أصرَّت عليّ وكادَت أن تخرب مستقبلي

أرادَتني أوّل ما رأَتني وصمّمَت عليّ ولم يكن ليمنعَها أحداً أو شيئاً. ولم أكن أعلم بعد مدى خطورة رفض إمرأة وتعلّمتُ الدرس جيّداً بعدما دفعتُ الثمَن غالياً. صحيح أنّني كنتُ شاباً وسيماً وجذّاباً ولكنّني لم أكن دارياً بذلك ربّما لأنّني كنتُ لا أزال في العشرين مِن عمري ولأنّني لم أكن أعاشر أناساً كثر بل أبقى في المنزل حين لا أكون في جامعتي. وكنتُ في سَنتي الثانية وأنتظر مرور السنة الثالثة لأنال شهادتي في التسويق حين وجدتُ عملاً كنادل في أحد مقاهي العاصمة ورأيتُها فرصة مناسبة للإختلاط بالناس وجَني بعض المال لأريح أبي مِن أعباء دراستي التي كانت مكلفة.

وكان مالك المقهى مسروراً بي بسبب ثقافتي وتهذيبي بخلاف باقي الموظّفين خاصة أنّ المكان كان يستقبل زبائناً راقيّين. فبَعد أن أعطاني المدير التعليمات اللازمة ودرّبَني أوكلَ لي أفضل الطاولات وأوصاني بأن أكون لطيفاً مع الجميع وأن أتذكرّ دائماً أنّ الزبون ملكاً ولا يجب إزعاله مهما كان السبب.

وبدأتُ العمل بِحماس وأحبَّني الجميع وجاءَتني توصيات كثيرة. وأظنّ أنّ الوضع كان ليستمرّ هكذا بل أن يتحسنّ أكثر بكثير لولا مجيء إبتسام. كانت تلك المرأة في العقد الرابع مِن عمرها وكانت إلى جانب جمالها ثريّة جدّاً ومعتادة منذ أوّل يوم مِن حياتها على الحصول على كل ما أرَدَته. وكانت أيضاً تهوى الشبّان وتفضّلهم على الرجال بسبب شهوتها الكبيرة ورفضها لأن تكبر، فمعهم كانت تشعر بالشباب الدائم. وأختارَت المقهى بالصدفة بينما كانت هي وصديقاتها تفتِشنَ عن مكان جديد لإحتساء القهوى بعدما ملَلَنَ مِن مقهاهنّ المعتاد. وجلسنَ على طاولة بعيدة عن القسم الذي أتواجد به ولم أرَهنّ حتى لكثرة إنشغالي. ولكن هي رأتني فوراً وسألَت النادلَ مَن أكون فأجابَها بأنّني زميل له فطلَبت المدير وقالت له:

 


ـ أريد أن يخدمَني ذلك الشاب بدلاً عن هذا.

 

ـ ولكن يا سيّدتي... يعمل كل نادل في قسمه الخاص.

 

ـ إجلبه إلى هنا إذاً.

 

ـ تستطيعين الإنتقال إلى إحدى الطاولات هناك.

 

ـ أبداً... لن أنتقل إلى أي مكان... سيأتي هو إلى هنا... ألا تعلم مَن أكون؟

 

ـ حاضر سيّدتي.

 

وجاء المدير إليّ وطلبَ منّي أن أخدم تلك السيّدات وألاّ أجادل ففعلتُ كّما أمرَني. وأخذتُ الطلبات بعدما سألَتني إبتسام عن إسمي وعمري وأحوالي وإستدارَت إلى صديقاتها قائلة:

 

ـ سيوفي بالغَرَض.

 

ورغم سماعي لما قالَته لم أبدِ أي ردّة فعل ما أثار فضولها لأنّها توقّعَت أن أسألَها ما تقصده بال" غَرَض." وعندما عدتُ مع القهوى تابعَت أسئلتها لي حول صحّتي وإعتنائي بلياقة بدَني. وحافظتُ على برودة أعصابي وأجبتُها بتهذيب وذهبتُ فوراً إلى المدير لأخبره عن الذي يجري فإبتسمَ وقال:

 

ـ أرى أنّه أصبح لكَ معجبات!

