أعطَتني العجوز علبة لكي أحفظها معي

كان عملي بسيطاً بحدّ ذاته ويقتصر على تنظيف غرف ذلك الفندق الفخم الذي يتوسّط المدينة. ورغم عدد الغرف التي كانت بعهدتي كنتُ أحبّ عملي أوّلاً بسبب الراتب والإكراميّات وثانياً لأنّني كنتُ أتعرّف إلى أناس كثر وتخلق بيننا أحياناً مودّة لطيفة ومؤقّتة خاصة أنّني أقوم بواجباتي بإخلاق وأمانة.

ومِن كل زبائننا كانت هناك سيّدة أحببتُها كثيراً وأظنّ أنّني لن أقدر أن أنساها أبداً لأنّها كانت إنسانة مميّزة ولأنّها إعتبرَتني صديقة لها ووثِقَت بي إلى أقصى درجة. كانت تلك السيّدة في العقد السابع مِن حياتها وتُدعى هند وكانت ثريّة جداً وتسكن في الفندق بصورة دائمة. ولأنّني كنتُ أراها كل يوم أصبحَت جزءً مِن حياتي على الأقل خلال النهار. ولم أكن أدري مدى ثقة هند بي إلاّ حين أخبرَتني قصّتها وأدخَلتني في حياتها رغماً عنّي. كنتُ أعرفُها منذ أكثر مِن خمس سنوات حين قرّرَت تلك السيّدة أنّه حان الوقت لِمشاركة أسرارها معي وحتى ذلك الحين لم أكن أعلم الكثير عنها لأنّني لم أكن مثل زميلاتي أسأل وأتساءل أو أفتّش بأمتعة الزبائن خلال غيابهم بل كنتُ أحترم خصوصيّات النزلاء وأقوم بعملي كما يُطلَب منّي. وأظنّ أنّ تلك الخصائل هي التي دفَعَت هند إلى القول لي في أحد الأيّام:

 

ـ هل أنتِ سعيدة في عملكِ يا ليلى؟

 

ـ أجل سيّدتي.

 

ـ هذا مهمّ جدّاً... أعني أن يكون المرء سعيد... ألديكِ عائلة؟

 

ـ أجل سيّدتي... لَديّ أمّاً وثلاثة إخوة... أبي توفّى عندما كنتُ صغيرة.

 

ـ لستِ متزوّجة؟

 

ـ كلا... للحقيقة لم أجد الوقت لذلك أو الإنسان المناسب.

 

ـ مع أنّكِ ترَين أناساً كثر هنا.

 

ـ أجل ولكن زبائننا كلّهم ميسورين وأنا فتاة بسيطة...

 

ـ أنتِ فتاة جميلة وذكيّة وأمينة... أنا متأكدّة أنّكِ ستجدين مَن يستحقّكِ.

 

كنتُ قد إستغرَبتُ كثيراً لهذه الأسئلة لأنّ هند لم تبدِ يوماً إهتماماً خاصاً لحياتي ولكنّها كانت تمهّد لإخباري عن نفسها. فتابَعت المرأة:

 

ـ أنا لديّ عائلة أيضاً... عائلة كبيرة... بالطبع ماتَ والدَيّ مِن فترة طويلة وكذلك البعض مِن إخوتي... لدَي ولدَين...

 

ـ حفظهما الله

 

ـ شكراً ليلى... ماتَ أبوهما مِن حوالي العشر سنوات وكان إنساناً طيبّاً عمل طوال حياته ليصبح ثريّاً... جدّاً... ولم يبخل يوماً عليّ وعلى ولدَيه... حاولتُ تربية إبني وإبنتي كما أنا تربّيتُ ولكن كثرة المال أفسدَتهما... وسكنهما الجشع خاصة بعد وفاة والدهما وأرادا كل شيء... صحيح أنّني كنتُ أعلم أنّهما لا يران سوى المنفعة في علاقتهما مع الناس ولكنّني تأمّلتُ أن يكون لي مكانة خاصة في قلبهما... كم أنا وحيدة يا ليلى... أسكن هنا بينما لديّ منزلاً كبيراً في المدينة وآخراً في الجبل... أتعلمين لماذا فضلّتُ العيش بالفندق؟

 


ـ كلا يا سيّدتي.

