؟
ـ لستِ مريضة بل مجنونة! توسّلتُ إليكِ لترَي طبيبًا نفسيًّا إلا أنّكِ رفضتِ مرارًا. لَم أعُد أتحمّل هذا الوضع! قومي مِن فراشكِ وكوني زوجة وأمًّا طبيعيّة!
ـ آه ه ه... ستقتلُني! أهذا ما تريدُه، أن أموت؟ لا تخف يا عزيزي، فمرضي فتّاك ولن أعيشَ طويلاً. كلّ ما كان عليكَ فعله هو الصّبر قليلاً. أين إبنتي؟ أُريدُ أن أودّعها!
ـ كفاكِ نحيبًا على نفسكِ، فأنتِ لا تشكين مِن شيء بل صحّتكِ أفضل مِن صحّتي، أنا الذي سأموت!
ـ آه ه ه... إنّني أتألّم! الورَم يجتاحَ جسدي بأكمله! أريدُ طبيبًا!
ـ أيّ طبيب تُريدين؟ كلّما جئنا بواحد يقول إنّكِ مُتعافية!
ـ إنّهم أغبياء! هاتِ طبيبًا حقيقيًّا!
ـ لو تقبلين بإجراء صوَر أشعّة وتحاليل دمّ لتأكّدتِ من أنّكِ لستِ مريضة!
ـ أعرفُ جسدي جيّدًا وأقرأ مقالات تخصّ حالتي! إذهب مِن وجهي أيّها الخائن ودَعني أموتُ بسلام!
ـ السبب الوحيد الذي يُبقيني في هذا البيت المشؤوم هو سارة إبنتنا وإلا...
ـ إرحل مِن دون رجعة فألَمي أقوى مِن إمتعاضي منكَ!
إنتظَرَ والدي إلى أن صِرتُ في السادسة عشرة مِن عمري ليهرب مِن عذابه وعَرضَ عليّ مُرافقته. كنتُ قد فهمتُ أنّ أمّي ليست حقًّا مريضة إلا أنّ قلقَها كان حقيقيًّا ولَم تكن تتدلَّع. لِذا دعوتُ لوالدي بالتوفيق، فهو استحقَّ أن يرتاح وحانَ الوقت لأحمل عنه ذلك الحمل الثقيل.
رحيل أبي أراحَ أمّي، فهو كان قد أصبَحَ بمثابة عدوّ لها لا يعترفُ بما تمرُّ به، ووجدَت بي حليفًا لأنّني جارَيتُها عالمةً أنّ لا أحد باستطاعته إقناعها بأنّها تتوهّم. لحسن حظّنا أنّ والدي بقيَ يدفعُ ثمَن الأدوية وأتعاب الأطبّاء قليلو الذمّة منهم الذين كانوا يصفُونها لأمّي. حاولتُ التوفيق بين دراستي والإستيقاظ وسط الليل على صرخة مريضة لَم تكن تشكو مِن شيء سوى من الوهم والوسواس.
مع الوقت، إستطعتُ تأسيس نمَط في البيت يُريحُني وينُظّم نوبات أمّي ليتسنّى لي إكمال درسي بسلام. لكن كيف لي أن أذهَبَ يومًا إلى العمَل وأترك مريضتي لوحدها، أو حتى كيف لي أن أحبَّ وأتزوّج؟ كانت تلك معضلة حقيقيّة! فأنا الأخرى يحقُّ لي أن أحظى بحياة طبيعيّة. لِذا استشرتُ أبي الذي بقيَ يطمئنُّ عليّ ويقومُ تجاهي بواجباته كأب. وهو قال لي:
ـ الحلّ الوحيد، هذا إن بقيَت والدتكِ ترفض أن تتعالج نفسيًّا، هو أخذها إلى مؤسّسة مختصّة لتعيش هناك.
ـ مُستشفى للمجانين؟!؟ أمّي ليست مجنونة!
ـ بلى يا حبيبتي لكن ليس بالمعنى التقليديّ... وهكذا أماكن تُعالج جميع الإضطرابات النفسيّة. أم تُريدين هدر حياتكِ بأكملها؟ فأمّكِ تتحلّى بصحّة مِن حديد وقد تعيش أكثر منّي ومنكِ!
ـ لا أستطيع أن أفعل ذلك بها... لا بدّ أنّ هناك حلاً آخر.
ـ لا أحسدُكِ على موقفكِ يا سارة... أحيانًا أشعرُ بالذنب لأنّني ألقَيتُ الحمل عليكِ... لكن لو بقيتُ مع أمّكِ لحصلَت مُصيبة يومًا. سامحيني.
