أثناء حجزي، كان أبي قد قالَ لأمّي إنّني أمّر بحالة نفسيّة صعبة، وإنّني لا أُريدُ التكلّم معها إذ أنّني أُحاولُ اتّخاذ قرار صعب، وهو السفَر معه أو العودة إليها. وهو نصحَها بألا تُصِّر على مُكالمتي، كَي لا تُثير غضبي وتخسَرني إلى الأبد. أضافَ أنّه لا يُريدُني معه خلال سفَره بل يُفضّل أن تأخذَني هي. لِذا سكتَت أمّي على أمَل أن أعودَ إلى صوابي... وإليها. علِمتُ بكلّ ذلك لاحقًا، أيّ بعدما عانَيتُ ما لا يجب أن يُعاني منه أحد.
اليوم الرابع مِن دون طعام، لَم أعُد أقوى على التحرّك. فحين فتَحَ والدي الباب لتزويدي بالماء، كان مِن السهل عليه حَملي ونَقلي... إلى البيت الزوجيّ بعد أن عُقِدَ قراني مِن دون عِلمي. وعندما استفَقتُ، لَم أتعرّف على المكان، لكنّني انشغلتُ بالتهام الطعام الموجود أمامي. وحين شبعتُ أخيرًا، بدأتُ أستوعِب ما يحدث لي، خاصّة عندما دخَلَ مجد! بدأتُ بالصراخ وكأنّني مجنونة، وأمسكتُ بالسكّين الموجود مع الطعام ولوّحتُ به وجهه. خافَ منّي مجد فركَضَ خارجًا بسرعة. بعد دقائق، دخلَت امرأة مُسِنّة وجلسَت بالقرب منّي وقالَت لي بهدوء:
- لا تخافي يا صغيرتي...فمجد ليس شابًّا سيّئًا.
- لا يهمّني! أُريدُ الذهاب إلى أمّي!
- أنتِ زوجته الآن.
- أنتم خطفتموني! لا أُريدُ الزواج! لماذا لا تفهمون ذلك؟!؟ أين أبي؟ أين ذلك السافِل الذي باعَني؟
- لا يجب أن تتكلّمي عن أبيكِ هكذا.
- هو ليس أبًا! هل تعدّينهُ أبًا؟ قولي الحقيقة!
- للحقيقة... لا.
- أتعلمين أنّه تسبَّبَ بموت أختي حين كانت صغيرة؟
- ماذا؟!؟
- أجل، وهو ليس حتّى نادمًا على فعلته! وها هو يبيعُني ليمحي ديونه لأب مجد. على فكرة، ما دُمتم أثرياء، لِما لَم تجِدوا له عروسًا غيري؟ مئة صبيّة تتمنّى الزواج منه!
- صحيح أنّ مجد هو ابن رجُل ثريّ، إلا أنّه... مُميّز.
- ماذا تعنين؟
- ستعرفين بنفسكِ. الآن نامي قليلاً وأعدُكِ بأنّ لا شيء سيحصلُ لكِ.
لا أدري لماذا، إلا أنّني صدّقتُ العجوز، ربّما لأنّها كانت هادئة وبسمتها تبعثُ بالثقة، أو لأنّني كنتُ جدًّا تعِبة. لِذا غصتُ في نوم عميق لأستفيق مذعورة، بعد أن أدركتُ فعليًّا أين أنا وماذا يحدُث لي. لكن أين أمّي ولماذا لَم تسأل عنّي؟ هل لأنّني تركتُها وفضّلتُ أبي عليها؟ عندها تذكّرتُ ما فعلَه والدي بي، فانتابَني غضب شديد وتمنَّيتُ لو أستطيع التعبير له عن كرهي له.
خرجتُ مِن الغرفة وجِلتُ في المكان: كنتُ في بيت كبير للغاية وجميل جدًّا، وكان مِن الواضح أنّ مجد بالفعل مِن عائلة ثريّة. على كلّ الأحوال، ما أردتُه هو الرحيل مهما كان عريسي غنيًّا!