 

ـ لأنّني أخاف مِن ولدَيّ.


عندما قالت ذلك شعرتُ أيضاً بخوفها لأنّني أدركتُ كم كانت بحاجة لِمَن يسمعها ويعلم بالذي يجري معها حتى أن أختارَت عاملة بسيطة مثلي. لم أشأ مقاطعتها وتابعَت:

 

ـ أجل... أخاف منهما على حياتي الجسديّة والنفسيّة... والسبب هو ما فَعَلَه المرحوم زوجي قبل أن يموت... كَتَبَ لي كل شيء وأظنّه فعل ذلك لأنّه كان يعلم مدى جشع ولدَيه وخاف أن يجرّداني مِن كل شيء أو أن يرمياني... ولكنّه هكذا جعَلَ منّي فريسة لحبّهما المرضّي للمال فأصبحَ هدفهما الوحيد هو أن أموت أو على الأقل أن أفقد عقلي لِيحجزان على جميع أملاكي.

 

وأعترف أنّني عندما سمعتُها تقول ذلك إعتقدتُ أنّ المرأة ليست بكامل عقلها فأيّ أولاد يفعلون ذلك بأمّهم؟ لم أرَ أو أسمع بهذا إلاّ بالروايات والأفلام. ولكنّني كنتُ أحبّ هند لذا أخفيتُ شكوكي بعدم مصداقيتّها وبقيتُ أستمع إلى روايتها:

 

ـ لهذا فضّلتُ المجيء إلى الفندق فعلى الأقل أعلم أنّ لا أحد سيحاول قتلي بدسّ السمّ في طعامي أو شرابي.

 

هنا تأكدّتُ أنّها تهذي فقلتُ لها:

 

ـ لا أظنّ أنّهما ينويان قتلكِ!

 

ـ بلى... أنتِ لا تعرفينهما... كم الساعة الآن؟ آه... حان وقت الدواء... أراكِ في الغد يا ليلى.

 

وخرجتُ مِن غرفتها مهمومة ولكن ليس على سلامتها الجسديّة بل العقليّة وحزنتُ جدّاً أن تكون إمرأة مثلها متجّهة نحو الجنون. ولأوّل مرّة منذ ما بدأتُ العمل في الفندق سألتُ زميلة لي عن هند وبالأخص عن ولدَيها:

 

ـ قولي لي... هل يأتي أحد لزيارة السيّدة هند؟

 

ـ أبداً... مرّة واحدة رأيتُ إبنها وإبنتها عندها ولكن الأجواء لم تكن هادئة.. كانا يصرخان عليها وكانت المسكينة تبكي... لا تظنّي أنّني كنتُ أستمع إليهم... حدث ذلك عندما كنتُ مارّة بالقرب مِن الغرفة...

 

ـ أجل... أجل... وهل عندما كنتِ "مارّة" مِن هناك سمعتِ عمّا كانوا يتحدّثون عنه؟

 


ـ لستُ أكيدة... سمعتُ أجزاء حديث ولكنّ الموضوع كان يدور حول مال ومجوهرات... هذا كل ما أعرفه... لماذا هذه الأسئلة؟

 

ـ مِن دون سبب... فقط فضول عاديّ.

 

ولكن وبسبب عملي ومجيء فصل السائحين نسيتُ ما قالَته لي هند حتى أن طلَبَت منّي أن آتي إليها بالرغم أنّني كنتُ قد نظّفتُ غرفتها قبل ساعتَين أثناء تواجدها في غرفة الطعام لتناول الفطور. وحين دخلتُ طلَبَت منّي أغلاق الباب ورائي والجلوس على كرسيّ قربها. ولو لم أرَ أنّ الموضوع كان جديّاً للغاية لما قبلتُ الجلوس لأنّ ذلك كان منافياً للقوانين. عندها قالت لي:

 

ـ لقد نجحا... ولدَيّ... نجحا بإقناع القاضي بأنّني فقدتُ عقلي...

