سألتُ نفسي كثيراً كيف وصَلَت بي الأحداث إلى إيذاء نفسي وبهذا الشكل الفظيع واستنتجتُ أنّ الأمر جاء نتيجة تراكم سنين مِن الاستغلال مِن قِبَل والدَيّ وأخواتي وهيمَنتهم جميعاً على حياتي. فعندما جاءَ الوقت لأخذ قراراً حاسماً في حياتي لم أحسن التفكير لأنّ كل ما كان يهمنّي كان إثبات نفسي وإرادتي. وكما تبيَّن لي لاحقاً كنتُ مخطئة وهذه قصّتي.
أبصرتُ النور بعد أخواتي الثلاثة وبدل أن أصبح الطفلة المدلّلة جعلوا كلّهم منّي خادمتهم الخاصّة. ومنذ نعومة أظافري تعلّمتُ الأشغال المنزليّة والطهو وخاصة الطاعة. فمِن أبي إلى أمّي مروراً بباقي سكّان البيت كلّهم كانوا يجلسون مرتاحين بينما كنتُ أهتمّ بكل شيء لوحدي ما خلقَ عندي نقمة كبيرة وكرَه باتَ يكبر يوماً بعد يوم. وحين بلغتُ سنّ المراهقة كنتُ قد حوّلتُ غضبي كلّه إلى يأس عميق. والشيء الوحيد الذي أعطاني بعض الأمل في حياة مظلمة كحياتي كان وقوعي بغرام ابن جيراننا طلال الذي كان يطّل مِن حين إلى آخر على شرفته ويلوّح لي بيده.
وبالرغم أنّنا لم نتبادل كلمة واحدة كان قلبي يدقّ كلما رأيتُه. وبدأتُ أحيك القصص الخياليّة حيث كنتُ أجد نفسي بين ذراعَيه نتبادل النظرات المليئة بالحب والحنان وأتصوّر نفسي متزوّجة منه أربّي أولادنا وأعيش بعيداً عن واقعي. وكنتُ التي افتعلَت أوّل خطوة حين صادفتُ طلال في الدكّان. فبعد أن ألقَينا التحيّة على بعضنا وتحدّثنا عن الطقس قلتُ له أنّه أجمل بكثير مّما يبدو مِن عن الشرفة فابتسمَ لي وشكَرَني وسألَني عن نفسي. ولكنّني لم أكن قادرة على محادثته مطوّلاً خوفاً مِن أن أتأخّر عن العودة وأجلب لِنفسي اللوم فطلبتُ منه بكل وقاحة أن يعطيني رقم هاتفه لنكمل حديثنا لاحقاً. ولأنّني كنتُ فتاة جميلة وافقَ فوراً ورجعتُ إلى البيت منتصرة. ومنذ تلك اللحظة شعرتُ بقوّة هائلة كبَتُّها كي لا يعلم أحد أنّه أصبحَ لدَيّ منفذاً وتابعتُ حياتي وكأنّ شيئاً لم يكن. وكلّما سنحَت لي الفرصة كنتُ أتّصل بِطلال ونتكلّم ساعات عن أنفسنا وسرعان ما بدأ يشاطرني شعوري.
وبعد سنتَين على هذه النحو وبضعة لقاءات سريّة وقبلات خاطفة أعرَبَ حبيبي عن نيتّه بالارتباط بي رسميّاً. وككل فتاة في هذا الوضع طِرتُ مِن الفرَحَ لأنّني كنتُ سأخرج مِن منزل أهلي وأعيش مع رجل حياتي. وأسرعتُ باطلاع والدَيّ على الخبر السعيد حين فوجئتُ بجواب أمّي:
ـ هذا لن يحصل
ـ لماذا يا ماما؟
ـ لأنّكِ موعودة لِشاب آخر.
ـ موعودة؟ ومنذ متى؟
ـ منذ ما قرّرتُ ذلك!
