كان كل شيء جاهزاً لزفاف رانيا، لكنّ القلق والخوف حلاّ مكان الفرحة. فحول المنزل، كان رجال شرطة بلباسهم المدني مستعدّين للتدخّل. وددت أن يكون ذاك النهار أجمل يوم في حياة ابنتي ولكنّني كنت عن غير قصد، قد جعلتها تدفع ثمن أكبر خطأ اقترفته في حياتي: زواجي بوالدها.
قابلت حبيب قبل ثلاثين عاماً وكان رجلاً وسيماً، مفتول العضلات ويملك سيارة رياضيّة على الموضة يقودها بسرعة في القرية. كان الفتى المرغوب في المنطقة وقد وقعت في غرامه من غير أن أعرف كيف ولمَ. في ذاك الحين، كنت قد تسجّلت في كلية العلوم لأنّني أردت أن أصبح عالمة أحياء، أمّا هو فلم يكان يأبه للعلم أو أي شيئ آخر! ورغم أن والدي رفضا علاقتنا، كنت أقابله بالسر وذلك لأعوام عديدة. بعدها تزوّجنا... وبالسر طبعاً!
لكن في شهر العسل اكتشفت حبيب على حقيقته: فكان رجل بلا قلب، ولم يتزوّجني إلاّ ليحصل على مركز اجتماعي رفيع وليثبت لنفسه أنّه ليس فاشلاً كما يبدو عليه. وبسرعة، صار غذائي اليومي الضرب والإهانات والخيانة... لكنه كان يحرص على عدم لكمي على وجهي، لكي أكون قادرة على الذهاب إلى العمل من غير أن يشك أحد في شيء. في النهاية، كان عليّ تحمّل مسؤولية خياري من دون اللجوء إلى أحد!
ومع أني وجدت وظيفة في أحد المستشفيات لأكسب راتباً، لكن زوجي الماكر سرعان ما كان يأخذه مني بالقوة ويبذّره بلمح البصر. من المؤكد أنني قررت أكثر من مرة تركه، لكنّني حملت برانيا التي صارت بمثابة دواء يلطّف أوجاعي اليومية.
ومع أن حبيب كان كالوحش معي إلا أنه لم يكن يعنّف إبنته ولا ينظر إليها حتى، فبالنسبة إليه لم تكن موجودة. في كل الأحوال، لم يكن يأتي حبيب إلى البيت إلاّ نادراً، إمّا متأخراً عند المساء أو باكراً عند الصباح. وباقي الوقت يمضيه مع أصدقائه من ابناء الشوارع وهم يشربون ويلعبون ويقابلون نساءً بلا حشمة.
بعد مرور عام تقريباً، باع زوجي كل مجوهراتي وأقام علاقة مع نسيبتي التي افترضت أنّها صديقتي المفضلة. لكنّ ذلك لم يؤلمني فقد كنت واثقة بأنّها ستنال نصيبها قريباً من رجل لا يحترم النساء. إلى أن جاء ذلك اليوم...
ففي صباح أحد الأيام، قابلتها في محل السمانة ولم تنجح في إخفاء عينها المعنّفة وهي تمر بالقرب مني هامسة بكل خجل: "أنا آسفة، أنا آسفة".
بعد ذلك باع حبيب المنزل الذي ورثته عن جديّ. ومع بيعه المنزل ضاعت كل الذكريات في برهة! وفي أحد الأيام، قرع رجل الباب وإذ به آت لرؤية المنزل حيث نعيش. فإندهشة وقلت له أنه بكل تأكيد لم يأتي الى العنوان الصحيح، وإذ به يريني الإعلان في الجريدة. طردت الرجل من منزلي وانتظرت قدوم حبيب.
عند رجوعه أخيراً الى المنزل، طلبت من زوجي تفسيراً، فقال إنّه ما عاد يريد المنزل لأنّه يتحضّر للذهاب إلى ألمانيا وإنّه لا يريدني ولا يريد ابنته... وهنا انهار العالم تحت قدميّ!
ولأن مصيري كان إطاعة هذا الرجل، إنتقلت للعيش مع رانيا في شقة صغيرة استأجرتها من المال الذي كنت أجنيه في المستشفى. في هذا الوقت ذهب حبيب إلى أوروبا ولم أسمع أيّ خبر عنه لسنوات طويلة... إلى عشيّة زفاف ابنته. فكان قد علم بلا شك أنّ صهره المستقبلي هو ابن شخصية مهمة وكان قد حان الوقت ليطلب حصّته من الكنز وكأنّه لم يشبع بعد! ففي إحدى الليالي إتصل بي، طلباً مني أن أخبر خطيب إبنتنا أنه يريد مبلغاً كبيراً من المال مقابل إعطائه إبنتنا وهدّد بالتهجّم عليه يوم الزفاف إن لم يحدث ذلك! فقلت له:
- لن تتجرأ على ذلك.
- تقولين هذا وكأنّك لا تعرفين من أنا.
- لن تحصل على شيء ولن تفعل شيئاً! أعدك يا حبيب بأنّك لن تسيء إلينا أكثر مما فعلت! وإن كنت تملك ما يكفي من الذكاء، فلا تفكر حتى في القدوم وإلاّ فستندم!
- هل تهدّدينني؟
- نعم!
أقفلت السمّاعة وأنا أرتجف قلقة. من الصحيح أنني سمحت له بهدم حياتي، لكن حياة ابنتي، أبداً!
عشية الزفاف كان الجميع متوترين لما يمكن أن يفعله ذلك الماكر. ولكن وللمرة الأولى في حياتي، استعنت بعلاقات عائلتي فجاءت الشرطة لتؤمن لنا الحماية.
كنت مستعدة لمواجهة ذاك الوحش! وفجأةً، وبعدما وصل جميع المدعوّين وبدأت السهرة، ظهر حبيب أمامي! كنا قد أصبحنا وحدنا في الحديقة وكنت أعرف أنّ أحداً لن يسمع صراخي بسبب الموسيقى.
- أرأيتِ، لقد جئت فأنا أتمسّك دائماً بوعودي...
- إلاّ بالوعد الذي قطعته في زفافنا. تركت السرّاء لنفسك ومنحتني الضرّاء.
- هل أحضرت المال؟
- كلا ولن تحظى بفلس واحد.
قلت ذلك بصوت هادئ وأنا أنظر مباشرةً في عينيه. نظر إليّ بدوره مدركاً أنّ خوفي قد زال وأنّني ما عدت أخشاه.
- من الأفضل لك أن ترحل لأنّ الشرطة في كل مكان
- بإمكاني قتلكِ الآن!
- لا يهمّني، أنا مستعدة للموت إن كان هذا سيسجنك طيلة حياتك. هيا أطلق النار!
للمرة الأولى في حياتي، رأيت حبيب ضعيفاً. لقد اعتقد بأنّه سيخيفني ويجعلني أتوسّل إليه ليأخذ المال ويرحل بعد إذلالي مرة أخرى. لكنه استدار ورحل من دون أن يقول أية كلمة.
حاورتها بولا جهشان