وفجأة ظهَرَ مجد أمامي، وسحبَني جانبًا إلى غرفة أخرى فبدأتُ بالصراخ، لكنّه وضَعَ يده على فمي قائلاً: "لا تصرخي، فلن أؤذيكِ، بل أريدُ فقط التكلّم معكِ". سكتُّ وهو أزالَ يده عن فمي وجلستُ معه على كرسيّ. بقينا صامتَين حتّى قلتُ:
- إعلَم أنّني لن أدعَك تلمسني، فالموت أفضل! والطريقة التي تمَّت بها هذه الزيجة هي غير قانونيّة وسأسجنُكم جميعًا! إلا تلك المرأة المُسنّة اللطيفة طبعًا.
- إنّها جدّتي، والوحيدة التي تُحبُّني بالفعل... أمّا الباقون، فهم مثل أبيكِ.
- ذًا أنتَ تعترف أنّ ما حدَثَ هو فظيع وغير مقبول؟
- أجل، ولَم أكن... لا أعني الإساءة... لَم أكن أُريدُكِ.
- ماذا؟ لكنّكَ زرتَنا وقبِلتَ بالزواج منّي!
- على مضض، صدّقيني.
- وما الذي يجبرُكَ على ذلك؟ هل أنتَ ضعيف الشخصيّة؟!؟
- لا... بل... أُعاني مِن خطب.
- ما هو؟
- خطَب لا يُمكّنُني مِن الزواج.
- لستُ أفهم. لا تنسَ أنّني مُراهقة ولا أعرفُ ما يُمكِّن أو لا يُمكِّن الناس مِن الزواج.
- كيف أقولُ لكِ ذلك... أنا لستُ... حسنًا، سأقولُ لكِ مِمّا أشكو.
في تلك اللحظة دخلَت الجدّة، التي كانت حتمًا تسترِقُ السمَع وراء الباب، إذ أنّها قالَت:
- حفيدي ليس رجُلاً، على الأقلّ عضويًّا، ولهذا قلتُ لكِ إنّ لا شيء سيحصل بينكما جسديًّا.
نظَرَ مجد إلى الأرض مِن شدّة خجله، فتابعَت العجوز:
- لكنّه رجُل حقًا بمواقفه وشخصيّته وطموحاته! لا أحَد يفهمُ ذلك إلا أنا... كلّهم يحتقرونه. لِذا قرّرَ أبوه، أي ابني، أن يُزوّجه لأيّ كان، لإسكات الناس.
- لستُ أيّاً كان!
- أعذريني... قصدتُ لصبيّة ليست مِن طبقتنا ولا تملك الكثير مِن المال... إضافة إلى ذلك، أبوكِ ليس رجُلاً شريفًا بل أنّه يلعَب المَيسر وينصب على الناس.
- يا لخذلاني بأبي! لكنّني أُريدُ أن أُتابع دراستي ودخول الجامعة ومُزاولة مهنة أُحبّها.
- ستفعلين ما تشائين شرط أن تلتزمي الصمت حيال حالة مجد.
غادرَت العجوز مع حفيدها، وبقيتُ لوحدي أُفكِّر بالمُصيبة التي جرّني إليها أبي. للحقيقة، كلّ ما أردتُه كان العودة إلى حياتي السابقة. ومُصيبة مجد لَم تكن مِن شأني، فعليه وأهله حلّ مشاكلهم بعيدًا عنّي. قرّرتُ أن أدّعي القبول لأدرس في تلك الأثناء طريقة للخروج مِن ذلك المأزق.
في الأيّام التي تلَت، جلتُ في المكان جيّدًا وتكلّمتُ مع العاملين فيه. لَم ألتقِ بأب أو أم مجد، بل علِمتُ أنّ البيت هو بيت الجدّة، وأنّ أبوَيه بعَثاه إليها ليتخلّصا مِن عاره. مسكين مجد! ما ذنبه إن كان بيولوجيًّا غير صحيح؟ لكن ما ذنبي أنا أيضًا؟
صرتُ مقربّة مِن الطاهية التي قالَت لي إن لدَيها إبنة في مثل سنّي، وامتلأت عَيناها بالدموع حين هي علِمَت بتفاصيل كيف تمّ زواجي وماذا فعلَه بي أبي. لذلك، هي صارَت تميلُ إليّ وتُعاملُني وكأنّني ابنتها. ويوم طلبتُ منها إستعمال هاتفها، هي احتارَت في أمرها. لكنّني قلتُ لها:
ـ ماذا لو خطَفَ أحدٌ ابنتكِ وأبقاها لأيّام مِن دون طعام؟
ـ يا إلهي، لقتلتُه وشربتُ دماءه!