فتّشتُ على الإنترنت على طبيب نفسيّ بارع، وأخذتُ موعدًا منه وأخبرتُه كلّ ما أعرفُه وكلّ ما يجرى، وهو قال لي:
ـ يُصابُ عادة المرضى بالوهم المرضيّ بسبب مُشكلة صحّيّة حادّة كانوا ضحيّتها وهم صغار أو أحَد أفراد عائلتهم، أو تلقّوا صدمة نفسيّة كبيرة تركَت في قلبهم وعقلهم خوفًا رهيبًا مِن كلّ ما يُمكن أن يحصل لهم. العلاج نفسيّ يكون عادة طويل الأمد وتوصَف للمريض أقراص ضدّ الإكتئاب.
ـ هل مِن أمَل يا دكتور؟
ـ حالة أمّكِ تبدو صعبة وتتطلّب وقتًا طويلاً للغاية والشفاء ليس مضمونًا... هذا إن إقتنعَت بأنّها تشكو مِن إضطراب نفسيّ. عليّ طبعًا مُعاينتها قبل الجزم بشيء. هناك طريقة... أمّكِ لَم تتأثّر برحيل أبيكِ لأنّكِ موجودة. حاولي الضغط عليها بتهديدها بالرّحيل، مَن يدري؟
وهذا ما فعلتُه، فالتهديد أفضَل مِن رميها في المصّحة. ولدى عودتي مِن عند الطبيب، دخلتُ غرفتها وقلتُ لها وهي مُستلقية على السرير:
ـ لدَيّ خبرٌ سارٌ لكِ يا ماما... لقد قُبِلتَ في جامعة أوروبيّة وسيدفعُ أبي كلّ المصاريف.
ـ تُسافرين بعيدًا؟!؟ إنتظري على الأقل أن أموت! فلَم يتبقَّ لي الكثير... أشعرُ بالأورام وهي تكبرُ في داخلي. أنظري، أنظري!
ـ لا أرى شيئًا... قد يظهرُ مرضكِ بوضوح إن أجرَيتِ صوَر أشعّة. سأرحلُ إلى أوروبا. أين شنطتي؟
ـ هؤلاء الأطباء أغبياء، إنّهم يُصرّون على أنّني لا أشكو مِن شيء... لكنّني أعرفُ جسدي أكثر منهم.
ـ أنا راحلة يا ماما.
ـ لا!!! إنّني أُموت!
ـ إسمعي... إن قبِلتِ الذهاب معي إلى طبيب أعرفُه وأن تفعلي ما يطلبُه منكِ... قد أبقى. لكن فقط تحت هذا الشرط.
ـ أيّ طبيب؟
ـ إنّه طبيبّ نفسيّ ومعالِج. لا تُقاطعيني! لا أعني بذلك أنّكِ مجنونة لكنّ جميع الأطبّاء أكّدوا أنّكِ بخير... ماذا لو... وأقول ماذا لو... كنتِ مُخطئة؟ هكذا تستطيعين العَيش مِن دون همّ... أتذكرين يا ماما كَم كنتِ فرحة في ما مضى وتضحكين وتسمتعين بالحياة؟ اليوم تقضين كلّ وقتكِ في السرير. لن أُسافر إن فعلتِ ما أطلبُه منكِ، أعدُكِ بذلك. كلّ ما عليكِ فعله هو الخضوع لجلسات تكلّم مع الطبيب وأخذ بعض الأقراص. أم تُفضّلين العَيش لوحدكِ في الفراش. عندها مَن سيهتمُّ بكِ؟
لزِمَني بعض الوقت لإقناع والدتي التي قبِلَت معي بعد أن استوعبَت أنّ الوحدة أبشَع مِن المرَض نفسه، فرافقَتني عند الطبيب النفسيّ وبدأَت تتعالج.
لا أستطيع القول إنّ أمّي تعافَت كليًّا، لكن بعد سنتَين صارَت أكثر هدوءًا وانزاح عنها الخوف العميق الذي خيّمَ فوق رأسها لسنوات طويلة. إستطعتُ أخيرًا إيجاد عمل وتَركها لوحدها معظم النهار، بينما هي تُحضّر لي الطعام وتنتظرُ عودتي بفارغ الصبر. وصارَ أبي يزورُنا باستمرار ويجلسُ مع زوجته ليعود إلى العائلة التي أسّسَها. لا أستطيع بعد التخطيط لحياة عاطفيّة طبيعيّة، ولاحقًا الزواج لكنّني مُتفائلة. فما ذنب أمّي إن كانت في هذه الحالة؟ فهي قبل كلّ شيء ضحيّة.
حاورتها بولا جهشان