 

ـ أنا هنا لأعمل والمرأة بإمكانها أن تكون أمّي! ما عليّ فعله؟

 

ـ لا تفعل شيء... فهمتُ منها أنّها إمرأة ذات نفوذ... أرجوك ألاّ تسبّب لنا المشاكل... جِد طريقة لطيفة للتخلّص مِنها.

 

ـ سأفعل.

 

وتابعتُ خدمتي لهنّ بطريقة طبيعيّة وعاملتُهنّ كباقي الزبائن ما أثارَ غضبها وإهتمامها بي. فلم أكن أعلم أنّ ذلك النوع مِن النساء يهوى التحدّي والصعوبة ويكره الرجال السهلة. وغادَرت أخيراً مع صديقاتها ونسيتُ أمرها حتى اليوم التالي حين جاءَت لوحدها وجلَست على إحدى طاولاتي. وبدأَت تطلب أشياء كثيرة لا يمكنها أكلها أو شربها فقط لِتراني وتتكلّم معي. وبقيَت تأتي كل يوم حتى أن طفَحَ كيلها منّي وذهبَت إلى المدير وطلَبَت منه رقم هاتفي:

 

ـ ولكن سيّدتي... لا نعطي أرقام الموظّفين إلى الزبائن!

 

ـ لستُ أيّ زبونة... أنا إبنة أخ فريد س... ألا تعرف مَن يكون؟

 

ـ بلى... بالطبع... ولكن...

 

ـ أستطيع إقالتكَ بلحظة... أستطيع إقفال المقهى... ولكنّكَ تستطيع تجنّب كل ذلك بإعطائي ما أريد... وقد أكون كريمة معكَ... كريمة جدّاً.

 

وهكذا أعطاها المدير رقمي وتلقّيتُ أوّل مكالمة منها في المساء نفسه ودهشتُ لسماع صوتها. وطلبتُ منها ألاّ تتصل بي مجدّداً لأنّني لم أكن مهتّماً بالموضوع، فأجابَت:


ـ لقد أعجبتَني وأريد أن نتعرّف إلى بعضنا أكثر... أم لدَيكَ أحداً في حياتكَ؟

 


ـ هذا شأني الخاص سيّدة إبتسام... أنا آسف ولكنّني لا أشعر بأي إنجذاب إليكِ... ربما هو فرق العمر أو طريقتكِ... أحبّ أن تكون المرأة خجولة ومتحفّظة... وإضافة إلى ذلك لا أظنّ أنّنا مِن نفس البيئة... أنا شاب عاديّ ولا أرى لماذا تهتمّين لأمري.

 

ـ كل ما أريده منكَ هو أن نخرج سويّاً بضعة مرّات... لا أنوي الإرتباط معكَ... غريب أمركَ... ما مِن شاب يرفض عرضاً كهذا!

 

ولكنّني بقيتُ مصرّاً على موقفي وأقفلتُ الخط بوجهها. وعادَت إلى المقهى تحاول إستمالَتي مِن جديد ولكنّني إشمأزّيتُ منها إلى أقصى درجة ولم أعد أجيب على حديثها وأكتفي بخدمتها. عندها إنتابها غضب شديد وطلبَت مِن المدير رقم هاتف مالك المقهى. وفي اليوم التالي وفور وصولي إلى عملي طلَبَ المالك أن يراني في مكتبه وحين دخلتُ قال لي مِن دون مقدّمة:

 

ـ لا أطلب منكَ أن تفعل ما لا تريد فعله ولكنّ موقفي حرج جدّاً...

 

ـ ما الأمر سيّدي؟

 

ـ تلك المرأة... إبتسام س... إتصَلت بي وهدّدَتني.

 

ـ وهل هي قويّة إلى هذه الدرجة؟

 

ـ أجل... عمّها مقرّب جداً مِن ذوي المراكز ويموّل مصالحهم... أفهم وضعكَ ولديكَ الحق برفض التعامل مع الزبائن ولكن لِتفادي كارثة عليّ وعلى زملائكَ لا أرى حلاً سوى ترحيلكَ مِن هنا.