ـ ماذا لو لَم تعلَمي ما الذي حصَلَ لها وأين هي؟
ـ لأصابَني حتمًا الجنون!
ـ أمّي باتَت هي الأخرى مجنونة بسببي. دعيني أُكلّمها!
ـ قد أفقدُ عمَلي.
ـ لن أقولَ لأحد إنّكِ ساعدتِني، أعدُكِ بذلك.
ـ لستُ أدري... سأفكِّر بالموضوع.
ـ أرجوكِ... لقد خطفوني وزّوجوني، والله وحده يعلَم ما هو مصيري!
ـ حسنًا... خذي هاتفي... تكلّمي لدقيقة واحدة.
ـ ما هو عنوان البيت؟
بعد أقلّ مِن ساعتَين سمِعنا طرقًا قويًّا على باب المدخل، وظهرَت أمّي وعلى وجهها علامات غضب لا يوصَف. ثمّ هي صرخَت عاليًا: "أين ابنتي؟؟؟؟ أجيبوا وإلا أنزلتُ هذا البيت على رأسكم جميعًا!!!". ركضتُ إليها وعانقتُها مُطوّلاً ثمّ هدّأتُ مِن روعها قائلة: "هم أناس طيّبون... لم يؤذِني أحَد". جلسَت أمّي مع الجدّة وأنا ومجد جانبًا بصمت، واستمعَت والدتي إلى العجوز، ثمّ استدارَت نحوي وسألَتني ما الذي أريدُه، فأجبتُها: "أريدُ العودة معكِ يا ماما". خرَجنا بصمت ورأيتُ الدموع في عَينّي الجدّة والخذلان في عَيَني مجد. لَم أنظُر ورائي بل ركضتُ خارجًا.
طلّقَني مجد بعد فترة قصيرة وعادَ كلّ شيء إلى مكانه الصحيح.
رفعَت أمّي دعوى ضدّ أبي بتهمة الخطف والحجز والتزويج القصريّ لقاصِر، فبحثَت الشرطة عنه مِن دون أن تجِده. فهو كان قد سافَرَ بعيدًا بعد أن محا ديونه بفضلي وقبَضَ مبلغًا إضافيًّا لسكوته. صلّيتُ أن ينال ذلك الرجُل جزاه يومًا وسمعَني الله. فلقد تزوّجَ أبي مِن ابنة تاجر كبير في الغربة، وهو رجُل عصابات ذو نفوذ.
بعد سنوات، وبعد أن تزوّجتُ وأنجَبتُ، سمعنا أن والدي قد عادَ إلى البلد بطريقة غير شرعيّة ليتفادى أن يُقبَض عليه. هو أختبأ لدى معارف له ليس فقط مِن الشرطة بل أيضًا مِن حماه، بعد أن نصَبَ عليه وخانَ ابنته. وذات يوم، وُجِدَ والدي مقتولاً في المصعد حيث يسكن. طلقة واحدة كانت كافية لإنهاء حياة رجُل لا أخلاق أو قيَم له.
أقامَ له أهله مأتمًا لتفادي الأقاويل، وحضَرنا المراسيم فقط لنتأكّد مِن أنّه بالفعل مات. فحتّى ذلك الحين، كنتُ أرى في نومي أحلامًا بشعة حيث يأتي فيها والدي ويخطفني مِن جديد. وكنتُ أستفيق صارخة وباكية، فواستني أمّي كثيراً، ومِن ثمّ زوجي. ومع موت ذلك الحقير، إختفَت كوابيسي أخيرًا وصرتُ قادرة على النوم جيّدًا. ماذا سيكون جزاؤه عند الله؟ هذا ليس مِن شأني، فيكفيني أنّه غادَرَ هذه الدنيا ولَم يعُد قادرًا على أذيّتي.
حاورتها بولا جهشان