كان فهد قد تركَني مِن دون مُقدّمة وأنهى بذلك خطوبة دامَت سنة ونصف. فتّشتُ كثيرًا عن السبب المُحتمَل إلا أنّني لَم أجد أيّ مُبرّر لتركه لي. بكيتُ كثيرًا وأمضَيتُ ليالٍ طويلة مِن دون نوم إلى أن تقبّلتُ ما أعتبرَه أهلي "فضيحة". عدتُ إلى حياتي العاديّة بعد أن اضطرِرتُ لتبرير عزوبيّتي لصديقاتي وزملائي في العمل. لكن قلبي كان قد انجرَحَ ووضعتُ ورائي فكرة الزواج مِن أيّ كان.
صبَبتُ اهتمامي على عمَلي طبعًا وعلى القراءة، وهي هواية لا بل شغف لازمَني طوال طفولتي ولاحقًا مُراهقتي، ووجدتُ بذلك سلوة مُفيدة وصرتُ أجلسُ في المقاهي مع كتابي وأشربُ القهوة وآكل الحلوى. إستغربَ روّاد المقهى المُفضّل لدَيَّ وجود صبيّة لوحدها تقرأ، إلا أنّ الجميع باتَ مُعتادًا عليّ.
هل أحداث حياتنا مُرتبطة ببعضها لخلق مسار لا يسعُنا الإبتعاد عنه؟ صِرتُ أؤمِن بتلك النظريّة بعد الذي حصَلَ لي ذات يوم:
كنتُ جالسة إلى طاولة في ذلك المقهى حين جاءَت إمرأتان وجلسَتا بالقرب منّي. حاولتُ جهدي عدَم الإستماع إلى حديثهما، فذلك ليس لائقًا، إلا أنّ إحداهنّ بدأَت تصرخُ بالأخرى:
ـ لماذا لَم تتركيه بعد؟!؟ ماذا تنتظرين؟ إنّه لوغد حقير وتستحقّين أفضل منه بكير.
ـ أعلمُ أنّه يُسيء مُعاملتي لكنّني لا أُحسِن العَيش مِن دونه.
ـ هو لا يستحقّ حتى إسمه... فالفهد مخلوق شجاع وشهم!
عند سماعي لإسم فهد، ركّزتُ على ذلك الحديث مِن باب الفضول، فلَم يكن أبدًا مِن المعقول أنّ المرأتَين تقصدان "فهدي أنا". لكنّني، لغرابة الأمر، كنتُ مُخطئة. فقالَت المُتحدّثة للأخرى:
ـ ألَم يكفِكِ الخبر عن خطوبته لتلك التي إسمها منال؟
عندها ارتعشَ جسدي كلّه، فأنا إسمي منال! هل يُعقَل أن أكون وفهد فعلاً محوَر الحديث؟!؟
أدَرتُ أذنًا صاغية جدًّا نحو الطاولة المُجاورة مُصمّمةً على معرفة المزيد! أجابَت الأخرى:
ـ قد يكون الأمر مجرّد إشاعة، ففهد لن يجرؤ على خطوبة أحد فهو متزوّج بي وأب أولادي.
فهد هو مُتزوّج وله أولاد؟!؟ حتمًا هو ليس الشخص المعنيّ ولا أنا!
لكن سرعان ما غيّرتُ رأيي لدى سماع باقي الحوار:
ـ بلى يجرؤ على ذلك لا بل قامَ بخطوبة فتاة وجدتُها على الفيسبوك ورأيتُ صورًا لها معه... وهي تشبهُ كثيرًا تلك الفتاة الجالسة هناك.
ودلَّت عليَّ بالذات! شعرتُ حينها بوهج إمتلكَ جسدي بكامله وتمنَّيتُ لو انشقَّت الأرض وابتلعَتني لأختفي بلحظة. فبالرّغم مِن أنّني علمتُ لتوّي أنّ فهد مُتزوّج وله أولاد، كانت فكرة كوني "العشيقة" أخطَر بكثير.
أدَرتُ وجهي كي لا تتأكّد السيّدة مِن أنّني التي كانت بالصّوَر مع زوج صديقتها، إلا أنّ حرَكتي هذه خانَتني خاصّة أنّ الدموع بدأَت تنهال ببطء على خدَّيّ.
نشّفتُ عينيَّ بمحرمة ورقيّة، وأخذتُ نفَسًا عميقًا قبل أن أنظرَ مُجدّدًا إلى السيّدتَين اللتَين لَم تكفّان عن التحديق بي. ثمّ أكّدتُ لهنّ بصوت عالٍ: "لَم أكن أعلم... قال لي إنّه عازب".