 

وأعطوني معاشاً إضافيّاً وطردوني. لم أقل لأهلي عن سبب تركي للعمل بل تحججتُ بأنّني إستقلتُ مِن المقهى لكي أتفرّغ أكثر لِدراستي ولكنّني كنتُ جد كئيباً أسأل نفسي إن كان عليّ قبول عرض تلك المرأة القبيحة. ولكنّ الأمر لم ينتهِ إلى ذلك الحدّ بل فوجئتُ بمكتوب أرسَلَته لي الجامعة لإبلاغي أنّني مطرود بسبب"سلوكي الذي لا يتماشى مع سياسة المؤسّسة التي تتمتّع بخلوقيّات عالية." وحين أرَدتُ مراجعة عميد الكليّة قالوا لي أنّه غير مستعدّ لسماعي أو رؤيتي وأنّ عليّ نسيان الأمر والتفتيش عن مكان آخر لأدرس فيه. وأدركتُ أنّني وقعتُ ضحيّة إمرأة لا تقبل الرفض وأنّ حياتي تأثّرَت إلى أقصى درجة وأنّ عليّ إيجاد حلاً وبأسرع وقت.

وأظنّ أنّ أيّ شاب آخر كان إمّا غرقَ بإكتئاب عميق أو ذهَبَ إلى إبتسام لمصالحتها والرضوخ إلى رغباتها. ولكنّني فضّلتُ مواجهة المشكلة وحلّها. لِذا طلبتُ موعداً مِن السيّد فريد س. عَمّ إبتسام بعد أن أعطيتُ للسكريتيرة إسماً مستعاراً وسبباً مقنعاً أي أنّني إبن رجل أعمال مهمّ آتٍ مِن الخارج. وهكذا ذهبتُ إلى الموعد مرتدياً بذّة جميلة وحين جلستُ مقابل ذلك الرجل المهم قلتُ له فوراً:

 

ـ لستُ مَن أدّعي ولكنّني لم أجد سبيلاً آخراً لأراكَ سيّدي.

 

ورويتُ له القصّة مِن أوّلها وإنتهيتُ بالقول:

 

ـ لا أدري يا سيّدي إن كنتَ ستقبل أن يضيع مستقبلي فقط لأنّني رفضتُ علاقة لم أرغب بها ولأنّ إبنة أخيكَ تستعمل إسمكَ ونفوذكَ للإنتقامها الشخصيّ منّي... إن كنتَ تقبل فَدَعني أرحل الآن.

 

نظرَ إليّ الرجل مطوّلاً وأجاب:

 

ـ صحيح أنّني أحبّ إبتسام كثيراً ولكنّني لا أقبل منها هذا التصرّف... لقد تعِبتُ لأصِل إلى ما أنا عليه اليوم ولَن أدع إمرأة متسلّطة تستعمل إسمي لإرضاء شهواتها وتدمير حياة الناس... أنتَ شجاع جدّاً... ورغم الوسيلة التي إستعملتَها للوصول إليّ لا أستطيع سوى أن أُبدي إعجابي بكَ... أترك إسمكَ الحقيقيّ وعنوانكَ عند السكريتيرة وسنتّصل بكَ.

 

وفي اليوم التالي طُلِبَ منّي هاتفيّاً أن أقصد شركة السيّد فريد وعند وصولي قادوني إلى مكتب مدير الموارد الإنسانيّة الذي قال لي:

 

- ستكمِل سنَتكَ الأخيرة في جامعتكَ القديمة ومِن ثمّ ستعمل عندنا في الشركة. السيّد فريد أوصى بكَ شخصيّاً وقال أنّكَ الموظّف الذي يلزمنا. هذا هو عقد العمل... إقرأه ووقّع عليه.

 

وبالطبع وضَعتُ توقيعي على أسفل العقد. ولم أسمع منِ إبتسام بعد ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button