 

ـ ماذا؟؟؟

 

ـ أجل... ووضعا يدَيهما على كل شيء... ما عدى هذا...


ـ ووقَفَت وتوجّهَت نحو الخزنة الموضوعة في الدولاب وبعد أن فتحَتها أخَرَجَت منها علبة وحَمَلتها معها إلى الكرسيّ حيث كانت. وتابعَت:

 

ـ هذا كل ما تبقّى لي... أريدكِ أن تحتفظي بهذه العلبة معكِ حتى حين أطلبها منكِ...

 

ـ لا! لا! لن آخذ شيئاً!

 

ـ ليلى... أعلم أنّها مسؤوليّة كبيرة ولكنّكِ الإنسانة الوحيدة التي أثق بها... وأعلم أنّ إبني وإبنتي سيريدان هذه العلبة أيضاً ولن أستطيع منعهما... إن أخذوها منّي سأموت مِن الجوع... أهذا ما تريدينه لي؟

 

ـ طبعاً لا... ولكن...

 

ـ أرجوكِ يا ليلى... أنا عجوز ولا أريد أن أُذَلّ خلال الأيّام القليلة المتبقيّة لي.

 

وأخذتُ العلبة منها على مَضَد ووعدتُ نفسي أن أحافظ عليها أكثر مِن حياتي. وكنتُ كلّما أدخل غرفة هند أسألها:"أتريدين العلبة؟" وتجاوبني "لا... ليس الآن... سآخذها بعدما يآتيان ويرحلان.

 

ومضى أكثر مِن شهر على الموضوع حين رأيتُ رجلاً وإمرأة يدخلان الرواق الذي يؤدّي إلى الغرف ويدخلون عند هند وبالطبع إستنتجتُ أنّهما ولدَيها. وعندها فعلتُ ما لم أفعله في حياتي أي ركضتُ ألصق أذني على الباب لأنّني كنت فعلاً خائفة على سلامة تلك السيّدة. وسمعتُهما يسألانها عن "باقي الأغراض" وأصوات أثاث يُقلب وأدراج تُفتح وكنتُ مستعدّة للدخول في أيّة لحظة لو لَزِمَ الأمر. ولكن الأجواء هدأت عندما لم يجدا شيئاً في الغرفة ولا في الخزنة بعدما أجبراها على فتحها.

وحين شعرتُ أنّهما على وشك الخروج ركضتُ أختبئ في أحد الغرف الخالية. ومرّا مِن قربي دون أن يراني وحين تأكّدتُ أنّهما خرجا مِن الفندق ركضتُ أرى هند ووجدتُها تبكي بِحرارة فأخذتُها بين ذراعيّ وعملتُ على تهدأتها. ثم قبّلتُها على جبينها وأدخلتُها السرير وطلبتُ لها فنجاناً مِن الشاي. وحين إطمأنّيتُ عليها عدتُ إلى منزلي وجلبتُ معي العلبة لأسلّمها لِصاحبتها. وحين فتحَتها أرَتني ما بِداخلها: عدد لا بأس به مِن المجوهرات ورزمات مال ومجموعة مِن المكاتيب والصوَر. نظرَت إليّ هند وقالت لي:

 

- أترَين هذه الرسائل؟ هي مِن المرحوم زوجي وتساوي كل محتويات العلبة... كتبَها لي عندما كان لا يزال فقيراً وقرّرَ الرحيل لِيجمع المبلغ الذي سيخوّله الزواج منّي وتأمين حياة أفضل لي... ويا ليتَه بقيَ فقير... كنتُ الآن مع ولدَيّ نتقاسم اللقمة... إسمعي يا ليلى... لا يجلب المال السعادة لأحد... وحده الحب هو القادر على ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button