لماذا قلتُ ذلك في حين كان بإمكاني السكوت على أمل أن تنتهي المسألة مِن تلقاء نفسها؟ لستُ أدري تمامًا. على كلّ الأحوال لَم يتسنَّ لي التفكير بِدوافعي لأنّ الزوجة قامَت مِن مكانها ووقفَت قرب طاولتي لتتمعّن بي، ربمّا لترى لماذا فضّلَني زوجها عليها. عندها قلتُ لها:
ـ لا تخافي، فلقد تركَني أنا الأخرى بعد أن خطبَني مِن أهلي مُدّعيًا أنّه يُحبُّني... ولَم يتكبّد حتى عناء تبرير رحيله. إجلسي مِن فضلكِ.
جلسَت الزوجة ولحِقَت بها صديقتها. سادَ سكوتٌ رهيب قبل أن أُقول:
ـ أرجو منكما عدَم إهانتي وإلا اضطرِرتُ لترك المكان، فلستُ إنسانة سيّئة بل أنا إبنة أناس مُحترمين.
عادَ الصمت التام، الأمر الذي دلَّ على حيرة المرأتَين، فهما لَم تتوقّعا أبدًا أن أكون موجودة في المقهى نفسه.
ثمّ تنَحنحَت الزوجة وقالَت:
ـ يا للموقف الحرِج... للحقيقة لو قال لي أحد إنّني سأجلسُ مع التي سرَقَت زوجي منّي، وبإرادتي وكامل هدوئي، لَما صدّقتُه أبدًا.
ثمّ ابتسمَت وأضافَت: "لستُ أدري لماذا، لكنّني أصدّقُكِ يا آنسة".
لَم تكن صديقتها مِن رأيها واكتفَت بالقول للمُتزوّجة:
ـ قلبكِ الطيّب هو الذي يُسبّبُ لكِ المآسي.
وبدأتُ أخبُر السيّدتَين عن ظروف تعارفي بِفهد، وكيف هو خطبَني ومِن ثمّ تركَني فجأة. وجاءَ دور الزوجة فروَت لي عن زواجها والعائلة التي ألّفَتها مع فهد، والمُعاناة اليوميّة التي تمرّ بها بسبب غياباته وخياناته المُستمرّة. أمّا الصديقة فسألَتني:
ـ عذرًا آنستي لكن لدَيّ سؤال حرِج للغاية لكن مهمّ كثيرًا... هل... هل أصبحتِ حميمة مع فهد؟
ـ يا إلهي، لا! فلقد تربَّيتُ جيّدًا!
ـ إذًا ذلك يُفسّرُ تركه لكِ، فهو حتمًا لَم يُرِد الزواج منكِ بل أراد أن يتسلّى فقط. ولا بدّ من أنّه ملَّ مِن الإنتظار...
ـ وراحَ يُفتّش عن غيري
بكَت الزوجة بصمت بينما امتلكَني غضبٌ شديد. عُدنا وسكَتنا، كلّ منّا غارقةً في أفكارها.
ثمّ سألتُ الزوجة عن سبب تحمّلها خيانات فهد ولماذا لا تتركه، فتحجّجَت بالأولاد إلا أنّها عادَت واعترفَت بأنّها غير قادرة على العَيش مِن دون ما يُؤمّنُه لها زوجها مِن مال وراحة. عندها قلتُ لها:
ـ لو دبّرتُ لكِ عملاً... هل ستجرئين على الرحيل؟
ـ قد أفعل لو ترَكَ لي فهد حضانة أولادي، فلن أرضى بالعَيش مِن دونهم.
ـ أيّ قاضٍ سيُعطي الحضانة لرجل غشّاش وخائن يخطبُ بنات الناس بعد أن يوهمهنّ بأنّه عازب؟
ـ هل أنتِ مستعدّة للشهادة بما فعلَه بكِ فهد؟
ـ وهل مِن انتقام أفضَل؟ قد يُعيدُ لي ذلك شيئًا مِن كرامتي. لكن قد لا تحتاجين لشهادتي في ما يخصّ موضوع الحضانة.
ـ لَم أفهَم قصدكِ.
ـ إليكِ ما سنفعله.