ـ هذه مشكلتي معكم! تقرّرون كل شيء عنّي ولا تحسبون لي أيّ حساب! طفح كَيلي! منذ ما ولدتُ وتعاملونَني وكأنّني أجيرة عندكم ولكن مِن دون أجر! سأتزوّج مِمَّن أريد!
عندها تدخّلَ أبي وأسكتَني وأمَرَني بالانصياع إلى إرادة أمّي وقال أنّني لن أتزوّجَ يوماً مِن طلال الذي كان وحسب قوله "ولداً لا نفعَ له." وهَرَبتُ إلى الغرفة لأبكي على سجّيتي وبالرغم أنّ والدي كان محقّاً بما قاله عن حبيبي فلم آبه للأمر لأنّني كنتُ جدّ مغرمة به ولا أرى عيوبه التي كانت كثيرة والتي لا تجعل منه زوجاً صالحاً.
وعندما أُتيحَت لي الفرصة أن أكلّمه أخبرتُه بكل شيء فعرَضَ عليّ أن نهرب سويّاً ونتزوّج رغماً عن أنف أهلي. ولكن ما لم أكن أعرفه هو أن والدتي كانت قد كشفَت أمر اتصالاتي السريّة وكانت عندما خرجَت مِن المنزل قد أخذَت الهاتف النقّال معها إلى منزل الجيران وسمِعَتني أتحدّث مع طلال عن زواجنا السريّ. وفور عودتها إلى البيت قرّرَت حَبسي في غرفتي إلى أجَلَ غير مسمّى. وصراخي واستنكاري لم يغيّران شيئاً ووجدتُ نفسي وراء أبواباً مقفلة وحرّاساً عدد.
وبالطبع انشغل بال طلال على غيابي وصمتي وحين حاولَ أن يطرق بابنا للاطمئنان عليّ طَرَده أبي ما أثارَ غضَبي إلى أقصى حدّ. وبعد ذلك تتالَت الأحداث بسرعة إلى درجة أنّني لم أدرك ما كنتُ أفعله. ففي ذات يوم ترَكَني أهلي في البيت مع إحدى أخواتي وذهبوا جميعاً إلى زفاف أحد أقرباءنا. وانتظرت أن تدخل أختي لتستحمّ وذهبتُ إلى المطبخ وفتحتُ خزانة الأدوية والإسعافات الأوليّة. ومسكتُ قنّينة سبيرتو وسكبتُها على شعري وجسدي وأخذتُ نفساً عميقاً وأضرمتُ النار بنفسي بواسطة عود الكبريت. وبِلحظة واحدة اشتعلت كليّاً وشعَرتُ باللهيب وبدأتُ أصرخ بأعلى صوتي. وركضَت إليَّ شقيقتي عارية تماماً وعندما رأَت المشهد الفظيع أسرعَت بِجلب بعض الأغطية مِن غرفة النوم وأخذَت تُخمد النار عنّي. وبعد ثوانٍ حسبتُها ساعات كانت قد أطفأت النار كليّاً. ووقعتُ أرضاً بينما كانت تتصل بالإسعاف وبِباقي العائلة. ونُقِلتُ إلى المشفى وهناك بدأَ عذابي الفعليّ. فكان جسدي قد تغطَّى بالحروق البليغة ولِحسن حظّي لم يتأذَّ وجهي أو شعري. وأخذوا يعالجونَني بعدما أغرقوني بغيبوبة اصطناعيّة لِيجنّبوني الألم الشديد.
وفي هذه الأثناء حاوطَني ذوييّ وتناوبوا على السهر عليّ. وعندما فتحتُ أخيراً عينيَّ ورأيتهم جميعاً بِقربي بدأتُ بالبكاء وقلتُ لهم:
ـ يا ليتكم أرَيتموني حنانكم قبل اليوم... يا ليتكم عاملتموني فعلاً كواحدة منكم... يا ليتكم احترمتموني وأعطيتموني ما حصلتم أنتم عليه... ماما... بابا... أخواتي... أحبّكم كثيراً وانتظرت منكم أن تحبّوني أيضاً... لو فعلتم لما وصَلَت الأمور إلى هنا...