عدتُ إلى البيت وقلبي مليء بالفرَح والحماس. ما أغرب الدنيا! مَن كان ليتصوّر أنّ ذهابي إلى ذلك المقهى بالذات وفي ذلك الوقت بالذات، سيجمعُني بهاتَين السيّدتَين؟ نمتُ في تلك الليلة والبسمة على وجهي، واستَيقظتُ في الصباح وكأنّني إنسانة أخرى. بقيتُ طوال النهار في حالة حماس ممزوجة بشيء مِن الهمّ: ماذا لو لَم تنجَح الخطّة؟ فمِن الواضح أنّ فهد هو إنسان بلا ضمير ولن يخاف بسهولة. كان عليّ المحاولة، فمهما كانت النتيجة وجَبَ عليّ الإنتصار ولو نفسيًّا على الذي أخَذَ عواطفي وكرامتي منّي.
قرابة الخامسة مِن بعد الظهر، تحضّرتُ وقصدتُ العنوان الذي أعطَته لي الزوجة، أي البيت الزوجيّ لخطيبي السابق. هناك كانت الصديقة بانتظاري وتعرّفتُ إلى الأولاد الذين أحبّوني. بعد نصف ساعة، أخذَت الصديقة الأولاد في نزهة طويلة كي لا يكونوا موجودين خلال المواجهة.
ثمّ سمعنا باب المنزل يُفتَح وصوت فهد يقول بفرَح لزوجته: "ها قد عدتُ!". لكنّه كادَ أن يبتلعَ لسانه حين رآني جالسة في صالونه. حاوَلَ استيعاب ما يحصل بسرعة ليُحضّر كذبة مِن كذباته، إلا أنّني سبقتُه:
ـ أجل هذا أنا، خطيبتُكَ السابقة، وأنا جالسة في بيتكَ مع زوجتكَ. لدَينا ما نقوله لكَ. إجلس!
جلَسَ فهد قبالتنا فأكملتُ:
ـ مِن الواضح أنّني لستُ أولى ضحاياكَ ولا آخرهنَّ... لن نستطيع إجباركَ على الكفّ عن التلاعب بمشاعر الفتيات، إلا أنّ بامكاننا حملكَ على التوقّف عن إيذاء زوجتكَ.
ـ أرى أنّكِ تتكلّمين بصيغة الجَمع... برافو... ثنائيّ جميل!
ـ سخريتكَ لن توصلكَ إلى أيّ مكان. إسمع... ستُطلّق زوجتكَ وتترك لها حضانة الأولاد.
ـ ولِما أفعل ذلك؟ فهي زوجة مثاليّة!
وضحِكَ عندما قال تلك الكلمات الأخيرة، الأمر الذي استفزَّ الزوجة التي بقيَت صامتة حتى ذلك الحين، فقالَت:
ـ أنا حتمًا زوجة مثاليّة لكنّكَ، وللأسف، زوجٌ سيّئ للغاية!
إستفزَّ تعليق الزوجة فهد، فصاحَ:
ـ قد أُطلّقكِ لأنّكِ ستُسبّبين لي الإزعاج مِن الآن وصاعدًا، لكن إنسِ أمر الحضانة!
عندها تدخّلتُ قائلة:
ـ إسمَع... إن لَم تُعطِ الحضانة لزوجتكَ فسأعملُ جهدي لتحطيمكَ! لن أسمحَ لكَ بأن تنتصر مُجدّدًا! هل نسيتَ أنّ ابن عمّي صحافيّ في مجلّة معروفة وهو على علاقة مع أقوى محطّات التلفزة؟ فإلى جانب شهادتي في جلسة الحضانة، سأفعلُ جهدي ليعرف الجميع، بمَن فيهم مديركَ وزملاؤكَ في العمل وعملاؤكَ، حقيقتكَ السوداء. ناهيكَ أنّ ذلك سيمنعُكَ حتمًا مِن إيجاد الفتيات والتغرير بهنّ. صدّقني، ليس هناك أسوأ مِن إنتقام إمرأة!
بعد أن طلّقها فهد على مضَض، عمِلَت زوجته معي بعد أن وجدتُ لها وظيفة كسكرتيرة، وهي تعيشُ اليوم مع أولادها عند أهلها. وبالطبع صرنا أعزّ الصديقات! لَم أجِد بعد الشخص المُناسب، لكنّني أعلمُ، بل أنا مُتأكّدة، مِن أنّ الذي جمعَني بزوجة فهد لأُخلّصها مِن عذابها وأسترجع عزّة نفسي، يُحضّرُ لي مُستقبلاً جميلاً.
حاورتها بولا جهشان