وبكينا سويّاً وأظنّ أنّ رؤيَتي في هذه الحالة قد أيقظَت فيهم الحنان الذي كان مكبوتاً في داخلهم. وبالرغم أنّ طلال عَلِمَ كباقي الناس ما حصَلَ لي فلم يحاول الاطمئنان عليّ بأيّة طريقة واعتقدت فعلاً آنذاك أنّ سبب سكوته نابع مِن خوفه عليّ وحرصه ألاّ يسبّب لي المشاكل وظننتُ أنّه عندما أعود إلى البيت سيعاود التكلّم معي. ولكنّني كنتُ مخطئة فعندما وصلتُ المنزل وأسرعتُ بالاتصال به لأخبره أنّني أصبحتُ بالقرب منه تفاجأتُ بأمّه تقول لي أنّه غير موجود بالرغم أنّني سمعتُ صوته وعرفتُ أنّه واقف بالقرب منها. وحتى عند حدوث ذلك لم أتصوّر أنّ الذي كان يريد أن أهرب معه وأتزوّجه أصبحَ يتفاداني. ولأنّني لم أكن قادرة على الخروج بسبب ضمّاداتي وأوجاعي بدأتُ أنتظر أيّ إشارة منه.
وبعد أسابيع طويلة مِن الانتظار جاءَني الجواب مِن والدته التي دقت بابنا لزيارتنا والاطمئنان عليّ. وعندما رأَتني في الفراش صَرَخَت مِن الخوف وقالت لي:
ـ مِن الجيّد أنّ ذلك حصَلَ لكِ قبل أن يتزوّجكِ ابني!
ـ ماذا؟؟؟ إن فعلتُ هذا فبدافع حبّي له لأنّني لم أتصوّر العيش مِن دونه... أمّا هو فلم يتكرَّم عليّ حتى باتصال هاتفيّ! كيف تقولين لي ذلك بوجهي بدلاً أن تحمدي الله على أنّني لا أزال على قيد الحياة؟ ألا تشعرين بالخجل أو حتى ببعض الذنب نيابة عن طلال؟ لا أريد أن أراكِ! أخرجي!
وخرجَت المرأة ذليلة وبكيتُ كثيراً لأنّني أدركتُ أخيراً أنّني أحببتُ إنساناً معدوم الأخلاق. والغريب في الأمر كلّه أنّ الشاب الذي كنتُ موعودة له والذي لم أكن أعرف حتى اسمه جاء بعد يومَين لزيارتي وجلَسَ بالقرب منّي وأخذَ يسأل عن حالتي وأوجاعي وبعدما شرحتُ له ما أشعر به جسديّاً ونفسيّاً أخذَ يدي وبقيَ يمسك بها حتى أن غادَرَ. وحينها فهمتُ ما معنى الحب. فالحبّ لا يقف عند الشكل الخارجي بل ينطلق أوّلاً مِن مفهوم الإنسانيّة. فذلك الشاب رأى فيّ فتاة تتألم بِسبب حروقها وبِسبب تشويه جسدها إلى الأبد واستطاع مشاركتي آلامي.
وعادَ يوسف لرؤيتي كل يوم وكنّا نتكلّم عن أشياء عديدة ومختلفة ووجدنا أنّنا نفكّر بذات الطريقة ولدَينا أموراً أساسيّة وجوهريّة مشتركة. وسرعان ما بدأتُ أشتاق إليه وأنتظر مجيئه بِفارغ الصبر.
وبعد أشهر على هذا النحو تعلّمتُ كيف أستمتع بأبسط الأمور وعادَ إليّ الأمل مِن جديد. وبعد سنة عُقِدَ قِراننا وسط فرحة عارمة وشعرتُ فعلاً أنّ حياتي أصبحَت كاملة. فلم يعد ينقصني شيء بعدما استعدتُ حبّ عائلتي لي وأصبحَ لي أعظم زوج في العالم. وكل حروقي وتشويهاتي لم تعد تهمنّي مقارنة بالسعادة التي لفَّتني.
حاورتها بولا جهشان